أنقرة ــ بغداد: أزمة مضبوطة

أنقرة ــ بغداد: أزمة مضبوطة

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ٢٦ يوليو ٢٠٢٢

على رغم التصعيد الكلامي العراقي ضدّ تركيا على خلفية الاعتداء الأخير على منتجع برخ في قضاء زاخو، لا يبدو أن بغداد ستذهب بعيداً في معاقبة أنقرة على المجزرة التي ارتكبتها، خصوصاً في ظلّ مرحلة انعدام التوازن الداخلي التي يمرّ بها العراق حالياً. وعلى هذه الخلفية، لا يَظهر، في المقابل، أن تركيا سترتدع عن مواصلة هجماتها ضدّ حزب «العمال الكردستاني»، بالنظر إلى اشتداد حاجة رئيسها، رجب طيب إردوغان، إلى أوراق قوّة يستطيع تصريفها في السباق الرئاسي
لطالما كانت التدخّلات العسكرية التركية ضدّ حزب «العمّال الكردستاني» في شمال العراق، عاملَ توتّرٍ إضافياً وأساسياً في العلاقات بين بغداد وأنقرة، التي تقول في سرديّتها إنها أخذت المبادرة لـ«القضاء» على الحزب الذي تُصنّفه إرهابياً، بعدما «عجز» العراقيون عن القيام بذلك بأنفسهم. وهي الحجّة ذاتها التي يتّخذها الأتراك لإسباغ الصفة القانونية على انتهاكاتهم المتكرّرة للسيادة العراقية، عندما يلجأون إلى تفسير المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تعترف «بالحق الأصيل للدولة في الدفاع عن النفس الفردي أو الجماعي»، كما يحلو لهم. صحيح أن حزب «العمّال الكردستاني» موجود في العراق بغير موافقة الحكومة العراقية، التي لا تمنحه الملاذ الآمن ولا تتّخذ في الوقت نفسه إجراءات عسكرية ضدّه، إلّا أن وجوده بات يُعتبر إحدى الحقائق الموضوعية في البلاد. وبالتالي، فإن صعوبة القضاء عليه تتأتّى من صعوبة القضاء على جزء من النسيج الشعبي العراقي.
ومن هنا، ترى مصادر عراقية كردية، في حديثها إلى «الأخبار»، أن إصرار الجانب التركي على الخيار العسكري ورفْض الحوار بخصوص مسألة «العمّال الكردستاني» يفاقم الأزمة، ويضع حياة المزيد من العراقيين في خطر داهم، كما أنه يعرّض السيادة العراقية لانتهاك واضح. وتَصِف المصادر وضْع الأتراك الجانب العراقي بين خيارَي الصِّدام الداخلي عبر دعوة بغداد إلى التخلّص من «الكردستاني» وتزكية الانقسام المتزايد بين الحزب وأربيل، أو مواجهة حملة عسكرية متواصلة بحجة التخلّص من الإرهاب، بأنه «سلوك ستكون نتائجه كارثية على المدنيين والبنية التحتية، وقد يمتدّ من شمال العراق ليهدّد الاستقرار في المحيط». وتستنكر استخدام الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ورقة «العمّال الكردستاني» في إطار أجندته السياسية الخاصة بـ«الكباش مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية»، مذكّرة بأن«إردوغان، ومع وصوله إلى السلطة لأوّل مرّة عام 2002، سلك نهج الهدوء والمفاوضات مع الكردستاني كرسالة انفتاح إلى الغرب كان يأمل أن تفيده في إطار مساعيه للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكنه سرعان ما سلك دروب العنف عندما اصطدمت مصالحه مع الغرب بحائط مسدود».
القصف التركي على منتجع برخ في قضاء زاخو في محافظة دهوك في كردستان العراق، وما أدّى إليه من سقوط 9 قتلى و23 جريحاً، جاء بعد ساعات قليلة على اللقاء الذي جمع الرئيس التركي، بالمرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، في طهران، والقمّة الثلاثية التي ضمّته إلى نظيرَيه، الإيراني إبراهيم رئيسي، والروسي فلاديمير بوتين، والتي كان طَبَقها الأساسي الأوضاع في سوريا بشكل عام، والعملية العسكرية التي كانت أنقرة تهدّد بشنّها في شرق سوريا، ضدّ فصائل تتّهمها بِصِلتها بحزب «العمّال الكردستاني». هذا التعاقب وضع عملية الاستهداف في دائرة التكهّنات والتحليلات، خصوصاً أن الرئيس التركي خرج من طهران وقرار العملية العسكرية في سوريا متراجع جدّاً في ترتيب جدول أعماله، على الرغم من كونها ضرورية بالنسبة إلى الرجُل في إطار مساعيه لتخفيف الضغوطات الداخلية الناجمة عن ملفّ اللجوء السوري في تركيا، ووعوده بإقامة مناطق آمنة داخل سوريا، قبل الانتخابات التركية.
