تسابُق روسيّ – فرنسيّ محموم: طيْف «الحروب النابوليونيّة» يظلّل أفريقيا

تسابُق روسيّ – فرنسيّ محموم: طيْف «الحروب النابوليونيّة» يظلّل أفريقيا

أخبار عربية ودولية

الثلاثاء، ٢ أغسطس ٢٠٢٢

دخلت فرنسا وروسيا، قبل أكثر من قرنَين، حرباً دامية قادها نابوليون بونابرت، حيث دخل بجيشه الأوروبي موسكو بعد معركة بورودينو (أيلول 1812)، قبل تراجُعه نهاية العام نفسه إلى باريس مكبَّلاً بخسارة مهينة (كلّفته 400 ألف قتيل و100 ألف جريح). نهايةٌ ظلّت الحرب حاضرة على إثرها في خلفيّة العلاقات بين البلدَين، لتَظهر في فترات متباعدة، من بينها أخيراً أواخر تموز الفائت، حيث سُجّل تصاعُد في حدّة المواجهة الروسية - الفرنسية على خلفية الحرب الأوكرانية، إذ شكلّت القارّة الأفريقية مسرحاً لتنافُس ديبلوماسي محتدم، عبر جولتَين متوازيتَين وشبه متزامنتَين: أولاهما للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون (الكاميرون وبنين وغينيا بيساو)؛ والثانية لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف (مصر والكونغو وإثيوبيا وأوغندا)، فيما كان العنوان الأبرز للفصل التصعيدي ذاك، ما سمّاه ماكرون «استخدام روسيا الغذاء سلاحاً» في حربها للهيمنة على أفريقيا.
جولة لافروف: الأمن مقابل «كسر العزلة»
استهلّ لافروف جولته بزيارة للقاهرة مهّدت لها الأخيرة بالإعلان عن بدء إنشاء أوّل وحدة نووية في محطّة الضبعة، بحضور المدير العام لـ«روساتوم» وسفير روسيا في مصر. كما تزامنت زيارة لافروف مع احتفال مصر بالذكرى الـ70 لـ«ثورة يوليو» التي تَمتّع نظامها بعلاقات وثيقة مع موسكو، ولا سيما منذ أزمة السويس عام 1956، واستكمال مشروع السدّ العالي في أسوان بدعم سوفياتي. ولم تشمل أجندة الوزير الروسي الحديث عن أزمة «سدّ النهضة» التي كانت سبباً رئيساً في توتّر مكتوم بين الجانبين، منذ إبداء روسيا موقفاً اعتبرته مصر منحازاً إلى إثيوبيا في مجلس الأمن (8 تموز 2021). أمّا المشروع النووي، والذي وُقّع الاتفاق عليه قبل خمسة أعوام، فيمثّل بوّابة واسعة لدخول روسيا سوق الاستثمارات في أفريقيا، ومَعبراً لتعزيز الشراكة الاقتصادية مع القاهرة، التي تمثّل شريك موسكو الأوّل في القارّة بتبادل تجاري وصل إلى 4.7 بليون دولار.
بَعدها، تَوّجه لافروف إلى جمهورية الكونغو (برازافيل)، إحدى أخطر نقاط التماس الجغرافية والاقتصادية مع المصالح الفرنسية (والغربية). واتّسقت هذه الزيارة، الأولى من نوعها لوزير خارجية روسي أو سوفياتي لبرازافيل، مع مساعي روسيا لإبراز قوّتها في دول الجنوب، وتثبيت إمكانية انتهاج الأخيرة سياسة مستقلّة حيال الحرب الروسية - الأوكرانية، وهو ما تجلّى مثلاً في رفض الكونغو إدانة موسكو في الأمم المتحدة. كذلك، زار لافروف أوغندا حيث حظي باستقبال دافئ، وأكد له رئيس البلاد، يوري موسيفني، أنه لا يرى سبباً لانتقاد روسيا، مشدّداً على «وثاقة الصداقة الروسية - الأفريقية وتاريخ روسيا الذي لا يُنسى كشريك في النضال ضدّ الاستعمار منذ قرن مضى تقريباً». وتخلّلت الزيارةَ مباحثات حول تعزيز التعاون العسكري، ولا سيما بعد منْح كامبالا، شركة روسية، عقداً لتركيب معدّات تعقُّب في العربات العسكرية. ولم يكن هذا التطوُّر ليمرّ مرور الكرام في واشنطن، التي بادرت بعد ساعات من مغادرة لافروف عنتيبي، إلى الإعلان عن زيارة مطلع آب الجاري للمندوبة الأميركية الدائمة في الأمم المتحدة، ليندا توماس جرينفيلد، لأوغندا.
وشكّلت أديس أبابا المحطّة الأخيرة للافروف، حيث رفض تحميل بلاده المسؤولية عن أزمة الغذاء الحالية في العالم، واعتبر الانتقادات الأميركية والغربية لحكومة آبي أحمد وطريقة معالجتها للصراع «تدخُّلاً» في شؤون إثيوبيا الداخلية، بينما عبّر وزير الخارجية الإثيوبي، ديميكي مكونن، عن امتنان بلاده لـ«الدعم الروسي الكامل لإثيوبيا في تأمين سيادتها». ووصف لافروف جهود الدول الأفريقية لتحديد مستقبلها وحلّ مشكلاتها الخاصة بأنها «جزء من تَوجُّه نحو عالم متعدّد الأقطاب» يعارضه الغرب لضمان استمرار الهيمنة الأميركية. لكنّ محلّلين إثيوبيين يعتقدون أن روسيا لا يمكنها أن تُعوّض الوجود الغربي التقليدي في إثيوبيا، ولا سيما مع مساعي آبي أحمد الحثيثة لإصلاح صِلاته بالولايات المتحدة وتهدئة الأزمة في إقليم تيجراي، ما يَخصم من حظوظ لافروف في تحقيق الكثير من هذه الزيارة في سياق «الحرب الباردة الجديدة».
