سريلانكا ما بعد «الزلزال»: الفوضى تتمدّد

سريلانكا ما بعد «الزلزال»: الفوضى تتمدّد

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ١٢ يوليو ٢٠٢٢

تفاقمت الأزمة الاقتصاديّة في سريلانكا، لتصل، السبت، إلى ذروة جديدة مع خروج احتجاجات حاشدة في العاصمة كولومبو، شارك فيها عشرات الآلاف، ما أجبر الرئيس غوتابايا راجاباكسا على الفرار، وحكومة رانيل ويكريميسينغي على الاستقالة تمهيداً لتشكيل حكومة من جميع الأحزاب والتيارات. ويبدو أن الغرب توصّل إلى قناعة مفادها أن عصر راجاباكسا وسلالته قد انتهى، وأن لا مفرّ من ترتيب قيام نظام بديل موالٍ له، استباقاً لقيام عسكريين - بعضهم قد يكون أقرب إلى محور موسكو - بكين - بتولّي السلطة في بلدٍ نهبته، على مدى عقود، نخبة فاسدة
 هزّت احتجاجات ضخمة سريلانكا، السبت، ونتج منها انهيار الحكومة وفرار الرئيس. ونقلت وكالات الأنباء العالمية مشاهدَ لعشرات الآلاف من المتظاهرين في العاصمة كولومبو، بعضهم اقتحم مقرّ إقامة الرئيس غوتابايا راجاباكسا الذي قيل إنه فرّ قبل ذلك بوقت قصير. وبحلول المساء، استقال رئيس الوزراء، رانيل ويكريميسينغي، لإفساح المجال أمام تشكيل حكومة من جميع الأحزاب، فيما ذكرت تقارير صحافية أن الرئيس وافق بالفعل على استقالة رئيس وزرائه. وكان اجتماع حضره ممثّلون عن كلّ الأحزاب السياسية في البلاد بدعوة من رئيس البرلمان، أوصى باستقالة ويكريميسينغي، وتردّدت فيه دعوات إلى استقالة الرئيس أيضاً.
وتعيش الجزيرة أزمة اقتصادية خانقة سبّبتها عقود من الحروب الأهلية والصراعات الطائفية والعرقية، فيما نُهبَت أموالها من قِبَل طبقة حاكمة فاسدة رهنت مقدّرات البلاد وأصولها، في مقابل الحصول على ديون غربية انتهى معظمها في حسابات خاصّة في سنغافورة ودبي. وتسبّب النقص الحادّ في الوقود، خلال الأسابيع القليلة الماضية، بشلل شبه تامّ في حركة النقل والصيد، وصعوبات جديّة في تجهيز الطعام والزراعة، ولا سيما في ظلّ انقطاعات مديدة للتيار الكهربائي، فيما أصبحت الحياة اليومية في سريلانكا أشبه بصراع من أجل البقاء، وسط تفشّي الفوضى وارتفاع التضخّم إلى أكثر من 80%، وفقدان العملة المحلية 80% من قيمتها، ما ترك حوالى ربع السكّان (من أصل 22 مليون نسمة) يعانون من الجوع وانعدام الأمن الغذائي.
ومع انتشار الدعوات إلى التظاهر، التي قيل إن منظمات المجتمع المدني تولّت توزيعها بدعمٍ من المعارضة، فرضت الشرطة حظر تجوال جماعياً إلى أجل غير مسمّى ليل الجمعة، ناصحةً سكّان كولومبو بالبقاء في منازلهم حفاظاً على سلامتهم. مع هذا، تم رفع الحظر في السادسة من صباح اليوم التالي، في أعقاب ضغوط فرضتها جهات غربية ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ونقابة المحامين، إضافة إلى المنظمات غير الحكوميّة وبعض أحزاب المعارضة الذين دانوا حظر التجوال بوصفه «غير قانوني»، ويمسّ حقّ المواطنين في التظاهر السلمي. وبحسب بيان صادر عن المفوضية الأممية، أعربت هذه الأخيرة عن قلقها من «التوتّرات المتزايدة» في الجزيرة، في أعقاب عدّة مواجهات اتّسمت بالعنف بين مواطنين وأفراد من الشرطة، واستخدام الذخيرة الحيّة من قِبَل الجيش لتفريق الحشود، مشدّدة على ضرورة «ضبط النفس» من جانب الحكومة في ضوء الحقّ في حرية التعبير والتجمّع السلمي لجميع السريلانكيين الذي يمنحه القانون الدولي، وحذّرت من أن قمع الاحتجاجات قد يحوّل الأزمة الاقتصادية إلى أزمة إنسانية مفتوحة. وبحسب مراقبين، فإن البيان المذكور كان «الوجه العلني» لتحذيرات حادّة وُجّهت إلى الأجهزة الأمنية السريلانكية من قِبَل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بضرورة إلغاء حظر التجوال والسماح بالتظاهر. وفور رفع الحظر، بدأ المحتجّون يتجمّعون في أماكن محدّدة في العاصمة، فيما باشرت قوات الشرطة باستخدام خراطيم المياه، وأطلقت الغاز المسيل للدموع، لكنّها ما لبثت أن انسحبت حتى من جوار مقرّ الرئيس الذي يحظى عادةً بحماية أمنية مشدّدة.
