الغرب بعد عام من الحرب في أوكرانيا: لا خطط سوى التّصعيد

الغرب بعد عام من الحرب في أوكرانيا: لا خطط سوى التّصعيد

أخبار عربية ودولية

الاثنين، ٢٧ فبراير ٢٠٢٣

بعد مرور عامٍ كامل على اندلاع الحرب في أوكرانيا، والتي أثّرت بشكل كبير - بل سوف تُغيّر يوماً بعد يوم - في خريطة التحالفات والتوازنات العالمية سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً، وحوّلت العالم إلى ساحات صراعٍ ومواجهة بين القوى العالمية الكبرى، لا تزال الإدارة الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية تردّد العبارات والمصطلحات المخاتلة التي لا تقترب أبداً من حقيقة الأمر الواقع الذي أفضى من وجهة النظر الروسية إلى الحرب في أوكرانيا.
وها هو جاك سوليفان، مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس جو بايدن، يقول: "لا أحد يهاجم روسيا"، ويعتبر أنّ الادّعاء بأنّ روسيا كانت تتعرّض لشكلٍ من أشكال التهديد العسكري من أوكرانيا أو من أي طرف آخر هو "فكرة سخيفة". 
وفي الحديث عن "السّخف"، لم ينسَ سوليفان أنْ يُذكّر العالم بـ"الفكرة" الأميركية التي ترى أنّ الحرب في أوكرانيا هي "صراعٌ بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية".
جاء حديث سوليفان الاستنكاريّ تعليقاً على الخطاب الأخير الذي ألقاه الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في 21 شباط/فبراير الجاري أمام الجمعية الفيدراليّة الروسيّة، والذي تحدّث فيه مطوّلاً عن الحرب، وعن الصراع العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة والغرب ضد بلاده، والذي تُعتبَر أوكرانيا ساحته الرئيسية حاليّاً. 
ومن المؤكّد أنّ سوليفان استمع جيّداً إلى الأرقام والإحصاءات التي ذكرها الرئيس الروسيّ، ومنها أنّ الولايات المتحدة والغرب أضاعوا 150 مليار دولار لتسليح أوكرانيا، بغية استخدامها كساحة حربٍ ضد روسيا.
كما استمع بوضوح إلى سردٍ روسيّ طويل يشرح كلّ خطط واشنطن و"الناتو" في استهداف موسكو منذ لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي وبدء تمدّد "الناتو" شرقاً لمحاصرة روسيا والتضييق عليها، وصولاً إلى اللعب الفاضح في حدائقها الأمامية والخلفية، ثم بلوغ "لحظة أوكرانيا" الخانقة التي دفعت موسكو إلى الخيار الوحيد المتبقّي، وهو الحرب.
لكنّ كلّ الشرح الروسيّ الذي بدأ مبكراً وعالياً خلال مفاصل عديدة على مدى السنوات العشرين الأخيرة، لعلّ أبلغها صراخ بوتين في وجه الغرب خلال مؤتمر ميونيخ للأمن العام 2007، حين اتّهم الناتو بالكذب والخداع وعدم الوفاء بتعهّداته بالامتناع عن التمدد شرقاً باتّجاه بلاده، والتوقف عن نشر معدّات الحلف الصاروخية في بلدان أوروبا الشرقيّة، كل هذا الشرح المُسهَب لم يلقَ لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة ما هو أكثر من عبارات الاتّهام بـ"السخف"، ثمّ "البصق في وجه العالم"، على حدّ تعبير الرئيس بوتين في خطابه الأخير.
ترى موسكو أنّ ما يجري هو حرب بالوكالة تقوم بها الولايات المتحدة و"الناتو"، وتستهدف وجود الاتحاد الروسيّ بحدّ ذاته، ويؤمن قادتها بأنّ هزيمتهم في هذه الحرب تعني القضاء على روسيا إلى الأبد.
لهذا، من غير الممكن أو المسموح خسارة الحرب تحت أيّ ظرف، وهو الأمر الذي تراه واشنطن وحلفاؤها الأطلسي أيضاً، وهو، بالتالي، ما يجعل خيار الحلّ الدبلوماسيّ بعيداً جدّاً حتى اللحظة، وخصوصاً أن تصرفات الغرب وتعاطيه مع هذا الصراع ليس فيها ما يوحي بوجود هذا الخيار في عقول القادة الأميركيين والغربيين.
