إغلاق «ممرّ لاتشين».. أرمينيا - أذربيجان: الصراع يجدّد نفسه

إغلاق «ممرّ لاتشين».. أرمينيا - أذربيجان: الصراع يجدّد نفسه

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٢٣ ديسمبر ٢٠٢٢

على رغم انتهاء حرب خريف عام 2020 بين أرمينيا وأذربيجان، باتّفاق أعاد تشكيل خارطة منطقة جنوب القوقاز، وأضفى صبغة إقليمية ودولية على الصراع الذي ظلّ، حتى وقت قريب، مقتصِراً على البلدَين المذكورَين، لا يبدو أن الأمور ستستقرّ هناك قبل أن يمرّ وقت طويل. فالاشتباكات لا تفتأ تتجدّد بين الحين والآخر، وآخر فصولها إقدام مجموعة مِمّن يطلقون على أنفسهم «ناشطين بيئيين»، على إغلاق «ممرّ لاتشين» الحيوي جدّاً بالنسبة إلى قره باغ، ما استنفر أرمينيا التي هرولت إلى الاستنجاد بالقوى الغربية، لتكتفي الأخيرة بالإعراب عن قلقها العميق، فيما نأت روسيا، على رغم كوْنها ضامنة للاتفاق، بنفسها عن ذلك. وعليه، تبدو المشكلة متّجهة نحو التفاقم، وربّما تجدُّد الصراع المسلّح، خصوصاً في ظلّ تغيُّر الظروف الدولية، وموقع الأطراف الضالعة في هذه المعادلة
لا يستقرّ الوضع في جنوب القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان منذ انتهت الحرب، في خريف عام 2020، باتّفاق لم تُنفّذ غالبية بنوده. وهكذا، عند كلّ منعطف، يَبحث كلّ طرف عن ما يُعزّز موقفه في لعبة عضّ الأصابع هذه. وكان اتفاق التاسع من تشرين الثاني 2020 الثلاثي بين أرمينيا وأذربيجان وروسيا، لحظ، من بين بنود أخرى، فتْح ممرّ دائم بين مقاطعة ناغورنو قره باغ وأراضي أرمينيا، هو «ممرّ لاتشين»، بإشراف وحماية روسيَّين. وفي المقابل، اتُّفق على فتْح ممرّ برّي بين مقاطعة نخجوان التابعة لأذربيجان وأراضيها، يمرّ عبر الأراضي الأرمينية، عُرف بـ«ممرّ زينغيزور». لكنّ الاشتباكات ظلّت، مع هذا، تتجدّد من وقت إلى آخر بين الجانبَين، وتحت ذرائع مختلفة. فمنذ ذلك الحين، اشتكت كلٌّ من باكو وأنقرة من عدم تنفيذ البند المتعلّق بـ«ممرّ زينغيزور»، علماً أن المشكلة لم تقتصر على هذا البند والبلدان المتأثرّة به، بل هي طاولت أيضاً إيران باعتبارها متضرّرة من خطّة فتْح المعبر المذكور، على اعتبار أنه يُلحِق بها خسائر اقتصادية، كونه يغيّر مسار الشاحنات التي تمرّ من خلال أراضيها، لتَعبر فقط الأراضي الأرمينية مباشرة إلى أذربيجان. وقد عَرفت «الجبهة» الأذربيجانية - الإيرانية، بعد توقُّف حرب الـ44 يوماً، توتّرات مختلفة، سياسية منها وعسكرية، خصوصاً بعدما رفضت باكو أن يستمرّ سلوك الشاحنات الإيرانية في اتّجاه أرمينيا شمالاً من دون تفتيش.
وفي سياق مسلسل التوتّرات الذي لا ينتهي، لجأت مجموعة ممّن أطلقوا على أنفسهم صِفة «الناشطين البيئيين» الأذربيجانيين، قبل حوالى عشرة أيّام، إلى قطْع «ممرّ لاتشين»، قريباً من نقطة عسكرية تابعة لروسيا، بذريعة أن «الأرمن في قره باغ يقومون بأعمال حفر وتنقيب وبيع ما يُستَخرج من معادن عبر الممرّ»، وهو الأمر الذي «يشجّع على التهريب وتلويث البيئة». وعلى هذا، انفجر التوتّر من جديد، فاتّهمت يريفان، باكو، بممارسة نهج جديد يهدف إلى «خنْق قره باغ»، والتضييق على ما تبقّى من أرمن في القسم الجنوبي منها، باعتبار أن القسم الشمالي أصبح بالكامل تحت سيطرة القوّات الأذربيجانية، بعدما غادره معظم الأرمن إمّا إلى القسم الجنوبي وعاصمته ستيباناكرد، والذي يحظى - وفق اتفاق البلدَين - بحماية القوات الروسية، أو إلى أرمينيا نفسها، علماً أن عدد سكان قره باغ لم يتعدَّ، قبل الحرب الأخيرة، الـ120 ألفاً.
