بريطانيا.. هزيمة مذلّة لـ«المحافظين»: الأزمات تلاحق«رجل أوروبا المريض»

بريطانيا.. هزيمة مذلّة لـ«المحافظين»: الأزمات تلاحق«رجل أوروبا المريض»

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ٢٧ يونيو ٢٠٢٢

فيما تغرق بريطانيا في بداية موجةٍ غير مسبوقة من الإضرابات العماليّة التي تسبّبت، الأسبوع الماضي، في فوضى نقل عارمة، ويتفاقم التضخّم لحظياً، يستمرّ رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، في التمسّك بمنصبه، واعداً بـ«الاستمرار والقتال»، على رغم استقالة رئيس «حزب المحافظين» الحاكم إثر خسارة مذلّة تعرّض لها مرشّحا الحزب في انتخابات تكميلية. ومن الجليّ أن الضغوط تتزايد على جونسون للرحيل، لكن أزمة بريطانيا تبدو أعمق بكثير من أن يعالجها تغيير شخص رئيس الوزراء، إذ تبيّن جميع المؤشرات أن سياسات النخبة الحاكمة، خلال العقود الأخيرة، أوصلت البلاد إلى استحقاق لقب «رجل أوروبا المريض» بامتياز
استقال رئيس «حزب المحافظين» الحاكم، أوليفر داودن، الجمعة، بعدما تكبّد حزبه خسارةً مدوية في انتخابات فرعيّة لملء مقعدَين شاغرين في مجلس العموم البريطاني. وكتب الرئيس المستقيل رسالةً أعرب فيها عن خيبة أمله من الطريقة التي يقود فيها رئيس الوزراء الحالي، بوريس جونسون، شؤون المملكة المتحدة، محذّراً من أن الهزيمة الانتخابية ليست سوى «الأحدث في سلسلة من النتائج السيئة للغاية». وأضافت الاستقالة مزيداً من الضغوط على حكومة اليمين التي تناضل للبقاء، بعدما توالت عليها الفضائح والأزمات، فيما يخشى فريق جونسون من أنها قد تفتح الباب أمام مزيد من الاستقالات الحزبية والوزارية.
وقد استعاد «حزب العمل» (يسار الوسط)، مقعداً كان خسره في الانتخابات الأخيرة عن دائرة ويكفيلد في غرب يوركشاير شمال إنكلترا، بفارق 13 نقطة مئوية، عن مرشّح «المحافظين»، فيما حقّق «الديموقراطيون الليبراليون» (وسط) انتصاراً ساحقاً في المنافسة على مقعد هونيتون وتايفرتون بفارق تجاوز 30 نقطة مئوية عن مرشّح الحزب الحاكم، في منطقة طالما عُدّت تاريخيّاً معقلاً مغلقاً لـ«المحافظين»، في ما اعتبره مراقبون الهزيمة الأقسى لهؤلاء في تاريخ بريطانيا الانتخابي، إذ إن آخر مرّة تولّى فيها هذا المقعد نائب غير محافظ، كانت قبل عامين من صعود الملكة فيكتوريا إلى العرش. كما أنها الهزيمة الثالثة في الانتخابات الفرعية للمحافظين على أيدي «الديموقراطيين الأحرار» خلال الأشهر الـ12 الماضية، وهو ما يشير بوضوح إلى تصويت عقابيّ، يؤكده اتجاه قاعدة «المحافظين» الغاضبة إلى الوسط، لا اليسار. ولا تعكس هذه النتيجة تأييداً متزايداً لأحزاب المعارضة الهزيلة، بقدر ما هي استقطاب في تصويت الناخبين مع «المحافظين» أو ضدّهم تكتيكياً: مقعداً بمقعد، عبر الالتفاف حول أقوى مرشّح ضدّ منتسبي الحزب الحاكم بغض النظر عن اللون الحزبي للمرشّح. وتذكّر هذه الأجواء عتاة «المحافظين» بانتخابات عام 1997 التي خسروها لمصلحة «حزب العمل» بقيادة توني بلير وقتها، بفضل التصويت التكتيكي، والتي أبقتهم خارج السلطة لعقد ونصف عقد تقريباً. وتشير أحدث استطلاعات للرأي، إلى أن الكتلة الوسطيّة واليسارية من الناخبين - «العمل» و«الديموقراطيون الليبراليون» و«الخضر» - تبلغ حوالى 60%. وإذا صوّت هؤلاء بطريقة تكتيكية في انتخابات تجرى غداً، فإن النتائج ستكون مدمّرة لـ«المحافظين».
