سقوط سرت في يد حفتر: قصة انقلاب «مُدخليّ»

سقوط سرت في يد حفتر: قصة انقلاب «مُدخليّ»

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ٨ يناير ٢٠٢٠

أعلنت قوات المشير خليفة حفتر، أول من أمس، سيطرتها على مدينة سرت الساحلية وسط البلاد. وعلى عكس المتوقّع، سقطت المدينة من دون قتال كبير وفي ساعات قليلة، وذلك نتيجة انشقاق كتيبة سلفية «مُدخلية» عن قوات حكومة «الوفاق» بعد أن كانت متحالفة معها لأعوام
لطالما شكّلت مدينة سرت جزءاً من خريطة أهداف قوات المشير خليفة حفتر منذ أعوام، من دون أن ينجح في وضع يدها عليها، لكن تحقّق الأمر أخيراً. المدينة التي عانت من حربين سابقتين، أثناء حملة حلف «الناتو» التي استهدفتها عام 2011 وأثناء تحريرها من تنظيم «داعش» عام 2016، سقطت هذه المرة من دون قتال، بل عبر استمالة قسم من الفاعلين داخلها، عسكريين ومدنيين. ربّما كانت سرت أكثر المدن تضرّراً جرّاء القضاء على نظام معمر القذافي؛ إذ أنها مثّلت في ما مضى مركز نفوذ سياسي - قبلي، وكان يتكرّر اسمها باستمرار في خطابات «الزعيم» الذي لجأ إليها في أيامه الأخيرة وقُتل في صحرائها. تُؤوي المدينة جزءاً من قبيلتَي القذاذفة وورفلة، اللتين كانتا من أركان النظام ولهما ولاء مطلق له لا يزال مستمراً حتى اليوم بدرجة كبيرة، وهما اللتان عانتا جرّاء سقوطه من انتقامات دموية وإهانة رمزية لها قيمتها في بيئة مماثلة.
أثّرت تلك الصدمة الأولى على سرت وسكانها، وسهّلت ولادة صدمتها الثانية. عندما دخل تنظيم «داعش» إلى المدينة عام 2015، لم يُقاوَم كثيراً؛ سواء لقلّة السلاح أم لسلبية قاطنيها الذين تعامل بعض أعيانهم مع التنظيم لتخفيف وطأة وجوده بينهم. أراد حفتر حينها التمدّد خارج منطقة نفوذه في شرق البلاد ومحاربة «داعش»، لكن معركته في بنغازي لم تكن قد انتهت بعد، وعلى رغم وعوده بإطلاق عملية تحرير سرت إلا أن شيئاً من هذا لم يحصل. في المقابل، تصدّت مدينة مصراتة للمَهمّة بداية عام 2016، وأطلقت عملية عسكرية تبنّتها حكومة «الوفاق» المتركّزة في طرابلس، سُمّيت «البنيان المرصوص». كان للعملية هدفان: طرد «داعش» الذي بدأ يتمدّد غرباً، وتحويل سرت إلى قاعدة دفاعية متقدّمة ضدّ قوات حفتر. حشدت مصراتة آلاف المقاتلين المنتمين إلى تشكيلات مختلفة، وجلّهم مدنيّون متطوعون، ودفعت بهم إلى سرت، وتلا ذلك دخول الولايات المتحدة على خطّ المعارك بتسيير أكثر من 600 طلعة جوية ودعم المحاربين على الأرض بالمعلومات.
لكن، أثناء سيطرة «داعش» على سرت، وقع حدث مهمّ أثّر لاحقاً في واقع المدينة، وصولاً إلى سقوطها في يد قوات حفتر. منتصف عام 2015، اغتال التنظيم خطيب مسجد يُدعى خالد بن رجب، الذي كان يتزعّم مجموعة سلفية «مدخلية» لها مسجدها الخاص، لرفضه تقديم البيعة والولاء لـ«داعش». لم يرضَ أتباع الشيخ بما حصل وقرّروا الانتقام، لكن كان يعوزهم السلاح والتدريب، فاستقرّ رأيهم على مغادرة المدينة والتجهيز للحرب. لجأ السلفيون إلى زعماء كتائب يشبهونهم في الفكر، خاصّة عبد الرؤوف كارة الذي يرأس «قوة الردع الخاصة»، والتي تحظى بنفوذ واسع في العاصمة طرابلس، كما دعمتهم مجموعات من مصراتة. بعد التدرّب والتسلّح، كوّن مداخلة سرت «الكتيبة 604 مشاة» بزعامة أيمن الزاوي، وشاركوا في الحرب ضدّ «داعش». في نهاية عام 2016، تمّ هزم التنظيم، وخسرت مدينة مصراتة أكثر من 700 مقاتل، فيما جُرح حوالى 3 آلاف آخرين. بعد ذلك، بقي جزء كبير من قوات مصراتة في سرت لتأمينها من