أفريقيا في المؤتمر الصيني: نقطة ارتكاز ثابتة

أفريقيا في المؤتمر الصيني: نقطة ارتكاز ثابتة

أخبار عربية ودولية

الأربعاء، ٢٦ أكتوبر ٢٠٢٢

جاء انعقاد المؤتمر العشرين لـ«الحزب الشيوعي» الصيني (16-22 الجاري)، في ذورة تضارُب التصوّرات التقليدية حول القوى العظمى وسياساتها، والذي تُحاول غالبية الدول الأفريقية التماهي معه عبر نزوع، ظاهري أقلّه، نحو تبنّي «النموذج الصيني» التنموي واستعادة أجواء الحرب الباردة. وسيكون للديناميات التي ستَعقب هذا المؤتمر، الذي تَقلّد فيه الرئيس الصيني، شي جين بينج، رئاسة «الشيوعي» لفترة ثالثة متجاوِزاً بذلك أعراف الحزب ومتماثلاً مع تقليد أفريقي بامتياز، تأثير كبير على القارّة الأفريقية، التي تُعدّ بمختلف أقاليمها الفرعية إحدى أبرز ساحات النموّ الصيني، بما فيه العسكري، وفق ما توضحه خريطة نقاط الارتكاز الرئيسة في جنوب أفريقيا ونيجيريا ومصر وإثيوبيا، وبدرجة أقلّ في الكونغو الديمقراطية والجزائر.
النموذج الصيني
في الوقت الذي نجحت فيه الصين في الاندماج بشكل متزايد في النظام السياسي والمالي العالمي بعد استعادتها هونغ كونغ (1997)، وانضمامها إلى/ وفاعليتها في الهيئات الدولية مِن مِثل «منظّمة التجارة العالمية»، فهي واصلت، بحسب الرؤية الغربية النمطية، تشديد قبضة الحزب «الشيوعي» على الحُكم، وهو ما تَكرّس في المؤتمر الأخير. ومثّلت هذه «الثُّنائية»، التي ظلّت مقبولة دولياً، حلّاً مثالياً للعديد من الدول الأفريقية - المتفاوتة الأهمية والحجم -، التي استَبدلت بمِثال «الديمقراطية الغربية» التي فشلت في التجسُّد أفريقياً باستثناء نماذج قليلة وسياقات بالغة الخصوصية، حُكماً «استبدادياً» ملازماً للمشروع التنموي. كما يتجلّى استلهام النهج الصيني في انفتاح اقتصادي لافت على عدد من الشركاء الدوليين ذوي المصالح المتضاربة (كما في إثيوبيا ونيجيريا وجنوب أفريقيا)، وتعميق استراتيجية «الفوز للجميع»، مع جنوح متصاعد إلى إغلاق أفق «الليبرالية السياسية»، لصالح حصْر «السياسة» في أبنية السلطة التنفيذية وأذرعها.
على خلفيّة ذلك، بدت لافتةً مبادرة حزب «المؤتمر الوطني» الأفريقي الحاكم وعدّة قوى سياسية في جنوب أفريقيا - مثلاً -، إلى إعلان تعاطفها مع تجربة «الحزب الشيوعي» الصيني، وإعجابها بالطريقة التي تطوّرت بها الصين عبر إخراج المواطن العادي من ربقة الفقر، وهو أحد تطلّعات الحزب الذي تولّى السلطة في بريتوريا بعد نهاية نظام الفصل العنصري قبل ما يقرب من ثلاثة عقود، من أن يتمكّن من تحقيق سجلّ مرضٍ في مجالات التنمية المجتمعية وتطوير العمل السياسي والديمقراطي على حدّ سواء. ولعلّ ممّا يعزّز هذه «الكيمياء» وجود مجتمع لديه قبول بالأساس للحزبية الشيوعية (تأسّس الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي في العام نفسه الذي تَأسّس فيه نظيره الصيني - 1921 -، وهو شريك في الائتلاف الحاكم منذ نهاية نظام الفصل العنصري)، فضلاً عن كوْن جنوب أفريقيا الشريك الاقتصادي الأفريقي الأول للصين، بقيمة تجارة عند حدود 54 بليون دولار في عام 2021، وبحصّة 21% من إجمالي تجارة الصين الأفريقية.
ويعيد التوجّه الجنوب أفريقي الحالي، إلى الأذهان، تجارب أفريقية سابقة في تبنّي «اشتراكية مخصّصة» (كما في تنزانيا وغانا وحتى إثيوبيا والصومال وغيرها)، تقترب كثيراً من تطبيق الصين للاشتراكية، لناحية ضبطها بحسب أحوال المجتمع الصيني. ويُعدّ ذلك أكثر ملاءمة لجنوب أفريقيا التي تعاني أزمات اجتماعية وسياسية خطيرة قد يخفّف من حدّتها مرحلياً تبنّي تَوجّهات «ثورية» مع الحفاظ على طبيعة الاقتصاد الرأسمالي. ويأتي هذا التماهي على رغم تباين التجربة الصينية واستجابتها للاستعمار والتغيّرات الدولية المتلاحقة، عن التجارب الأفريقية التي قادت أغلبَها نُخب سياسية كانت في كثير من الأحوال منخرطة في إطار «الاستعمار الداخلي»، أو شبكات مصالح الاستعمار والقوى المحلّية المستفيدة منه.
أفريقيا والمؤتمر العشرون: حضور ضمني
