«الترامبيون» يعطّلون الكونغرس: المَلهاة الأميركية لا تنفد

«الترامبيون» يعطّلون الكونغرس: المَلهاة الأميركية لا تنفد

أخبار عربية ودولية

الجمعة، ٦ يناير ٢٠٢٣

يتدافع الجمهوريون لإيجاد مخرج يعتقهم من الأزمة التي وقعوا «ضحيّتها»، حين رفض عدد لا بأس به من النواب المحافظين جدّاً تبنّي ترشيح زميلهم، كيفن مكارثي، لرئاسة مجلس النواب. ويعني الجمود المتواصل تعطيلاً مستمراً للجسم التشريعي، وأعضاء غير محلّفين، أي نواباً من دون صلاحيات، أخذاً بما ينصّ عليه الدستور الأميركي. أمّا في المضمون، فيجلّي هذا المأزق، المأساة التي بلغها الحزب الجمهوري، في ظلّ غياب الوحدة بين أعضائه، ومساعي الكتلة المتشدّدة لتعطيل أيّ عمل تشريعي لا يراعي كافة متطلّباتها مهما بلغت سقوفاً مرتفعة. في وضع كذاك، لن يكون أمام الحزب «المنتصر» إلّا الصلاة من أجل فرجٍ لن ينجّيه من الاختلالات الآخذة في التوسّع
جولة بعد أخرى، كرّر الحزب الجمهوري سابقة عمرها مئة عام، برفض نوابه أو بعضهم الالتفاف حول كيفن مكارثي، المرشَّح لمنصب رئيس مجلس النواب، خلفاً لنانسي بيلوسي. وإنْ كان عدد الرافضين دعمه لا يتجاوز الـ20 نائباً - 17 منهم دعم ترشيحهم الرئيس السابق دونالد ترامب -، فإن هؤلاء جميعهم ينتمون إلى الجناح المتشدّد جدّاً في الحزب، ولن يقبلوا بمرشّح لا يتبنّى توجُّهاتهم، وهو ما يحيل، مرّة جديدة، إلى الشرخ المتعاظم داخل «الجمهوري» نفسه، وهشاشة المعسكر المحافظ الذي يبدو أنه انشطر بالفعل إلى حزبَين متصارعَين داخل الحزب الواحد. على أن المسألة لا تتعلّق بنجاح المجلس أو فشله في انتخاب كيفن مكارثي لرئاسته، بل بالقواعد التي رسا عليها الحزب الجمهوري منذ صار ترامب ركناً من أركانه. ومجلس النواب الأميركي هو أعلى هيئة تشريعية في الولايات المتحدة، ورئيسه يُعدّ الثالث في هرميّة المشهد السياسي بعد رئيس البلاد ونائبه، لكن حالة الفوضى التي سادت جلسات الكونغرس، في الأيّام القليلة الماضية، كشفت هي أيضاً عن آثار الشرخ المشار إليه على كبرى المؤسسات الديموقراطية، وفي توقيت يمثّل حساسيّة استثنائية بالنسبة إلى واشنطن المنخرطة بثقْلها في الحرب الأوكرانية، فيما تتّجه الأوضاع في الداخل، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، نزولاً.
 