ويبدو أن الغرب توصّل إلى قناعة مفادها أن عصر راجاباكسا وسلالته قد انتهى بالفعل، بعدما أفلست الجمهورية ولم تَعُد محاولات الاقتراض من «صندوق النقد الدولي» تجدي في مواجهة كارثة أبعد بكثير من أن تكون مجرّد أزمة قصيرة الأجل. ومع اتّساع الغضب الشعبي ليصبح عابراً للإثنيات والطوائف - بما فيها المجموعة السنهاليّة التي ينتمي إليها الرئيس وكوادر النظام الحاكم - كما الطبقات بعدما تضرّرت مصالح منسوبي الطبقة الوسطى من الموظفين والمعلّمين والعاملين في الموانئ بشكل جذري، فإن حدوث انقلاب عسكري أصبح مسألة وقت، وهو ما حدا بالغرب إلى التدخّل لترتيب قيام نظام بديل موالٍ له، استباقاً لتكرار نموذج بورما واحتمال تولّي عسكريّين - بعضهم قد يكون أقرب إلى محور موسكو - بكين - مقاليد السلطة. وكانت حكومة ويكريميسينغي تسعى جاهدة، منذ تشكيلها قبل أسابيع، إلى الحصول على مساعدة فورية من صندوق النقد والبنك الدوليَّين. لكنّ هذه المؤسسات اشترطت، لإقراض هذا البلد أربعة مليارات دولار أميركي - لا تكفي حتى لسداد احتياجاته من المواد الأساسية لشهرين -، القبول ببرامج «التكيّف الهيكلي» التي تنطوي على خصخصة أصول الدولة بالجملة، وهو ما سيترك الاقتصاد السريلانكي بأكمله وطرائق عيش المواطنين تحت رحمة تقلّبات السوق العالمية. وبحسب منظّمات دولية، فإن من شأن تلك البرامج إغراق أكثرية سكان الجزيرة في دائرة الفقر والعوَز، وإفقاد سريلانكا السيادة على مواردها الأساسيّة.
ويقول خبراء إن أزمة سريلانكا نموذج متكرّر لتقاطع سياسات الإقراض الإغراقي غير المسؤول من جانب الدول الكبرى مع أطماع النخب المحلية الفاسدة التي تولّت إدارة دول وظيفيّة أسّسها الاستعمار الغربي قبل انتقاله إلى طوره الجديد. وقد انتهت بعض هذه التجارب إلى حالات فوضى - يسمّيها الغربيون دولاً فاشلة -، بينما عدد منها يحافظ على تماسك هشّ لا يمكنه الصمود طويلاً في مواجهة أزمات معولَمة.