شدّد المؤتمر العشرون لـ«الحزب الشيوعي» الصيني، على ضرورة استعادة الصين دورها التاريخي كقائدة سياسية واقتصادية وثقافية، بالتوازي مع توسيعها وجودها الدولي، ولا سيما عبر رافعتها الرئيسة، «مبادرة الحزام والطريق»، لتشييد موانئ ومرافق بنية أساسية متعدّدة في أفريقيا وآسيا. وكان الحزب تعهّد، في مؤتمره التاسع عشر (تشرين الأول 2019)، بالعمل على «إعادة التوازن التجاري» مع الدول الأفريقية. لكن وفق الأرقام، فقد حلّت أفريقيا في ذيل الأقاليم لناحية حجم تجارتها مع الصين، إذ استحوذت في عام 2021 على 3.83% فقط من قيمة التبادل الصيني التجاري الخارجي، ولم تتأخّر عنها سوى دول الخليج بنسبة 3.68%، ثمّ أستراليا بنسبة 3.53% (فيما استأثرت قارة آسيا بنسبة 46.9%، تلتْها أوروبا 18.1%، ثمّ الولايات المتحدة 12.9%). إلّا أن بكين عزّزت، في الربع الأوّل من العام الجاري - وفق إحصاءات الإدارة العامة للجمارك في الصين مطلع تشرين الأوّل الحالي - تجارتها مع أفريقيا، حيث وصلت إلى 64.8 بليون دولار بزيادة 23% عن الفترة نفسها من عام 2021. ومع ربط هذه الزيادة بمقرّرات المؤتمر العشرين لناحية رفْع النموّ الصيني بشكل غير مسبوق حتى عام 2050، والعسكرة المرتقبة للسياسة الصينية الخارجية، فإن أفريقيا تظلّ ساحة مثالية لتَوسّع بكين الاقتصادي والعسكري بأقلّ الأعباء الممكنة مقارنة بالأقاليم الأخرى.
مع ذلك، من غير المتوقّع تفعيل الخطط التي كان أعلنها منذ سنوات وزير الخارجية الصيني، وانغ يي - الذي بقي في منصبه -، باستثناء تعزيز واردات بلاده من المواد الغذائية والمواد الخام الأفريقية، من دون تحقيق دفْعة حقيقية مستدامة لمساعي توطين الصناعات في دول القارة، التي تمثّل مواردها الطبيعية ثلاثة أرباع إجمالي صادراتها إلى العالم، بل يُتوقّع - في ظلّ عدم إدخال المؤتمر الأخير أيّ تغييرات على سياسة «صفر كوفيد» وما يعنيه ذلك من ركود محتمَل في الواردات والصادرات بين الصين وأفريقيا - أن يتواصل ارتفاع العجز في الميزان التجاري لصالح بكين، وأن تستمرّ الأخيرة في تنفيذ «مبادرة الحزام والطريق» بوتيرة أسرع، بعد تجديد «الشيوعي» دعمه لها، مع ربطها بسياسات «الأمننة» الصينية في نقاط ارتكاز في وسط أفريقيا وغربها.
المخاوف الأميركية
شهدت الولايات المتحدة، قبيل انعقاد مؤتمر «الحزب الشيوعي» الصيني بأيام قليلة، مؤتمراً عقدته «جامعة ليبرتي»، ضمّ أكثر من 600 شخصية سياسية ودينية ورؤساء تنفيذيين لشركات أميركية وأفريقية. وعلى رغم تركيز أجندته على فُرص الأعمال المشتركة مستقبلاً، فإن فعاليات المؤتمر الصيني استأثرت بأغلب نقاشاته، التي طبعها الخوف من «نموّ النفوذ الشيوعي الصيني» في أفريقيا، وسط تقديرات بأن الدول الأفريقية لم يَعُد بمقدورها تسديد ديونها المستحَقّة للصين، ما يجعلها رهينة للأخيرة، التي استطاعت، في المقابل، الوصول إلى كمّيات هائلة من الموارد الأرضية النادرة وغيرها من الموارد الطبيعية، مُزاحِمةً الولايات المتحدة وحلفاءها في هذا المجال. ورأت وينسوم سيرز، نائبة حاكم فيرجينيا، على سبيل المثال، أن النماذج القديمة القائمة على تقديم المعونات لم تَعُد كافية، وأن «علينا أن نقوّي التنمية الاقتصادية لتقليل اعتماد أفريقيا على الصين في الاستثمار في البنية الأساسية كي لا تصبح أزمة أمن قومي»، فيما أجمع المعنيّون على وجوب حشد جهود القطاع الخاص، وتحريك المجتمع المدني في ما فشلت فيه الحكومة الأميركية، التي تتخوّف من مساعي «الشيوعي الصيني» لتنشيط سياساته الحزبية مع أحزاب أفريقية أخرى على أسس «مؤسّساتية».
أيّ أفق؟
بمعزل عمّا ستُحدثه مخرجات مؤتمر «الشيوعي الصيني» من تأثيرات في الدول الأفريقية، لا تزال نُخب هذه الأخيرة تتجاهل جذور مشكلات القارّة، والتي يتقدّمها الفساد المؤسّسي، وهو ما يضعّف أيّ تقديرات بشأن إمكانية استفادة تلك الدول من التحوّلات العالمية الراهنة، خصوصاً في ظلّ ضعف قدرتها على المناورة في خضمّها.