حسابات الحرب والسلام: موسكو تنتظر «اليأس» الغربي

حسابات الحرب والسلام: موسكو تنتظر «اليأس» الغربي

أخبار عربية ودولية

الخميس، ٥ يناير ٢٠٢٣

تقترب الحرب في أوكرانيا من إتمام عامها الأوّل. وبين قصف متبادَل، ومعارك خاضها الروس والأوكرانيون جوّاً ضدّ بعضهم البعض، وهجوم برّي وهجوم برّي مضادّ، إضافة إلى بعض جولات النزال البحري، مضى العام على وقْع أنباء عن تقدّم الجيش الروسي في عمليّته العسكرية تارة، وانكفائه في ساحات المعارك مع القوات الأوكرانية تارة أخرى. في الأسابيع القليلة الماضية، اخترق جدارَ صوت المعارك الدائرة على مختلف نقاط الجبهة الروسية - الأوكرانية، حديث عن السلام. إذ تحدّث الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عن إمكانية انتهاء الحرب في الأشهر القليلة المقبلة، مقترحاً ما سمّاه «خطة سلام» من عشر نقاط، تنصّ على جملة شروط من ضمنها انسحاب كامل للقوات الروسية من بلاده، وضمان محاكمة قادتها العسكريين بتهم ارتكاب جرائم حرب أمام المحاكم الدولية. في المقابل، تحدّث وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن انفتاح بلاده على عقْد محادثات مع كييف بهدف التوصّل إلى سلام محتمَل، ولكن بشرط الاعتراف بالمناطق الأوكرانية التي ضمّتها موسكو، وهي خيرسون وزاباروجيا، ومقاطعتا دونيتسك ولوغانسك. فما مغزى تلك المؤشّرات؟ وهل من إمكانية للتوصّل إلى اتفاق سلام وشيك أو هدنة قريبة؟
الموقف الأوكراني ونقاط ضعفه
تَعتبر المحاضِرة في سياسات روسيا وشرق أوروبا في جامعة أوكسفورد، مارني هاوليت، أن «ما تنضح به ألسنة الساسة في كييف وموسكو يشير إلى رهان على حلّ الصراع عسكرياً»، خصوصاً أن روسيا تتحضّر للزجّ بمزيد من قوّاتها على طول الجبهة، بالتزامن مع تدشين حملة قصف عنيف شبه يومي على البنية التحتية الأوكرانية، والمواقع الأوكرانية داخل خيرسون، بعد انسحاب القوات الروسية منها أواخر الشهر المنصرم. ويسرّ مسؤولون غربيون أن خطابات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المستمرّة حول «حرب وجود» في أوكرانيا، وعن أهميّة قيم التضحية في سبيل الوطن، فضلاً عن رفضه الانصياع إلى المطالب الأوكرانية، تَحمل دلالات على نيّته مواصلة التصعيد، ودفْع كييف إلى الاستسلام أو الاستعداد لخوض حرب مكلفة بشرياً ومادياً. ولشرح ذلك، يرى المدير العام لـ«معهد الاتحاد الملكي للخدمات البحثية»، وهو معهد دراسات عسكرية، كارن فان بول، أن «بوتين يشعر أنه لا يزال قادراً على تحقيق النصر» في أوكرانيا، لافتاً إلى أن روسيا تتفوّق من حيث القوّة العددية والنارية.
