«رَجل بروكسل» خارج السلطة: إيطاليا تفْقد استقرارها

«رَجل بروكسل» خارج السلطة: إيطاليا تفْقد استقرارها

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٢٢ يوليو ٢٠٢٢

قدّم رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراغي، استقالته أثناء اجتماعه مع الرئيس سيرجيو ماتاريلا، بعد تعثُّر الجهود المبذولة لإنقاذ حكومة الوحدة التي يترأسها، وامتناع أحزاب يمينية عن منحه الثقة في البرلمان. وفيما قُبلت الاستقالة، وطُلب إلى دراغي تصريف الأعمال إلى حين تشكيل حكومة جديدة تنبثق من انتخابات عامّة مبكرة، دبّ الهلع في أروقة بروكسل التي طالما رأت في «سوبر ماريو» ضمانة لها في روما
بعد أقلّ من 17 شهراً على تولّي ماريو دراغي (ليبرالي وسطي) رئاسة حكومة ائتلافية في إيطاليا قادت البلاد، منذ شباط 2021، إلى مستوى من الاستقرار خلال التعامل مع الأزمة الوبائية، غرقت الجمهورية مجدّداً في أزمة سياسية دفعت «سوبر ماريو» ورَجل بروكسل القوي في روما، إلى تقديم استقالته. وكان انقسام بين ممثّلي حركة «خمس نجوم» - أكبر حلفاء دراغي في البرلمان - قد تسبّب بخلافات بشأن استمرار دعم الحكومة الائتلافية، أدّت إلى امتناع بعضهم عن التصويت على حزمة إجراءات اقتصادية تستهدف مواجهة آثار التضخّم المتصاعد، اقترحها رئيس الوزراء على مجلس الشيوخ. ما حدث أثار حفيظة دراغي وحدا به إلى التلويح باستقالته، لكن الرئيس الإيطالي، سيرجيو ماتاريلا، استمهله أسبوعاً للتداول مع حلفائه، بالنظر إلى تمتُّع حكومته بتأييد غالبية البرلمان.
إلّا أن أسبوعاً من النشاط المحموم خلف الكواليس في روما، لم يكن كافياً على ما يبدو لإقناع حركة «خمس نجوم» بزعامة رئيس الوزراء السابق جوزيبي كونتي، وحزب «فورزا إيطاليا» (سيلفيا برلسكوني)، وحزب «الرابطة» (ماتيو سالفيني)، بتجديد الثقة بحكومة الائتلاف، ليُترك دراغي في مهبّ الريح. واشترط الحزبان الأخيران عليه استبعاد مجموعة كونتي من الائتلاف، وطالباه بإقالة وزير الصحة روبرتو سبيرانزا، ووزيرة الداخلية لوسيانا لامورجيس، على خلفية أدائهما «الضعيف» في معالجة قضايا الوباء والهجرة، وهو ما رفضه دراغي. ومن الجليّ أن التيارات اليمينيّة الإيطالية استشعرت مصلحتها، فقرّرت الخروج من الحكومة قبل أن تُحَمَّل مسؤوليةً عن السخط الشعبي على الأوضاع المعيشية المتردّية - جرّاء ارتفاع الأسعار وتدنّي القيمة الفعلية للدخول وأزمة الطاقة -، وتَدفع الثمن في صناديق الاقتراع العام المقبل. وبحسب استطلاعات الرأي الأحدث، فإن حزب «الأخوة الإيطالية» اليميني ذا الجذور الفاشيّة وغير الممثَّل بالبرلمان، يحظى وحده بتأييد ربع الناخبين على الأقلّ، كما أن انتخابات بلديّة جرت أخيراً في البلاد، أظهرت ميلاً احتجاجياً للتصويت لمصلحة مرشّحين يمينيين.
ويتّفق المراقبون على أنه حتى لو تجنّبت الحكومة السقوط خلال هذا المنعطف، فإن الشقوق في جدار الائتلاف الحاكم لم تَعُد خافية على أحد، فيما تراكمت شكوك عميقة لدى مختلف الفرقاء حول قدرة دراغي على الحفاظ على رضى الشركاء، لا سيما في ظلّ أزمة التضخّم والقلق المتزايد في الأسواق في شأن استدامة الدين العام الإيطالي (تبلغ قيمته حالياً أكثر من 150% من الناتج المحلي الإجمالي)، وعجْز الموازنة وضعف الملاءة الماليّة عموماً، مضافةً إليها حالة التشنّج العام التي أصابت أوروبا بعد الحرب في أوكرانيا، والنتائج العكسية التي أتت بها العقوبات الغربية ضدّ موسكو على أمن الطاقة والاقتصاد في القارة الأوروبية.