وما حصل من تعطيلٍ لـ«ممرّ لاتشين» الحيوي جدّاً لقره باغ، استنفر أرمينيا التي أعربت عن قلقها من إغلاقه، وتأثيرات ذلك السلبية على أهالي المقاطعة. وإذ وضعت باكو المسؤولية في عُهدة القوات الروسية، معلِنةً أن الأخيرة هي التي بادرت إلى إغلاق الممرّ لمنع تفاقم التوتّر، نفت موسكو ذلك، وقالت إن قوّاتها لا تزال تحمي الوضع القائم على الأرض، وفق اتّفاق وقف إطلاق النار الموقَّع. وبادرت أرمينيا، من جهتها، إلى الاستنجاد بالقوى الغربية، فقدّمت شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، تُعرِب فيها عن قلقها من محاولات التضييق على سكّان قره باغ، فيما بدا لافتاً أن ميروسلاف جينكا، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة المسؤول عن أوروبا وآسيا الوسطى وأميركا، حذّر، أثناء نقاشات مجلس الأمن قبل يومَين، من احتمال استئناف الصراع المسلّح بين أرمينيا وأذربيجان، وإمكانية وقوع خسائر كبيرة في صفوف المدنيين، منبّهاً إلى أن هذا «التوتّر سينسحب على مجمل منطقة جنوب القوقاز»، داعياً إلى تنفيذ الاتفاق الثلاثي ومضاعفة الجهود للتوصّل إلى حلّ سلمي. وفيما لا يزال رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان، يعوّل على مساعدة الدول الغربية، مِن مِثل الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما، لبلاده، اكتفت واشنطن، كما جاء على لسان مندوبها الدائم في الأمم المتحدة روبرت وود، بالإعراب عن «قلقها العميق» إزاء استمرار الحواجز المُعيقة لاستخدام «ممرّ لاتشين» لأسباب إنسانية. وقال وود إن إغلاق الممرّ «يقوّض عملية السلام والثقة الدولية في هذه العملية». وحذت فرنسا حذو حليفتها الأميركية، فأعربت ناتالي برودهيرست، نائبة مندوبها الدائم في المنظّمة الدولية، عن «قلقها للغاية» من أحداث الأيام الأخيرة، معتبرة «تسكير لاتشين غير مقبول». أمّا روسيا فقد نأت بنفسها عن أيّ مسؤولية عن إغلاق المعبر، ووصفت ما جرى بأنه «خلاف بين باكو ويريفان حول تطوير رواسب خام في قره باغ»، معربة أيضاً عن قلقها من تعطيل «لاتشين»، الذي حذّر باشينيان من أن مُواطنيه يعانون، من جرّاء إغلاقه، «من البرد، ويُحرَمون من الخدمات الصحيّة».
ويبدو أن باكو تضغط لاستحداث نقطة تفتيش جمركية تراقب البضائع والمواد التي تمرّ من قره باغ إلى أرمينيا، وبالعكس. غير أن نائب وزير خارجية قره باغ، دافيد بابيان، رفض الأمر بتاتاً، وقال إن القوات الروسية تقوم بمهامّ مراقبة العبور، داعياً إلى زيادة عديد عناصرها، بالنظر إلى أن «1980 جندياً غير كافين لأداء المهمّة بشكل جيّد». كذلك، دعا إلى زيادة عدد المراقبين في مدينة شوشة التي أصبحت، بعد الحرب، تابعة لأذربيجان، وإضفاء الصِّبغة الدولية على القوات الروسية في قره باغ ومحيطها لتؤدّي دورها بشكل أفضل وأكثر حصانة. من جهته، اتّهم نائب الرئيس الأذربيجاني، حكمت حاجييف، الأرمن في قره باغ، بنقل غير مشروع للموارد الطبيعية المنهوبة، مُدافعاً بأن «الناشطين البيئيين يحاولون فقط منع ذلك». ووفقاً لصحيفة «آغوس» التركية الصادرة باللغة الأرمينية، فإنه يتمّ استيراد أكثر من 400 طن من السلع الأساسية من أرمينيا يوميّاً، بما في ذلك الحبوب والطحين والخُضر والفواكه.
هكذا، انتقلت مشكلة قره باغ من كونها ثنائية بين أذربيجان وأرمينيا، لتصبح، بعد حرب الـ 44 يوماً، مشكلة إقليمية ودولية، وليكون الاتفاق الثلاثي بين البلدَين وروسيا ساحة الاشتباك الجديدة التي لا يبدو أنها ستُغلَق على سلام قبل مرور وقت طويل، ولا سيما مع تغيُّر الظروف والتوازنات الدولية.