«قمّة العشرين» لا تعزل روسيا..حرب أوكرانيا: بوادر «اعتدال» أميركي

«قمّة العشرين» لا تعزل روسيا..حرب أوكرانيا: بوادر «اعتدال» أميركي

أخبار عربية ودولية

الخميس، ١٧ نوفمبر ٢٠٢٢

تبيّن الإشارات الواردة من الولايات المتحدة أن خيار المواجهة المديدة مع روسيا، لم يَعُد يحظى بالإجماع المطلوب، وما يترتّب على ذلك من ضرورة البحث في خيارات أخرى، من ضمنها حلّ تفاوضي «بشروط واقعية»، انطلاقاً من بعض الترجيحات التي تشير إلى صعوبة تحقيق أوكرانيا أيّ إنجاز عسكري كبير بعد استعادتها السيطرة على خيرسون. وما حديث رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، مارك ميلي، عن أن «النصر العسكري لن يتحقَّق بالوسائل العسكرية»، وقبله حضّ 30 نائباً ديموقراطياً إدارة الرئيس جو بايدن على طرْح تصوُّرها لِما تَعتبره تسوية مرضية للنزاع، إلّا مقدّمة لسلوك الأمور اتّجاهاً مغايراً عن ذاك المستمرّ راهناً
على رغم أن التقييمات الأميركية الأوّلية رجّحت أن يكون الصاروخان اللذان قتلا شخصَين في شرق بولندا، مصدرهما أوكرانيا وليس روسيا، إلّا أن المخاوف التي أثارها هذا الأمر من صدامٍ مباشر بين موسكو وحلف «الناتو»، أعادت تذكير جميع الأطراف بالمخاطر الهائلة التي قد تنجم عن استمرار الحرب الدولية في أوكرانيا واستعارها. اللافت في الأمر، أن هذا التطوُّر أتى بعد معلومات متواترة عن دعوات أميركية للقيادة الأوكرانية إلى البدء في التفكير بحلٍّ تفاوضي «بشروط واقعية»، كما ورد - مثلاً - في مقال طويل لصحيفة «وول ستريت جورنال»، بعنوان «واشنطن تقيّم إمكانية تسوية ديبلوماسية مع حلول الشتاء». ووفقاً للمقال، فإن المسؤولين الأميركيين قد «نصحوا» نظراءهم الأوكرانيين ببلورة رؤية لتسوية تفاوضية انطلاقاً من ترجيحهم صعوبة تحقيق كييف أيّ إنجاز عسكري كبير بعد استعادتها السيطرة على خيرسون: أوّلاً لأن القوات الروسية تراجعت إلى مناطق شرق نهر دنيبر، وغالبها حضري وقريب جغرافيّاً من روسيا، حيث تمتلك مواقع عسكرية محصّنة، ما سيجعل أيّ قوّة مهاجِمة تتكبّد خسائر فادحة، إضافة إلى أن فصل الشتاء سيزيد من مصاعب شنّ مثل هذا الهجوم. والنقطة الثانية التي أشار إليها المقال، هي خشية واشنطن وحلفائها من نفاد مخزونهم من الذخائر الذكيّة بسبب ضخامة الكميّات التي قاموا بإرسالها إلى أوكرانيا، ما سيَحرم الأخيرة من أهمّ العوامل التي سمحت لها بالانتقال إلى الهجوم المضادّ في أواخر الصيف. وفي ما يخصّ البعد الثالث، فهو مرتبط بالمفاعيل الاقتصادية والاجتماعية للحرب، على البلدان الغربية، مع تصاعد معدّلات التضخّم الناتجة من الارتفاع الصاروخي في أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وما سيتأتّى عنها من اتّساعٍ لمعارضة الحرب في أوساط الرأي العام الغربي، ومطالبةٍ بحلٍّ تفاوضي لها. ويلفت المقال إلى تصريح لرئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، مارك ميلي، أمام «الإيكونوميك كلاب» في نيويورك، يوم الأربعاء الماضي، رأى فيه أن على واشنطن وحلفائها الاعتراف بأن «النصر العسكري بالمعنى الحرفي للكلمة لن يتحقَّق بالوسائل العسكرية، لذلك ينبغي البحث عن وسائل أخرى».