وقّدم دراغي استقالته بالفعل إلى الرئيس خلال اجتماعه معه، صباح الخميس. وأعلن الديوان الرئاسي لاحقاً أن ماتاريلا قَبِل الاستقالة، وطلب إلى رئيس الوزراء المستقيل إدارة حكومة انتقالية إلى حين تشكيل حكومة جديدة، قبل أن يُصدر مساءً مرسوماً بحلّ البرلمان ويدعو إلى انتخابات مبكرة، في أيلول المقبل. وجاء ردّ فعل الأسواق المالية سريعاً على الأخبار الآتية من روما؛ إذ قفز العائد على سندات الخزانة لأجل 10 سنوات، بنحو 21 نقطة أساس إلى 3.6%، وهو أعلى مستوى له منذ حزيران، فيما جرت عمليّات بيع مكثّفة لأسهم الشركات الإيطالية، فانخفض مؤشّر «فوتسي» بنسبة 2.6% في التداولات الصباحية. ويَتوقّع خبراء ارتفاع تكاليف الإقراض في هذا البلد، في اللحظة التي سيرفع فيها المصرف المركزي الأوروبي أسعار الفائدة للمرّة الأولى منذ أكثر من عقد، في إطار سعيه إلى منْع ارتفاع تكاليف الاقتراض من التسبُّب بأزمة ديون أخرى في منطقة اليورو. كذلك، ستزداد الشكوك حيال قدرة روما على الوفاء بالشروط التي وضعتها بروكسل لاستلامها حصّة 200 مليار يورو من «صندوق الاتحاد الأوروبي» للتعافي من جائحة «كوفيد-19» تلقّت منها حتى الآن 46 مليار يورو، مع شريحة أخرى بقيمة 21 مليار يورو مستحقَّة في الأسابيع المقبلة. وتترك الحكومة المستقيلة جدول أعمال غير منجز من الإصلاحات الاقتصادية، يشمل إصلاحاً شاملاً لنظام الضرائب والمشتريات الذي كان يهدف إلى جعل إيطاليا مكاناً أكثر جاذبية لممارسة الأعمال التجارية.
وبسقوط دراغي (74 سنة)، عادت إيطاليا إلى أجوائها الكلاسيكية من عدم الاستقرار السياسي وتفتّت الدعم الشعبي للتيارات والأحزاب، مع تصاعد الغضب ضدّ النخبة الحاكمة والعملية السياسية عموماً، وهو ما تحاول الأحزاب الشعبوية اليمينية استثماره للوصول إلى السلطة. وبينما لن يبكي كثيرون في روما على انتهاء عهد دراغي، فإن القلق أصاب بيروقراطية الاتحاد الأوروبي في بروكسل على الرَجل الذي تُصوّره الصحافة الغربية كـ«بيروقراطي كفوء» لدوره البارز إبّان خدمته محافظاً للمركزي الأوروبي (2011 – 2019)، في تجاوز أزمة حادّة ألمّت باليورو. وساعد «سوبر ماريو»، كما تسمّيه الصحف الغربية، على تثبيت وضع إيطاليا في قلْب التحالف الغربي المعادي لروسيا، ودعم سياسات الاتحاد الأوروبي بلا هوادة في مواجهة «المتمرّدين» من الحكومات اليمينية في الدول الأعضاء. وفقدانه، اليوم، في خضمّ لحظة شديدة التقلّب بالنسبة إلى الاقتصاد الأوروبي الذي يرزح تحت ضغوط التضخّم المرتفع وأزمة الطاقة ومناخات الحرب، ويواجه إشارات ركود محتّم، أقرب ما يكون إلى ورطة بالنسبة إلى بروكسل التي باتت تفتقر إلى اليقين في شأن توجّهات الحكومة المقبلة في ثالث أكبر اقتصاد أوروبي.
ولا يَخرج الصراع داخل النُخب الحاكمة في إيطاليا - كما في غيرها من دول البرّ الأوروبي -، ومهما أخذ أبعاداً شخصية وتلبَّس شعارات حزبية، من نطاق المواجهة بين أولئك الذين تدعمهم بروكسل ويريدون استعادة هيمنة السوق على السياسة، وأولئك الذين يخشون العواقب المترتّبة على تغوّل الأسواق على الاستقرار السياسي العام، ويعتمدون على دعم الطبقات الشعبية الغاضبة من تردّي الأوضاع المعيشية والضغوط الاقتصاديّة. ودراغي في سياق السياسة الإيطالية، طرف محسوب بصراحة على أحد الأطراف: بروكسل. ولعلّ تزامن «إسقاطه» مع إعلان المركزي الأوروبي إطلاق مشروعه المسمّى «مكافحة التشتّت»، يشير بشكل ما إلى ذلك الصراع. إذ من شأن هذا المشروع - الذي أُعلن عنه أمس - أن يسمح للمركزي الأوروبي بالتمسُّك بسياسته غير التقليدية المتمثِّلة في السيطرة على الاختلافات بين أسعار الفائدة الوطنية (تكاليف التمويل) التي بدأت قبل أكثر من عقد، عندما كان دراغي رئيساً للمصرف المذكور. وترجّح الرواية السائدة في بروكسل أن تنحّي دراغي الآن، سيثير الشكوك حول ما إذا كانت هناك إرادة لـ«إصلاح» الاقتصاد الإيطالي، وفق الخطوط الملائمة لأوروبا. وقد تدفع هذه النتيجة ألمانيا وحلفاءها: النمسا وهولندا، إلى استخدام حقّ النقض (الفيتو) ضدّ المشروع. ونتيجة لما تَقدّم، فإن فروق الأسعار قد ترتفع مرّة أخرى إلى مستويات قد تولّد أزمة جديدة في منطقة اليورو.