أما كييف، فتنطلق في حسابها من التمسّك بسيادة البلاد وفق منظور القانون الدولي، وحقّها في تقرير تحالفاتها السياسية الخارجية، ومن ضمنها رغبتها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي و«الناتو». وفي خضمّ سعيها إلى «الانعتاق من هيمنة» جارتها الكبرى، روسيا، وسعيها إلى استعادة ما تراه «أراضيها المفقودة»، عملت أوكرانيا، منذ عام 2014، على تحديث جيشها، ومحاولة الانضمام إلى «الأطلسي» للحصول على المظلّة الأمنيّة والدفاعيّة للحلف. ومع ذلك، تطالب كييف حلفاءها الغربيين بالكثير للوقوف في وجه القوات الروسية. فقد جادل وزير الخارجية الأوكراني، ديمترو كوليبا، قبل أيام، بأن التقدُّم الأوكراني وحده يقنع روسيا بالجلوس إلى طاولة المفاوضات للبحث في شروط وقف الحرب، مضيفاً أن مضاعفة الإنجازات الميدانية لقوات بلاده على الجبهتَين الجنوبية والشرقية، سيزيد من احتمالية تحقيق ذلك. وفي هذا الصدد، يرى الأستاذ المحاضِر في تاريخ الديبلوماسية الأميركية في جامعة فيينا، أمين آغاجه، أن السؤال المطروح هو ما إذا كان في إمكان أوكرانيا تحقيق تقدُّم كبير في ساحة المعركة في الفترة المقبلة. فمن وجهة نظر آغاجه، يصحّ القول إن الروح المعنوية لدى القوات الأوكرانية أعلى ممّا هي عليه لدى الروس، لكن موازين القوى العسكرية مختلّة لمصلحة روسيا بهامش كبير. ووفق تقديرات كوليبا، فإن موسكو تتفوّق على كييف عسكرياً بنسبة 15 إلى 1، على مستوى سلاح المدفعية. وباعترافه أيضاً، فإن بلاده تحتاج إلى المئات من قاذفات الصواريخ ومدافع «هاوتزر» من عيار 155 ملم لإعادة الزخم الميداني ضدّ القوات الروسية، إضافة إلى كمّيات مماثلة من الصواريخ المضادّة للسفن والدبابات والمدرعات ومنظومات الدفاع الجوّي والطائرات المقاتلة.
وفي السياق نفسه، تواجه الدول الغربية، وعلى رغم تعهّدها بمواصلة تزويد أوكرانيا بالأسلحة، صعوبات تمويلية ولوجستية في توفير كميات السلاح والذخائر التي تطلبها كييف، مع قرْب نفاد صبرها حيال استنزاف مقدّراتها المالية والعسكرية والاقتصادية في هذه الحرب. فبعد مناقشات طويلة، خلال الأشهر الأخيرة، وافقت كلٌّ من المملكة المتحدة وألمانيا على نقل ثلاثة أنظمة صاروخية متعدّدة الإطلاق فقط، في حين قدّمت الولايات المتحدة أربعة أنظمة صواريخ مدفعية عالية الحركة (HIMARS) وتدرس توريد أربعة أنظمة أخرى إلى كييف. وبحسب آغاجه، فإنه «حتى في حال تمكّنت الدول الغربية من إيجاد حلّ لمعضلة توفير الأموال الطائلة اللازمة لتزويد أوكرانيا بالأسلحة، فإنها مقيّدة باعتبارات استراتيجية أخرى لا تقلّ أهمية تحت وطأة تصاعد الأزمات الاقتصادية في أوروبا، وتفاقم معضلة إمدادات الطاقة، بالتزامن مع انشغال الغرب بالتصدّي للصعود الصيني، وهو الأمر الذي حذّر منه وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، والذي تعكسه «ديبلوماسية» بعض الدول الأوروبية الأساسية كفرنسا، بداعي الخوف من تحوّل روسيا إلى حصن صيني في القارة الأوروبية. وكما بات معلوماً، فقد كان الدعم العسكري الفرنسي لكييف محدوداً، انطلاقاً من مقاربة الرئيس إيمانويل ماكرون القائمة على ضرورة «عدم إذلال روسيا»، و«إعطائها الضمانات الأمنية الكافية» كجزء من أيّ جهد ديبلوماسي لوقْف الحرب.
