«الجمهورية الجديدة» بأيّ ثمن: تونس نحو انتخابات «استثنائية»

«الجمهورية الجديدة» بأيّ ثمن: تونس نحو انتخابات «استثنائية»

أخبار عربية ودولية

السبت، ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٢

لا يزال الارتباك السِمة الطاغية على المسار الانتخابي التونسي، الذي يُفترض أن يُتوَّج بعملية التصويت في الـ17 من كانون الأوّل المقبل، على رغم دعوات منظّمات المجتمع المدني إلى تأجيلها، في ظلّ العثرات التي سجّلها نظام قيس سعيد الجديد. وفي وقت لا يُبدي فيه سعيد وفريقه أيّ نيّة لتأجيل من هذا النوع، مُصمِّمَين على إتمام الاستحقاقات التي خطّط لها الرئيس بأيّ ثمن، تبدو الارتجالية نفسها أيضاً، الطابع الرئيس لمساعي تغذية الميزانية العامّة، والتي وضعت حكومة نجلاء بودن، من أجلها، نفسها تحت تصرّف «صندوق النقد الدولي»
 تلقّت هيئة الانتخابات التونسية عدداً هزيلاً من الترشيحات، مقارنةً بالمواعيد الانتخابية الماضية. إذ لم تتجاوز، وفق تصريح لرئيس الهيئة، إلى ما قبل يوم الإثنين الماضي، 1249 ترشيحاً، منها 180 ملفّاً نسائياً. وعلى خلفيّة ذلك، اضطرّ المعنيّون إلى تمديد مُهلة تلقّي الملفّات لثلاثة أيام، بدأت الثلاثاء وانتهت أوّل من أمس، على أمل ارتفاع عددها. وأعاد هذا الإجراء، الذي أظهر الارتباك في المسار الانتخابي، إلى الأذهان، الاستشارة الوطنية حول الخيارات الاقتصادية والسياسية، والاستفتاء حول الدستور، واللذَين أصرّ الرئيس قيس سعيد على إجرائهما على رغم كلّ مؤشّرات العزوف عنهما، قبل أن يبني على نتائجهما في تحديد نظام الانتخابات وتصوُّر مؤسّسات الحُكم للفترة المقبلة. إذ لا تَهمّ الرئيس، على ما يبدو، نسبة المشاركة، أو ما يشوب العملية من خروقات وعيوب، بقدْر اهتمامه يأن يسجّل للتاريخ أنه ضرب مواعيد استحقاقات دستورية والتزم بها. ومن هنا، اعتبرت شبكة «مراقبون»، وهي منظّمة رائدة في الرقابة على الانتخابات في تونس، أن «التمديد دليل على سوء إدارة المحطّة الانتخابية»، لافتةً، في بيان، إلى أن «هيئة الانتخابات لا تتفاعل مع المجتمع المدني الذي حذّر منذ انطلاق هذا المسار من تعدّد المشكلات التي ستطرأ خلاله»، فيما دعت جمعيات أخرى إلى تفسير القرار، ومصارحة التونسيين بالعثرات التي تواجه تنفيذ نظام سعيد الانتخابي الجديد، وطرْح إمكانية تأجيل الانتخابات بهدف إصلاحه. على أن الهيئة أعلنت، على لسان رئيسها التليلي المنصري، أنه من غير الوارد بتاتاً تغيير المواعيد الانتخابية. ومع ذلك، فإن إدارة الشأن العام في تونس منذ أشهر، تُظهر أن لا قرارات نهائية أو مستحيلة؛ إذ إن سعيد نفسه عدّل نظامه الانتخابي في أكثر من مناسبة، وبشكل مفاجئ أعلن الزيادة أو النقصان في الآجال.
وبالعودة إلى قرار التمديد، فقد أوضح المنصري أنه سُجّل في بعض الدوائر الانتخابية تَرشّح شخص واحد فقط، وهو ما يعني فوزه آلياً فيما بعد، الأمر الذي لا يوافق رغبة سعيد في إضفاء شيء من التنافُسية على الانتخابات، وتشكيل مشهد شبيه بما ساد خلال الاستحقاقات السابقة لمسار 25 تموز، من حيث تنافُس الماكينات وتصارعها. لكن اللافت هو أن الترشيحات جاءت وفيرة في الدوائر الانتخابية الخاصّة بالأحياء الشعبية وأحزمة العاصمة