وبالفعل، فقد تابعت النخبة الحاكمة بقلق هذه الانتخابات الفرعيّة لقراءة توجّهات البريطانيين، في ظلّ عاصفة من أزمات تضرب البلاد وتهدّد بصيف ساخن سياسياً، لا سيما بعدما فتح اتحاد العاملين في القطارات بإضرابه، الأسبوع الماضي، موجةً من الاضطرابات العماليّة يبدو أنها ستتّسع خلال الفترة المقبلة. واعترف العديد من رموز الحزب الحاكم بأن الحكومة الحالية تفقد - وبسرعة - ثقة الناخبين، ممّا يجعل استمرارها مضيعة تامّة للوقت. ونقل عن جافين بارويل، النائب المحافظ السابق وكبير مساعدي رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، قوله إن نتائج الفرعيّات كانت «كارثية» بكل مقياس، وحذّر من أن الحزب «يسير نائماً نحو الهزيمة» ما لم يغيّر مساره. وتحدّث أحد القائمين على إدارة حملة الحزب في الفرعيّات، عن تراجع شديد في معنويات فريقه من المتطوعين أثناء عمليّة التصويت، معتبراً أنّه «لا يمكن تجاهل الخسارة في تيفرتون وهونيتون»، ومشيراً إلى أن «من شأن ذلك التعجيل بكارثة انتخابية، لا يمكن تجنّبها إلّا من خلال استبدال بوريس جونسون بقيادة أفضل يحتاجها حزب المحافظين بشدّة». وتتمتع حكومة جونسون بغالبيّة مريحة في مجلس العموم البريطاني، تمنحها الصلاحية الدستورية للبقاء في السلطة حتى كانون الثاني 2025، ولا يمكن عملياً إزاحتها إلّا من خلال سحب الدعم لها من قِبَل نواب الحزب الحاكم نفسه. وكان عدد من هؤلاء قد تآمر لإطاحة جونسون بداية حزيران الجاري، من خلال اقتراع داخلي، إلّا أن مجموع 59% من نواب الحزب منحوه ثقتهم، ما يعني أماناً نسبياً من انقلاب داخليّ أقلّه حزيران العام المقبل.
جونسون الذي تحدّث إلى الصحافيين من العاصمة الراوندية كيغالي - حيث يحضر قمّة رؤساء حكومات الكومنولث البريطاني -، أقرّ بأن نتائج حزبه في الانتخابات الفرعيّة كانت «ضعيفة»، لكنه تعهّد بـ«الاستمرار» في منصبه، فيما ألقى نائبه، دومينيك راب، باللوم على «عاصفة تامّة تعصف بالبلاد»، مشيراً إلى تفاقم أزمة تكاليف المعيشة وكذلك الظروف غير العادية التي أجريت فيها الانتخابات الفرعية، ومنها العار الذي لحق بالنائبين المحافظَين اللذين كانا يشغلان المقعدَين واضطرا للاستقالة، كما أجواء فقدان الثقة المحيطة بشخص الرئيس جونسون بعد فضيحة الحفلات التي تبيّن أن الرئيس وطاقمه كانوا ينظمونها - ضمن أجواء تفشّي وباء «كوفيد-19» - بينما هم يفرضون على البلاد عزلاً تامّاً. ورفض مكتب رئيس الوزراء في «10 داونينغ ستريت» التكهنات بقطع جونسون رحلته الخارجية التي تستمر أسبوعاً. ونُقل عن مصدر مقرب منه قوله إن «الرئيس ليس في عجلة من أمره ليتعامل مع استقالة رئيس حزبه، ولا في عجلة من أمره للعودة إلى المملكة المتحدة، حيث لديه مهمّات كبيرة يتصدّى لها، وهو يفعل ذلك». لكن المصدر لم يشر إلى طبيعة تلك المهمّات، إذ كان جونسون، في هذه الأثناء، يستيقظ في ضيافة أصدقائه في رواندا الذين وافقوا على استضافة اللاجئين المبعدين من المملكة المتحدة، وكان من المقرَّر أن يسجّل بعد تناول الإفطار معهم، مقطع فيديو للبثّ في الصباح الباكر، ومن ثمّ يتناول الشاي مع الأمير تشارلز في منتصف الصباح، قبل أن يعقد مؤتمراً صحافياً بعد وقت الغداء.