رحلة ماكرون: التمسّك بأهداب «أفريقيا الفرنسية»
بينما شملت جولة لافروف دولتَين من أكبر دول أفريقيا (مصر وإثيوبيا)، إلى جانب أوغندا ذات الدور السياسي البارز في إقليمَي شرق أفريقيا ووسطها، والكونغو الديمقراطية ذات المقدّرات الاقتصادية والوضع الجيواستراتيجي بالنسبة إلى المصالح الفرنسية والغربية، اقتصرت جولة ماكرون على ثلاث دول صغيرة أو متوسّطة في أفضل الأحوال، إذ استهلّها بزيارة الكاميرون، حيث وصف أزمة الغذاء العالمية بأنها «أحد أسلحة روسيا الحربية»، علماً أن الكاميرون تُعدّ واحدة من أبرز الدول الأفريقية المتضرّرة من ارتفاع أسعار الغذاء والوقود والأسمدة. وجدّد ماكرون حرْص بلاده على تعزيز الاستثمارات الفرنسية في هذا البلد الغنيّ بالمعادن، وبالتحديد في القطاع الزراعي عبر مبادرة أُطلقت في آذار 2022، بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي. كما عقد الرئيس الفرنسي لقاءات مع ممثّلين عن «المجتمع المدني» الكاميروني، فيما وصفت تحليلات متنوّعة زيارته بأنها بداية عودة «أفريقيا الفرنسية» بنُسختها الثانية. أمّا في بنين، فقد تعهّد ماكرون بدعم «شراكة غير مسبوقة» بين البلدَين، وبتزويد الدولة الأفريقية بمسيّرات وأسلحة متطوّرة لمساعدتها في «مواجهة الإرهاب»، في سياق ما يعدّها مراقبون «استراتيجية فرنسية جديدة» لمعاونة الحلفاء الأفارقة في تقوية جيوشهم. واختتم الرئيس الفرنسي جولته الأفريقية بزيارة لغينيا بيساو، هي الأولى لرئيس فرنسي للمستعمرة البرتغالية السابقة التي لا يتجاوز عدد سكّانها 1.7 مليون نسمة. وركّز ماكرون على سعْي فرنسا لدعم قطاع الزراعة في هذا البلد «لتفادي ضغط القوى الخارجية على مسألة الغذاء».
روسيا وفرنسا: قراءة في التقاطعات
تكشِف نظرة مقرّبة إلى خريطة الجولتَين الروسية والفرنسية، عن تقاطعات خطيرة في بؤر توتّر متعدّدة، قد تصل بحالة التنافس إلى صراع مفتوح، في سياق تَغيّرات متسارعة في النظام الدولي الراهن، والذي تحاول كلتا القوّتَين تعظيم مقدّراتهما داخله. ويتمثّل أبرز تلك التقاطعات في زيارة لافروف للكونغو الديمقراطية وماكرون للكاميرون، حيث تخشى باريس تكرار سيناريو امتداد النفوذ الروسي في جمهورية أفريقيا الوسطى في الحالة الأولى، وعلى مدى أبعد في الكاميرون. وتُواجه الكونغو شبح الأزمة السريلانكية، نتيجة عجز حكومتها عن الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية مِن مِثل دفع التعويضات والاستثمار في المدارس والمستشفيات وصرْف رواتب موظّفي الدولة. ولذا، يُتوّقع أن تلجأ إلى ترتيبات أمنية مع موسكو لمواجهة أيّ اضطرابات مستقبلية، علماً أن برازافيل نجحت في توثيق شراكتها الاقتصادية مع الصين والاتفاق معها على إعادة هيكلة ديونها. كذلك، تخشى فرنسا من نجاح روسيا في عقد اتّفاقات بعيدة المدى مع الكونغو في قطاع الغاز والبترول، قبل موعد انتخابات الرئاسة المقبلة في عام 2026.
أمّا الكاميرون، فهي تتطلّع إلى تجربة جارتها، جمهورية أفريقيا الوسطى، الناجحة - حتى الآن - في مواجهة جماعات المعارضة المسلّحة، بدعم أمني ولوجيستي روسي. وممّا يعزّز مخاوف فرنسا في هذا المجال، توقيع موسكو وياوندي في نيسان 2022 اتفاقاً على تبادل الآراء والمعلومات في مجال سياسات الدفاع والأمن الدولية، وتدريب القوات الكاميرونية، في ما عُدّ «إعلان ترحيب» بالنفوذ الروسي. وبالنسبة إلى أوغندا، ففي مطلع العام الجاري، وافقت شركة «توتال» الفرنسية على ضخّ استثمارات في خطّ أنابيب لنقل البترول بقيمة 10 بلايين دولار، لكنّ هذا المشروع أعاد إحياء الهاجس الأمني مجدّداً في ظلّ الحضور الروسي الدافئ في أوغندا؛ إذ إن التهديدات المستقبلية المحتمَلة تَدفع الأخيرة إلى السعي للحصول على دعم أمني روسي. كما جرى الربط، أيضاً، بين زيارة لافروف لأوغندا وإعلان موسيفني (حزيران 2022) عن اكتشافات هائلة من ترسّبات الذهب في منطقة بوسيا.
 