الإحجام عن انتخاب رئيس لمجلس النواب، أو توافق الحزب الذي حاز غالبيّة في المجلس على تسمية مرشّح معيّن، يعني، وفق ما ينصّ عليه الدستور الأميركي، أنه لا يمكن «النواب» استئناف عملهم إلّا بعد إتمام عملية الانتخاب، أي أن كافة الجلسات ستبقى معلّقة إلى حين حصول أحدهم - أياً كان اسمه - على الـ218 صوتاً الضرورية من مجموع 435 لتزعُّم المجلس، فيما لم يتجاوز مكارثي - المصرّ على المضيّ في ترشُّحه - عتبة الـ203 أصوات. وعن هذا، أشارت وسائل الإعلام الأميركية، إلى أن مؤيّدي النائب عن كاليفورنيا قد يسعون إلى محاولة إقناعه بأحد الأمرَين: فإما إبرام صفقة مع معارضيه داخل الحزب تمكّنه من الفوز، وإما التنحّي إفساحاً في المجال أمام آخرين للمنافسة على المنصب.
ينصّ التعديل الـ20 لعام 1933 على أن «الكونغرس يجتمع مرّة واحدة على الأقلّ في كل عام، ويبدأ هذا الاجتماع ظهر اليوم الثالث من شهر كانون الثاني، ما لم يُحدِّد القانون يوماً آخر». وللدستور متطلّبات أخرى يجب الوفاء بها، كما هو مكتوب في المادة السادسة: «يجب على أعضاء مجلسَي الشيوخ والنواب (...) وأعضاء المجالس التشريعية للولايات المتعدّدة، وجميع المسؤولين التنفيذيين والقضائيين، في كل الولايات (...) الالتزام بالقسَم لدعم هذا الدستور». يُفهم ممّا هو وارد في الدستور، أنه من دون «متحدّث باسم المجلس» (التسمية الرسمية)، لن يستطيع النواب الجُدد أداء القسم، فيظلّون أعضاء أو نواباً منتخَبين بدلاً من نواب كاملي الصلاحيات. وهذه، تقول صحيفة «واشنطن بوست»، ليست نقطة رمزيّة بالكامل؛ إذ تنصّ إجراءات مجلس النواب على أنه، تماشياً مع المادة السادسة، لا يتمتّع الأعضاء غير المحلّفين بصلاحيات المسؤولين المنتخَبين. وجاء في المبادئ التوجيهية الرسمية: «إلى أن يَلتزم العضو المنتخَب بالقسم، فإنه لا يتمتّع بجميع حقوق وامتيازات عضوٍ في الكونغرس... لا يحقّ للأعضاء الذين لم يقسموا اليمين، التصويت أو تقديم مشاريع قوانين. ومع ذلك، يشاركون في بداية الجلسة في الأعمال التنظيمية، مثل انتخاب رئيس مجلس النواب». ولأنه لا يمكن تقديم أيّ مشاريع قوانين أو التصويت عليها، لا يمكن أيّ تشريع أن يمرَّر في مجلس النواب، وإذا لم يتم تمرير أيّ تشريع في المجلس المذكور، فلا يمكن إرسال أيّ تشريع من الكونغرس إلى البيت الأبيض ليصبح قانوناً.
على رغم دعوة ترامب أنصاره في المجلس إلى دعم ترشيح مكارثي حتى «لا يتحوّل النصر العظيم إلى هزيمة عملاقة حرجة»، إلا أن دعواته لم تلقَ آذاناً صاغية، في ما يبدو، مع مضيّ الوقت، أن قبضته الحزبية تتراخى. ومردّ إصرار المعارضين على موقفهم، فشل مكارثي الذي قاد حملة دعم مرشّحي الرئيس السابق في انتخابات الكونغرس الأخيرة، في اكتساح المجلسَين أو حتى مجلس واحد، بالكاد استطاع الجمهوريون أن يحصلوا فيه على غالبية ضئيلة، حالهم حال نظرائهم الديموقراطيين في مجلس الشيوخ. ويبلغ عدد النواب الجمهوريين الذين أحجموا عن التصويت لمكارثي، 20 نائباً من مجموع 222 عضواً في التجمُّع الجمهوري، رفض أكثر من نصفهم نتائج انتخابات عام 2020 التي قالوا إنّها «مسروقة» أو «مزوّرة»، واعتبروا أن دونالد ترامب هو الرئيس الشرعي. وتعليقاً على هذا الرفض، تقول صحيفة «نيويورك تايمز» إن الجمهوريين المتطرّفين يسعون وراء