تزايَدت في الآونة الأخيرة المواقف المؤيّدة للبحث عن حلٍّ تفاوضي في الولايات المتحدة، كتلك التي تضمّنها بيان 30 نائباً من الأعضاء الديموقراطيين في الكونغرس قبل الانتخابات النصفيّة، والتي تحضّ إدارة بايدن على طرْح تصوُّرها لِما تَعتبره تسوية مرضية للنزاع. هي تمثّل بمجملها دعوات إلى الإدارة لمراجعة أهدافها المعلَنة للحرب، وفي مقدّمتها «إضعاف روسيا»، نظراً إلى ما قد يترتّب عليها من أكلاف باهظة اقتصادية، ومن احتمال تصعيد غير مضبوط في حدّة الصراع قد يفضي إلى مجابهة مباشرة مع موسكو، وإلى تخفيض واشنطن سقف طموحاتها. لم تمنع هذه الدعوات جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، من القول، خلال مشاركتها في قمّة «مجموعة الدول العشرين»، إن بعض العقوبات الأميركية ضدّ روسيا ستبقى سارية المفعول حتى في حال التوصّل إلى اتفاق سلام بينها وبين أوكرانيا، ما يشي بتوجُّه طويل الأمد للإضرار بالاقتصاد الروسي، غير أن مجرّد إقرارها بإمكانية مثل هذا الاتفاق يعني أن خيار المواجهة العسكرية المديدة مع موسكو لم يَعُد يحظى بالإجماع بين صنّاع القرار في واشنطن، وأن الخيار التفاوضي بات قيد الدرس بينهم.
على الجبهة السياسية والديبلوماسية، احتفت قوى المعسكر الغربي ووسائل دعايتها الإعلامية بالبيان الختامي لقمّة «العشرين» في بالي، مُحاوِلة تظهيره على أنه هزيمة مدويّة لروسيا، لأن «معظم» الدول المشاركة «ندّدت بحزم بالحرب في أوكرانيا»، على الرغم من إقرار البيان بوجود «وُجهات نظر أخرى بين هذه الدول». في الواقع، فإن الرهان الأساسي للمعسكر الغربي هو دقّ إسفين بين روسيا والصين أساساً، وبين الأولى وبين دول الجنوب الوازنة الأخرى، والتي رفضت فرْض عقوبات على موسكو مع بداية الحرب في أوكرانيا، كالهند والسعودية وجنوب أفريقيا وتركيا والبرازيل والأرجنتين وإندونيسيا. بالنسبة إلى الصين، فإن اللقاء الذي جمع رئيسها شي جين بينغ، إلى نظيره الأميركي جو بايدن، على هامش القمّة، والذي فُسِّر على أنه تعبير عن إرادة مشتركة لتخفيض التوتّر بين البلدِين، لم ينجم عنه في الحقيقة، وبمعزل عن الابتسامات المتبادَلة والحديث العام عن ضرورة التعاون بما فيه خيْر البلدَين والبشرية جمعاء، أيُّ تفاهم في العمق حول أبرز قضيّتَين خلافيّتَين بين بكين وواشنطن: تايوان وأشباه الموصلات. موقف أميركا من القضيّتَين يكشف استراتيجيّة الاحتواء الفعلية المعتَمَدة من قِبَلها حيال الصين، لأن إصرار الأولى على التدخُّل في شأنٍ تعتبره الثانية صينيّاً صرفاً، يعني الصينيّين في «البرّ وفي الجزيرة»، يعكس معارضتها لاستكمال البلاد لوحدتها الترابية. أمّا الحرب التكنولوجية التي تشنّها الولايات المتحدة للحدّ من قدرة الصين على الحصول على أشباه الموصلات عبر إنشائها لهذه الغاية «مجلس أميركا - أوروبا للتجارة والتكنولوجيا»، فهي تهدف إلى وقف تطوُّرها والاحتفاظ بتفوّق نوعي في مقابلها.
يخطئ من يظنّ أن سَيْل المواقف والتحليلات الأميركية التي قدّمت الحرب ضدّ روسيا في أوكرانيا على أنها نزاع غير مباشر مع الصين، وتمهيد للتفرّغ لها بعد الانتصار على الأولى، لم يعزّز قناعة القيادة في بكين بضرورة الحؤول دون هزيمة موسكو، لما سيترتّب على ذلك من تبعات بالنسبة إليها. هي لن تعيد النظر بشراكتها المتعاظمة مع روسيا، بل العكس هو الصحيح. أمّا بالنسبة إلى بقية بلدان الجنوب المشارِكة في قمّة «العشرين»، فإن شبكة المصالح الوازنة التي تمتلكها مع روسيا، وتعاونها معها في ميادين الطاقة والسلاح، وهامش الاستقلالية الذي أصبحت تتمتّع به نتيجة بروز قوى منافِسة للولايات المتحدة على الساحة الدولية، جميعها عوامل ستدفعها هي الأخرى إلى الاحتفاظ بشراكتها مع موسكو. من يشكّ في ذلك، عليه أن يَلحظ في الفترة المقبلة ما إذا كانت تلك الدول ستلتزم بعقوبات ضدّ روسيا أو ستعيد النظر في تعاونها معها في الميادين المذكورة آنفاً. بكلام آخر، روسيا ليست معزولة على الساحة الدولية على رغم المزاعم الغربية، وهي في وضع يسمح لها بالمُضيّ في الحرب وإطالة أمدها وإعداد العدّة لهذا الخيار، حتى يَقبل المعسكر الغربي بحلٍّ تفاوضي يأخذ في الاعتبار ضرورات أمنها القومي، ويُلزم وكيله الأوكراني به.