وفي هذا الإطار، تُعرب مصادر سياسية عراقية، في حديث إلى «الأخبار»، عن اعتقادها بأن أنقرة تستغلّ الفراغ السياسي الحاصل نتيجة عدم التوافق حتى الآن على تشكيل حكومة جديدة بعد حوالي 9 أشهر من إجراء الانتخابات البرلمانية، لتحويل العراق إلى صندوق بريد يوزّع الرسائل في الاتّجاهات كافّة، ومنها إلى الداخل التركي الذي دخل في «موود الانتخابات» الرئاسية التي من المقرَّر أن تُجرى في حزيران 2023. وترى المصادر أن الانتهاكات التركية المستمرّة للسيادة العراقية تكشِف عن ضعف السلطات العراقية المزدوج، إنْ في اتّجاه السيطرة على حدودها مع جارتها، أو لجهة الحفاظ على السيادة أمام اعتداءات تركيا. وفي السياق نفسه، تعتقد المصادر أن الدور المَنوط برئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، الذي يتمّ الترويج له خليجياً وأميركياً على أنه «وسيط معتمَد لحلّ أزمات المنطقة»، لم يردع أنقرة عن مواصلة حملتها العسكرية في العراق من دون التنسيق مع بغداد، على الرغم من أن القرار العراقي الرسمي المعلَن هو الحرص على علاقات جيّدة مع تركيا. الكاظمي الذي قال في أول زيارة له لتركيا، في كانون الأول 2020، إن «موقف العراق واضح للغاية، لا مجال للتسامح مع أيّ تنظيمات تهدّد مواطني تركيا»، قال في بيان، تعقيباً على الاعتداءات التركية الأخيرة، إن القوات التركية «ارتكبت انتهاكاً صريحاً بحقّ المواطنين العراقيين باستهدافها لمنتجع سياحي في محافظة دهوك في إقليم كردستان العراق»، وأضاف أن العراق رفض استخدام «المبرّرات الأمنية من قِبَل أيّ طرف لتهديد حياة المواطنين العراقيين (...) واحتفظ بحقه الكامل في الردّ على هذه الهجمات».
وفي الوقت التي نفت فيه تركيا ضلوعها في المجزرة، وحمّلت «العمّال الكردستاني» مسؤوليتها، وازنت واشنطن بين حاجة أنقرة إلى العمل العسكري، وحاجة بغداد إلى ردّ يحفظ ماء وجهها، إذ قال المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، إن «العمل العسكري في العراق يجب أن يحترم سيادة العراق وسلامة أراضيه». والجدير ذكره، هنا، أن رئيس أركان الجيش العراقي، الفريق الأول عبد الأمير رشيد يار الله، كشف، في جلسة مجلس النواب الاستثنائية التي عُقدت السبت الماضي، معلومات جديدة عن التواجد العسكري التركي في الأراضي العراقية، إذ أشار إلى وجود 5 قواعد رئيسة للقوات التركية في شمال البلاد، تضمّ أكثر من 4 آلاف مقاتل، لافتاً إلى أن عدد نقاط الجيش التركي في عام 2021 كان 40 نقطة، وفي بداية 2022 بلغ 90 نقطة، أمّا اليوم فهناك 100 نقطة، تَبعد مسافات قليلة عن مناطق زاخو والعمادية ودهوك.
بالنتيجة، ليس من المرجّح أن تتراجع أنقرة عن العملية العسكرية ضدّ «العمّال الكردستاني» في شمال العراق، على الأقلّ في هذه المرحلة. وليس من المرجّح أيضاً أن تتّبع بغداد سياسة حازمة وواضحة حيال السلوك التركي، على الأقلّ في مرحلة عدم التوازن الداخلي التي تمرّ بها حالياً. وعليه، ستبْقى ورقة «الكردستاني» على جدول أعمال تركيا، خصوصاً في ظلّ حاجتها إلى كسْب نقاط كثيرة، للاستخدام المحلّي والإقليمي.