مفهوم الانتصار والهزيمة
سيبقى مفهوما الانتصار والهزيمة خاضعَيْن لاعتبارات السيطرة الميدانية التي يحقّقها كلّ طرف من أطراف الصراع في أوكرانيا، وللمتغيرات المترتّبة عنها. فمع بدء الحرب في شباط من العام الماضي، كانت كييف تتشارك مع الغرب فكرة التسليم بسقوط نظام زيلينسكي الوشيك، مع التمسّك بالإبقاء على مقوّمات دولة أوكرانية في الحدّ الأدنى، وبأكبر قدر ممكن من الأقاليم التي يمكن تحييدها عن براثن «الدبّ الروسي» على وقْع خطط لـ«حرب غير متكافئة» ضدّ القوات الغازية، وانتعاش سيناريوات إقامة حكومة أوكرانية في المنفى، كان يُعدّ لها الغرب في تلك الفترة. وبحلول أواخر صيف العام نفسه، ونجاح القوات الأوكرانية في التصدّي للجيش الروسي، وشنّها هجوماً مضاداً، نجحت هذه القوات في تحقيق اختراق في خاركيف، شرقاً، وخيرسون جنوباً، فتغيّرت تلك التقديرات وتغيّرت معها المفاهيم المصاحبة لها في شأن النتيجة المثلى للصراع، أو شكل «الانتصار المنشود» لدى أركان نظام كييف. وبحسب الباحث الأميركي المختصّ في شؤون الأمن والسياسة الدولية، ألكسندر جايل، فقد شجّع الانتصار على القوات الروسية في خيرسون، كييف، على مراجعة أهدافها. ويشرح جايل أن الأخيرة باتت تركّز أهدافها ليس فقط على طرد الروس من جميع الأراضي التي احتلّوها منذ شباط الماضي، بل على استعادة شبه جزيرة القرم التي ضمّتها روسيا عام 2014، وصولاً إلى استعادة السيطرة على كامل مناطق الشرق الأوكراني في إقليم دونباس من يد القوات الانفصالية المدعومة من موسكو.
ففي أيلول الفائت، شدّد وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي ريزنيكوف، على أن بلاده لن تتهاون في سبيل استعادة كاملة لوحدة أراضيها وسيادتها داخل حدود عام 1991. وعلّق جايل على كلام ريزنيكوف، معتبراً أن هذا الخطاب يشير إلى أن كييف تتّجه نحو رؤية أكثر تشدُّداً حول مفهوم «الانتصار» في الحرب، وتبنّي مجموعة أهداف استراتيجية أكثر طموحاً بعد نجاحاتها الميدانية في معارك خيرسون وخاركيف، معتبراً أن تحديات جمّة تقف أمام قدرة أوكرانيا على الاستمرار في هجومها البري المضادّ، بخاصة مع حلول فصل الشتاء. في المقابل، أَجبرت الانتكاسات الميدانية الأخيرة لموسكو، وضعف أداء الجيش الروسي، الكرملين على تقليص طموحاته، وسقف مفهوم «الانتصار» لديه بعدما كان يَتصوّر نصراً كاملاً وسهلاً في حربه على أوكرانيا.
ماذا ينتظر السياسة والميدان بعد خيرسون؟
في محاولة البحث في سيناريوات المشهد الأوكراني ما بعد الانسحاب الروسي من خيرسون، تشير المحاضرة في شؤون الديبلوماسية والعلاقات الدولية في جامعة نوريتش، لاشا كانتوريتزي، إلى أن معارك خيرسون مثّلت أكبر انتكاسة ميدانية لموسكو منذ الانهيار في خاركيف. وتَعتبر أن انتصار أوكرانيا هو بمثابة سيف ذو حدَّين؛ ذلك أنّه قد يقود حليفتها الأهمّ، أي الولايات المتحدة، إلى حثّ حكومة زيلينسكي على الدخول في مباحثات بهدف التوصّل إلى تسوية ديبلوماسية مع موسكو، مضيفة أن هذا الخيار يبدو معقولاً ومنطقياً وإنسانياً من وجهة نظر واشنطن. وتلفت إلى أن أكبر مشكلة يواجهها الجيش الأوكراني بعد خيرسون، تتمثّل في صعوبة تنفيذ عمليات برّية خلال فصل الشتاء، مؤكدة أن اقتحام نهر دنيبرو من جانب القوات الأوكرانية غير وارد لأنه سيؤدّي إلى وقوع خسائر فادحة في صفوفها. وتتابع أن المسرح الوحيد المتاح للعمليات العسكرية الهجومية لكلّ من الجيشَين الأوكراني والروسي سيتركّز في أقاليم الشرق، وبخاصة دونيتسك، إضافة إلى إمكانية مهاجمة كييف قِطع أسطول البحر الأسود الروسي عن طريق أسطولها الحديث من القوارب المسيّرة. وبالتزامن مع نفاد صبر الحلفاء الأوروبيين من كييف، جراء استنزاف مقدّراتهم العسكرية والاقتصادية والمالية، ترى كانتوريتزي أن موسكو، بدورها، ستستمرّ في توظيف المخاوف الغربية من إمكانية توسيع الحرب، من خلال التلويح مراراً بالأسلحة النووية و«القنابل القذرة».