حالة الإنكار التي يعيشها الرئيس ونائبه وحزبه بالمجمل، لا تعكس، بأيّ شكل، الأمور على الأرض حيث تتّسع موجة التململ الشعبي نتيجة للأوضاع المعيشية التي تتّجه وبشكل لحظيّ من السيء إلى الأسوأ. ولوحظ، خلال الأسبوع الماضي، أن عمّال القطارات الذين نفّذوا إضراباً جزئياً - لكن واسعاً -، تسبّب بفوضى نقل عارمة في العاصمة لندن ومنها وإليها، كانوا مع ذلك يحظون بتأييد الجمهور. ومن شبه المؤكد أن عمّال شركات البلاد الكبرى التي كانت تديرها الدولة سابقاً يتّجهون إلى تنفيذ إضرابات مماثلة، ومنها «بريتش إيرويز» (الخطوط البريطانية)، وخدمة البريد الملكي، و«بريتيش تيليكوم» (الاتصالات البريطانية)، وهناك تحضيرات لإضرابات مماثلة قد ينفّذها موظّفو الخدمة المدنية الحكومية واتحاد المعلمين كما نقابة الممرضين، وربّما عمّال هيئة الخدمات الصحية الوطنية، ممّا قد يصيب البلاد بشلل تام خلال هذا الصيف. وعلى رغم غياب قوّة يسارية قادرة على تحويل هذه الاحتجاجات النقابيّة إلى إضراب وطني عام، فإن استمرار غطرسة حكومة النخبة مع تفاقم تآكل الدخول قد تخلق ظروفاً لانفجار كبير.
وينكمش الاقتصاد البريطاني بنسب مقلقة؛ ففي نيسان الماضي، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.3%، بعد انكماش بنسبة 0.1% في آذار. وللمرّة الأولى منذ فترة الإغلاق الكلي في كانون الثاني 2021، سجّلت جميع القطاعات الرئيسة الثلاثة في المملكة المتحدة - الخدمات والإنتاج الصناعي والبناء - انخفاضاً في أحدث البيانات. كما جاءت ثقة المستهلكين في أدنى مستوياتها التاريخيّة على الإطلاق، منذ بدء قياسها في منتصف السبعينيات. وتتوقّع «منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية» أن يكون أداء الاقتصاد البريطاني، العام المقبل، أسوأ من أيّ دولة متقدمة أخرى (نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة صفر في المئة)، وأن يكون التضخّم فيها أعلى من بقيّة جيرانها، لتتأهّل للحصول على مكانة «رجل أوروبا المريض»، للمرّة الثانية في تاريخها المعاصر، بعد فترة السبعينيات السوداء عندما وصفها هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي، قائلاً: «بريطانيا هذه مأساة. لقد غرقت في التسوّل والاقتراض والسرقة، ولم ينقذها سوى النفط المكتشف في بحر الشمال». وبحسب المنظمة نفسها، سيستمرّ التضخّم المرتفع في الضغط على دخول العائلات البريطانية، فيما ترفع الحكومة الضرائب ويرفع بنك إنكلترا أسعار الفائدة. والنتيجة هي مناخ اقتصادي كئيب، وتراجع ملموس في الإنفاق المحلّي نتيجة انخفاض الدخل الحقيقي، مع بيئة تصدير صعبة، وحذر من الشركات في شأن خطط التوسّع والتوظيف.
وتحاول الحكومة تبرير التضخّم بتأثيرات الحرب في أوكرانيا، لكن تلك ليست سوى جزء صغير من مترتبات أزمة بنيوية بدأت منذ انتقال بريطانيا إلى نظام اقتصاد نيوليبرالي اعتمد الخصخصة والتحوّل ضمن تقسيم العمل العالمي إلى مركز دولي للخدمات المالية والسياحية والعقارية - وبشكل أو بآخر تبييض أموال أثرياء العالم. وتجاهلت الحكومات المتعاقبة أساسيات الاقتصاد، من خلال المراهنة على استقرار النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، ولم تتعلّم من تجربة الأزمة المالية العالمية في 2008، وتراجعت الإنتاجية وفرص النموّ مع الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي، واكتفت للتعامل مع الأزمة المالية بطبع أكوام من الجنيهات الاسترلينيّة، وأنفقت مئات الملايين في دعم نظام كييف، ممّا ألحق أضراراً جسيمة بالمالية العامّة، في الوقت الذي استمرّت فيه بفرض سياسات تقشّف قاسية، ورفع العبء الضريبي على المواطنين إلى أعلى مستوياته التاريخية.
وتفتقر النخبة الحاكمة، في ما يظهر، إلى الأفكار - كما الشخصيات - للتعامل مع الحالة المتردّية. وقد يلجأ حزب المحافظين، في النهاية، إلى تعديل أعرافه الداخلية للسماح بإعادة الاقتراع بالثقة على جونسون قبل مرور مهلة الـ12 شهراً، وتقديم رأس الرئيس كأضحية مقابل البقاء في السلطة حتى 2025 ومحاولة لملمة الأوضاع. لكن العارفين بمجريات الأمور يقولون إن الناخبين قد تجاوزوا مسألة جونسون، بل و«المحافظين» والطبقة السياسية برمّتها، وما لم تكن هناك تغييرات جذرية قريبة، فإن بريطانيا - المأساة التي تحدّث عنها كيسنجر ستتكرّر، ولا بحرَ شمال لينقذها هذه المرّة.