عودة «داعش» وزحف قوات حفتر على حدّ سواء، وبدأت بالموازاة عملية إعادة الإعمار وانتخاب مجلس بلدي. لكن، لم يكن ممكناً التعامل مع أهالي المدينة من دون مشاركة منهم، وقد لعب السلفيّون هذا الدور باعتبار أن أغلبهم من أبناء سرت. مع عودة الحياة إلى طبيعتها تدريجياً، توسّعت «الكتيبة 604 مشاة»، وزاد تسليحها وعدد مقاتليها، كما ازداد دورها الأمني أهمية داخل سرت، فصارت تتولى تأمين عدد من المقارّ الرسمية المهمة، وتوفير الحماية الشخصية لعميد البلدية، إضافة إلى سيطرتها على الفرع المحلي لمؤسسة الأوقاف. لعبت الكتيبة أيضاً أدواراً خارج المدينة، أبرزها القتال ضدّ قوات مدينة ترهونة في طرابلس نهاية عام 2018 إلى جانب رفاقهم في «قوة الردع الخاصة» وبقية مكوّنات «قوة حماية طرابلس» المنضوية تحت لواء حكومة «الوفاق».
لكن، على رغم كلّ الدعم الذي تلقّته من مدن غرب البلاد، ساهمت الكتيبة «المدخلية»، أول من أمس، في الانقلاب على قوات «الوفاق»، والانخراط في مشروع حفتر. والأغلب أن التنسيق بين حفتر و«مداخلة» سرت كان يتمّ منذ مدّة، وخصوصاً أن «الكتيبة 604 مشاة» لم تعلن عن موقف رسمي من الحرب في طرابلس، على رغم وجود أخبار عن دعم بعض عناصرها لحفتر وإعلان عناصر أخرى دعمها لـ«الوفاق». إذاً، كيف يمكن تفسير التحوّل الفجائي في الولاء؟ يعود الانقلاب في تحالفات الكتيبة السلفية في سرت إلى عدد من العوامل، أولها انتماء أغلب قياداتها إلى قبيلة الفرجان التي ينحدر منها حفتر، وثانيها رفضها هيمنة قوات مصراتة على سرت لأسباب اجتماعية ولمزاحمتها في نيل المكاسب المادية، وثالثها موالاة أغلب «مداخلة» ليبيا لحفتر تماشياً مع الفتاوى التي يصدرها شيوخ سعوديون بأوامر رسمية على رغم وجود استثناءات، ورابعها هو تقديرها أن حفتر سيفوز في الحرب.
تغيير التشكيلات العسكرية ولاءها وتحالفاتها ليس أمراً جديداً في المشهد الليبي، فهو يحصل بصفة متكرّرة ومع فاعلين مختلفين، ويتمّ بناءً على مصالح مادية وسياسية أساساً. لكن، تغيّر الطرف المهيمن في سرت لن يتمّ بسلاسة، فقد كانت هيمنة قوات مصراتة تخفي تناقضات الأطراف المحليّين في المدينة، والتي يمكن أن تعود للانفجار. ويطغى على قبيلتَي القذاذفة وورفلة في سرت الولاء لنظام القذافي، وفي خضمّ احتفالات جزء من الأهالي أول من أمس بقدوم قوات حفتر، كان كثيرون منهم يرفعون شعارات تعود إلى زمن النظام السابق إضافة إلى الأعلام الخضراء وصور القذافي. وبناءً على منطق مصلحي، تخشى القبيلتان سيطرة قبيلة الفرجان على مجريات الأمور في المدينة، بعد أن كانت السلطة متركّزة في أيديهم لعقود. توجد في المدينة أيضاً بعض القبائل الصغيرة التي تعود أصولها إلى مدينة مصراتة، وهي تخشى تعرّضها لعمليات انتقامية وتهجير على غرار ما حصل لنظيرتها في شرق البلاد غداة سيطرة حفتر، كما سيُنظر إليها بعين الريبة باعتبارها تحمل ولاءً لـ«الأعداء». قد تتطوّر الأمور إلى الأسوأ في سرت، في حال انفجرت الخلافات بين أبناء المدينة. لكن، قد ينجح حفتر في احتواء تلك التناقضات، عبر سلسلة من المساومات وتقديم المكاسب والوعود لمختلف القبائل ولأنصار القذافي الأب والابن (سيف الإسلام). ومن مصلحة حفتر نجاح نموذج السيطرة على المدن من دون حرب، بعد أن طَبّقه بنجاح نسبي في أغلب مناطق جنوب غرب البلاد، إذ أن هدفه القادم الأعمّ سيكون تحصيل ولاء «مداخلة» طرابلس مُمثّلين في «قوة الردع الخاصة» التي يقاتل جزء كبير منها إلى جانب حكومة «الوفاق» حالياً.