هل توافق موسكو وكييف على تجميد المعارك؟
في خضمّ الحديث عن إمكانية تجميد الحرب في الفترة المقبلة مع اشتداد البرد، تذهب مجلة «ناشونال إنترست» إلى أن تجميد الحرب بعد خيرسون يحمل بعض الفوائد الملموسة لموسكو، لأنه يمكّن الكرملين أن يدّعي النصر من خلال استعادة الكثير من «الأراضي التاريخية» لروسيا من أوكرانيا، إلى جانب إبقاء سيطرته على الجسر البرّي الممتدّ من روسيا إلى شبه جزيرة القرم. كذلك، يمكن موسكو أن تستغلّ فرصة تجميد الحرب لعدّة سنوات بهدف التفرّغ لإعادة هيكلة قواتها البرية ومهاجمة أوكرانيا مرّة أخرى حين تسنح الفرصة؛ ذلك أن استمرار حالة المراوحة الميدانية، سواءً بحُكم الأمر الواقع، أو بموجب اتفاق ضمني بين واشنطن وموسكو، سيساعد الأخيرة على تعزيز سيطرتها على الأراضي التي تمّ الاستيلاء عليها لتكون أكثر استعداداً لـ«عملية عسكرية خاصة» في المستقبل. أيضاً، ستحاول موسكو القيام بكلّ ما من شأنه قلْب مسار إخفاقاتها الميدانية، بما يشمل محاولة فرض نسختها الخاصّة من «اتفاق السلام» المفترض لوضع حدّ للحرب الدائرة داخل حدود جارتها الجنوبية. وبحسب المجلة الأميركية، فإن تصاعد تهديد روسيا للغرب في الفترة الأخيرة بالأسلحة النووية والقنابل القذرة، وضرْب أعضاء «الناتو» عن طريق الخطأ بالصواريخ أو الطائرات من دون طيار، دليل على مثل هذه التوجّهات.
سيبقى مفهوما الانتصار والهزيمة خاضعَيْن لاعتبارات السيطرة الميدانية التي يحقّقها كلّ طرف من أطراف الصراع في أوكرانيا
في المقابل، يمكن القول إن أوكرانيا في حال وافقت على تجميد الحرب، ستخسر، باعتبار أن ذلك سيعني السماح للقوات الروسية بتعزيز سيطرتها على الأراضي التي تمّ الاستيلاء عليها. ومن ناحية أخرى، ستحقّق تلك الخطوة مكاسب لحكومة زيلينسكي من خلال إراحتها من الضغط الممارَس عليها من جانب حلفائها الغربيين والشعب الأوكراني. وتلفت المجلة إلى أنه في ظلّ هذا السيناريو، سيستحيل على كييف استئناف الحرب لاستعادة الأراضي المفقودة، إضافة إلى أنه سيتعيّن على القوات المسلّحة الأوكرانية الحفاظ على حالة استعداد دائم للحماية من هجمات جديدة من روسيا. أيضاً، تتخوّف أوكرانيا من احتمال أن تفقد الدعم الغربي لقضيّتها، وخصوصاً في حال رفْع العقوبات الغربية عن موسكو، وعودة التبعية الأوروبية للغاز الروسي، أو إذا حدث تقارب مفاجئ بين واشنطن وموسكو في حال عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، وإنْ كان السيناريو الأخير يزداد صعوبة بسبب مشكلات قضائية يواجهها الرئيس الأميركي السابق.