والمحافظات الكبرى، وأيضاً في «دوائر الثورة» أي المناطق التي عاشت الزخم الثوري إبان انتفاضة عام 2011، وهو ما يفيد سعيد، الذي ركّز اهتمام نظامه الانتخابي، بالأساس، على هؤلاء، من أجل الإيفاء بوعده بجعْل مَن قاموا بـ«الانفجار الثوري غير المسبوق من الجهات الداخلية النائية، أصحاب سلطة وقرار». وفي المقابل، نجح سعيد في تحجيم دور الأحزاب والشخصيات الاعتبارية التي ركنت إلى المقاطعة، فيما وجدت فئات أخرى من المستفيدين المحتمَلين ممّا تُسمّى «ديموقراطية الشعب والجماهير»، الفرصة لحجز نصيب لها في «كعكة» السلطة.
وفي محاولتها تعويض ما خسرته، وضعت الجهات المعارِضة لسعيد، وعلى رأسها حركة «النهضة» وحلفاؤها، رهانها على الاحتجاجات الشعبية، وعظّمت آمالها منها، إلى حدّ حديث بعضها عن قُرب انهيار حُكم سعيد، و«ساعاته الأخيرة». إلّا أن ما لم تتنبّه إليه هو أن هذه الموجة الأخيرة من الاحتجاجات تحديداً، لم ترفع شعارات أو مطالب سياسية أو اجتماعية - على رغم اشتداد الأزمة الاقتصادية -، بل صبّت غضبها على القمع البوليسي والتعسّف في استعمال العنف ضدّ المواطنين، علماً أن المؤسّسة الأمنية، في كلّ الحقب السياسية، دائماً ما مارست تجاوزات، وحظي أعوانها بالإفلات من العقاب، ولم تقوَ أيّ سلطة سياسية على التصادم معها. وفي هذا الإطار، تُدافع مصادر مقرّبة من القصر الرئاسي، في حديث إلى «الأخبار»، بأن «التجاوزات الأمنية التي وقعت أخيراً، وكانت سبباً للاحتجاجات في الأحياء الشعبية المهمَّشة، ليست أعمالاً فردية أو معزولة عن الواقع السياسي»، موضحةً أن «القطاع الأمني في غليان مطّرد بعد قرار حلّ النقابات الأمنية ومصادرة أملاكها، على خلفيّة لعبها أدواراً مشبوهة خلال العقد الماضي، من تتبّع معارضين، وابتزاز بملفّات أخلاقية، وحماية المرتكبين لتجاوزات فادحة عبر تزوير المحاضر». وتَعتبر المصادر أن هذا القرار «أدّى إلى احتقان داخل السلك الذي جاءت ردّ فعله في صورة العمل على إسقاط وزير الداخلية توفيق شرف الدين، ومِن ورائه الرئيس إن أمْكن».
ويأتي الجدل حول أداء الأجهزة الأمنية، في وقت يستمرّ فيه التدهور الاقتصادي، الذي يأمل سعيد وفريقه في كبح جماحه من خلال الاتفاق الأوّلي مع «صندوق النقد الدولي» على قرضٍ بقيمة 1.9 مليار دولار. وكانت السلطة ماطلت في الاستجابة لاشتراطات الصندوق، مخافة ردّة الفعل الشعبية إزاء خصخصة المؤسّسات الحكومية، لا سيما في ظلّ وجود «الاتحاد العام التونسي للشغل» الذي دائماً ما عطّل هكذا اتّفاقات على امتداد العقد الماضي. لكن رئيسة «النقد الدولي»، كريستينا جورجييفا، أكدت، أخيراً، أن «الفريق المفاوِض التونسي قدّم كلّ الضمانات من أجل نيْل القرض»، فيما تعهّدت حكومة نجلاء بودن للأطراف النقابية بأنها «لن تُجوّع الشعب ولن تقبل بأيّ شروط مجحفة» في سبيل تمويل الموازنة العمومية. إلّا أنه من المستبعد أن تتمكّن الحكومة من الوفاء بوعودها، في ظلّ وضع المديونية العمومية، ومحدودية المُقرِضين، وضعف الناتج الداخلي الخام، واختلال ميزان التبادلات التجارية، وشحّ العملة الأجنبية والسيولة، ما يعني أنها قد تكون وضعت نفسها تحت تصرّف الصندوق على أمل تغذية ميزانية العام المقبل، بأيّ ثمن.