إعادة تشكيل الكونغرس والحكومة، وإنه في قلْب المعركة على رئاسة المجلس، هناك ضغط يميني لمزيد من النفوذ. فـ«التمرُّد» ضدّ النائب كيفن مكارثي ومسعاه للحصول على منصب الرئيس «متجذّر ليس فقط في العداء الشخصيّ له، وإنّما في دافع أيديولوجي عميق من قِبَل مجموعة من المحافظين اليمينيين المتشدّدين للحدّ بشكل كبير من حجم ونطاق الحكومة الفيدرالية، وإصلاح الطريقة التي يعمل من خلالها الكونغرس»، على ما تورد الصحيفة. ويضغط هؤلاء المعارضون، بحسبها أيضاً، من أجل «موازنة اتحادية متوازنة، ويريدون قواعد خاصّة من شأنها أن تسهّل على المشرّعين التخلُّص من المكاتب الفيدرالية وطرد الموظّفين الحكوميين، وأن تجعل الأمر أكثر صعوبة لتأمين المخصّصات لتوجيه الأموال الفيدرالية إلى المشاريع الفردية. وتسعى المجموعة أيضاً إلى تحصين شديد للحدود الأميركية مع المكسيك، وتفكيك دائرة الإيرادات الداخلية، والتخلّص من ضرائب الدخل الفيدرالية واستبدالها بضريبة استهلاك»، إذ إن البلد، كما يقول النائب تشيب روي (جمهوري من تكساس)، الخصم البارز لمكارثي، «محطّم بشدّة، ونحن بحاجة إلى إصلاحه»، وإن الولايات المتحدة تريد «وجهاً جديداً ورؤية جديدة وقيادة جديدة».
تكشف الأزمة المستفحلة والقتال الدائر على المنصب، عن غالبية نيابية منقسمة ومشوّشة، تفتقر إلى برنامج عمل موحّد. وسلّط الشلل الحاصل، الضوء على المعضلة التي تواجه الجمهوريين في مجلس النواب: «بصرف النظر عن التنازلات المقدَّمة لبعض أولئك في أقصى اليمين، فهم ببساطة لن يلينوا وينضمّوا إلى زملائهم حتى لو كان ذلك من أجل الصالح العام لحزبهم، إنهم يَعتبرون أنفسهم محافظين أصوليّين لا يمكن استرضاؤهم ما لم تتمّ تلبية جميع مطالبهم - وربما حتى ذلك الحين، فإن أجندتهم هي في الغالب إلغاء تمويل الحكومة وتعطيلها وتفكيكها، وليس المشاركة فيها. وهذا يعني أن كل مَن يخرج من معركة القيادة الفوضوية سيواجه مقاومة عميقة الجذور لدى محاولته رعاية فواتير الإنفاق وغيرها من الإجراءات التي تُعتبر أساسية للحكم»، تقول «نيويورك تايمز». وبحسب جون فيهيري، الخبير الاستراتيجي الجمهوري والمساعد السابق في مجلس النواب، فإن «المتمرّدين لا يحبّون مكارثي، ويبدو أنهم غير قادرين على إيجاد طريقة لتقبُّله. هم يفتقرون إلى النضج التشريعي لفهم أن هذه المسائل ليست شخصيّة، بل مجرّد عمل». ولكن حتى الآن، ليس لدى النائب عن كاليفورنيا منافس حقيقي، بل يجري فقط تداول اسم رئيس كتلة مجموعة الجمهوريين، ستيف سكاليس، كبديل محتمَل، إلا أن فرصه لا تبدو كبيرة.
ماذا يحدث إذا لم يتمكّن الحزب الجمهوري، صاحب الغالبية في مجلس النواب، من انتخاب رئيس؟ في هذه الحالة، تشير «واشنطن بوست»، إلى أن «الأعضاء المنتخبين لن يخرجوا ببساطة ليبحثوا عن وظائف جديدة». يمكن أن يكون هناك، مثلاً، متحدّث مؤقّت، يتمّ اختياره بالتزكية لتحريك الأمور، كما يمكن المجلس تغيير القواعد للسماح بانتخاب رئيس بغالبية الأصوات بدلاً من غالبية الأصوات المدلى بها. هكذا تم اختيار «المتحدث» في عام 1856، بعد أكثر من 100 جولة اقتراع؛ أو يمكن أن يوافق المجلس ببساطة على رئيس جديد في إحدى الاقتراعات القليلة التالية، ممّا يحدّ من تأخير الأعضاء الجدد في أداء اليمين، وهي بلا شكّ النتيجة الأكثر ترجيحاً.