وكانت سلالة راجاباكسا التي ينحدر منها الرئيس، قد هيمنت على الجزيرة منذ الاستقلال، واتّسمت ممارستها للسلطة بالغطرسة وسوء الإدارة والزبائنيّة والارتهان للأجنبي وتزكية الخلافات الطائفية والعرقية بين السكان، ما تسبّب بنشوب حرب أهلية مدمِّرة بين الأكثرية السنهالية (70% من السكان) وأقليّة التاميل، ذهب ضحيّتها أكثر من 80 ألف مدني، واستمرت على مدى 26 عاماً، قبل أن تُحسَم عسكريّاً في عام 2009، لتنقل السلالة عداوتها نحو الأقليّة المسلمة (8% من السكان فقط). وتبنّت النخبة الحاكمة نموذجاً ليبرالياً لبناء اقتصاد جديد بعد نهاية الحرب، وحاولت التأسيس لقصة نجاح نمرٍ آسيوي آخر، عبر اقتراض مكثّف. وقد تسبّب تدفق مليارات الدَّين على الجزيرة في تحقيق نمو استثنائي للاقتصاد، وتحسّنت حياة الطبقة الوسطى بشكل ملحوظ بفعل الخدمات الاجتماعية، مِن مِثل الرعاية الصحية والتعليم، وارتفع دخل الفرد إلى ضعفَي مثيله في الهند المجاورة. لكنّ الحقيقة - كما هو الحال في غير بلد من بلدان العالم الثالث - هي أن الحكومات المتعاقبة كانت تستدين بأكثر من قدرة الدولة على السداد، وانتهى جزء كبير من الأموال إلى جيوب المتنفّذين الفاسدين، فيما تبخّر النمو الاقتصادي خلال مرحلة تفشي وباء «كوفيد-19» نتيجة تركُّز الاستثمارات في قطاعات غير منتجة تعتمد أساساً على الخدمات والسياحة على نحو تسبّب بتشوّهات بنيوية واختلالات اجتماعية عميقة، علماً أن البلاد تتمتّع بموارد طبيعية غنية، وأراضٍ خصبة، وموقع استراتيجي استثنائي بالقرب من العديد من ممرّات الشحن الأكثر ازدحاماً في العالم.
وتخشى الولايات المتحدة وحلفاؤها من استفادة محور بكين - موسكو من الأزمة للسيطرة على الجزيرة، عبر دعم عسكريين متعاطفين. وسُجِّلت بالفعل إشارات إلى شحنات نفط روسيّة وصلت أو يمكن أن تصل كمساعدة عاجلة لوقف الانهيار. وهناك تنافس صيني - هندي أيضاً، ولا سيما أن سريلانكا انخرطت بالفعل في مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، وكلتاهما منحتا حكومة كولومبو قروضاً سهلة (مجموعها مع ذلك لا يتجاوز حوالى 20% من مديونية الجمهورية). وفيما سُرقت غالبية أموال الديون الغربية أو أُنفقت في مشاريع غير منتجة، تركّزت الاستثمارات الصينية، في البداية، في المناطق السنهالية الجنوبية من الجزيرة، وتحديداً في منطقة هامبانتوتا - قاعدة قوّة عائلة راجاباكسا -، حيث تمّ بناء مطار دولي، وأُنشئت البنية التحتية للطرق والسكك الحديدية وميناء حاويات كبير الحجم في المياه العميقة (اشترته الصين لاحقاً)، فيما دعمت الهند إعادة إعمار مناطق أقليّة التاميل التي دمّرتها الحرب.
وفي ظلّ النهاية المحتّمة للعصر (الراجاباكسي) في سريلانكا، فإن الأوضاع المزرية التي انتهى إليها شعب هذا البلد، لن تتحسّن قطعاً بمجرّد إجبار الحكومة على التنحّي، وستكون المواجهة الآتية في ظلّ فوضى مُدارة بين المجتمع المدني والمعارضة المدعومَين من الغرب من جهة، والنواة الأمنية الصلبة للنظام التي يُعتقد أنها قد تجد نفسها في الجهة الأخرى مدفوعة للارتباط بالصين و(ضمناً روسيا). ويدرك التيار الوطني من العسكريين أن تنصيب نظام (زيلينسكي) سريلانكي قد يأتي بقروض عاجلة ودعم غربي يخفّفان من الألم على المدى المباشر والقصير، لكنّهم يدركون أيضاً أن تسليم مصالح البلاد إلى الغرب قد يعني، على المديَين المتوسّط والطويل، نهاية قاطعة لكل سيادة واستقلال. ومهما تكن نتيجة هذه الفوضى، فإن فقراء البلاد، عمالها وفلاحيها ومهمّشيها، سيدفعون من حياتهم ومستقبلهم ثمن فساد النخب وخياناتها إلى أن تأخذ سريلانكا اتجاهاً جديداً.