خلاصة
جاءت جولتا لافروف وماكرون الأفريقيتان لتُجسّدا تصاعداً في السباق الدولي للسيطرة على الموارد في أفريقيا، وسط نزوع من قِبل القادة الأفارقة إلى استعادة أجواء الحرب الباردة وما وفّرته من اتّساع هوامش الحركة أمام دولهم، وإمكانية مقايضة المواقف بمكاسب اقتصادية وعسكرية. وعلى رغم ما بدت عليه أجندة ماكرون من ارتجال، فإن مطّلعين رجّحوا أن تكون قد شملت مسائل أخرى من قبيل إقامة موانئ أو مرافق للخدمات اللوجيستية بالتعاون مع «أطراف ثالثة»، فضلاً عن مسألة نقل الطاقة من مناطق الإنتاج في غرب أفريقيا عبر خطّ يمرّ بأغلب دوله المطلّة على المحيط الأطلسي وينتهي في المغرب قبل مدّه إلى أوروبا، وغير ذلك من الجوانب التي من شأنها تعزيز الحضور الفرنسي في مناطق النفوذ التقليدية والمباشرة لباريس. أمّا جولة لافروف، فإنها حقّقت على الفور مكاسب في الكونغو وأوغندا، بينما تظلّ زيارتاه للقاهرة وأديس أبابا بمثابة استشراف تمهيدي لإعادة تشكيل السياسة الخارجية الروسية إزاء البلدَين، على نحو سيتكشّف خلال الفترة المقبلة، في ظلّ تصعيد مرتقب في ملفّ «سدّ النهضة».