ويكفي استعراض مواقف واشنطن والغرب وتصرفاتهم وخطواتهم منذ اندلاع شرارة هذه الحرب، لندرك أننا أمام صراع طويل قد يتطوّر نحو أشكال مختلفة وواسعة على مستوى العالم، وقد يستخدم فيه الطرفان أسلحة جديدة.
ولعلّ إعلان الرئيس الروسي في خطابه الأخير تعليق مشاركة بلاده في معاهدة "ستارت" التي وقّعتها روسيا مع الولايات المتحدة الأميركية عام 2010، ودخلت حيّز التنفيذ في شباط/فبراير 2011، وهي المعاهدة التي فرضت قيوداً على الترسانة النووية الإستراتيجية للبلدين وعلى نشرها في العالم، وحدّدت عدد الرؤوس النووية التي يستطيع كلّ منهما الاحتفاظ بها (1550 رأساً نوويّاً، و700 قاذفة إستراتيجية)، يحمل إشارة إلى احتمال تطوّر الصراع مع الغرب وانزلاقه نحو مواجهة عسكرية بالأسلحة الإستراتيجية، بما فيها الخيار النووي المحدود.
وكان بوتين قد ذكر أيضاً أنّ من أهداف الغرب في هذه الحرب هو تحويل الصراع من محلّي إلى عالمي، وهو كلام يُحيلنا إلى تصريح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبرغ، الذي أعرب، في معرض تعليقه على خطاب الرئيس الروسيّ، عن "القلق أكثر فأكثر من احتمال تقديم بكين دعماً عسكريّاً لموسكو".
هذا التصريح يُترجم بوضوح كلام بوتين وقراءته لمخططات الغرب، خصوصاً أيضاً إذا ما التفتنا قليلاً إلى تصريح قائد القوات الأميركية في اليابان جيمس بيرمان لصحيفة "فايننشال تايمز" في الآونة الأخيرة، إذ قال إنّ الولايات المتحدة "تستخلص العبر" من الحرب الأوكرانية لإعداد المسرح المناسب في تايوان.
واعترف بيرمان بأنّ واشنطن اشتغلت على هذا الإعداد في أوكرانيا، من خلال تسليح الأوكرانيين وتدريبهم، والتخزين المسبق للإمدادات، وتعيين المواقع المناسبة لتقديم الدعم أثناء الحرب، وهو ما يجري العمل عليه بشأن النزاع مع الصين حول تايوان، إذ يجري إعداد المسرح في الفلبين واليابان وأماكن أخرى، وهي كلّها مؤشّرات تدلّ على نيّة واشنطن توسيع المواجهة عالميّاً انطلاقاً من أوكرانيا وصولاً إلى تايوان وساحات أخرى.
ميدانيّاً، يُترجم الغرب خططه تلك بكل الوسائل الممكنة، فبعد تزويد الولايات المتحدة ودول "الناتو" أوكرانيا بالصواريخ المضادة للدروع (غالفن) والصواريخ المضادة للطائرات (ستينغر) في المرحلة الأولى من الحرب، أقدمت واشنطن على تزويد الأوكرانيين بصواريخ "هيمارس" التي يصل مداها إلى 80 كيلومتراً، ثم صواريخ "باتريوت" المضادة للطائرات، وأيضاً أحدث طراز من دبابات "أبرامز" (أم 1 إيه 1).
وقدّمت بريطانيا دبابات "تشالنجر"، وجادت فرنسا بدبابات "أم إكس" الاستطلاعية. من جهتها، قدّمت ألمانيا دبابات "ليوبارد 1" و" ليوبارد 2" القتالية، مع وعدٍ بأن تبلغ أعداد الدبابات الألمانية المقدّمة من هذا الطراز 178 دبابة خلال أسابيع.
وتلقت كييف، بضغط من برلين وواشنطن، تعهّدات من البرتغال وإسبانيا وفنلندا والنروج بتقديم دبابات "ليونارد 2"، وذلك بعد إعلان بولندا تقديم 12 دبابة من هذا الطراز. وقد أعلن وزير الدفاع الألماني، بيريس بوستريوس، خلال زيارته كييف قبل أسبوعين، أنّ بلاده سترسل بحلول نهاية هذا الشهر المزيد من صواريخ "كروز" الموجّهة، ودبابات دفاع جوّي من طراز "غيبارد"، ودبابات هندسية من نوع "داكس"، إضافة إلى دبابات من نوع "بيبر" ستتلقاها أوكرانيا في آذار/مارس المقبل. 
من جهتها، وفي إطار انخراطها في "الحرب لأجل الديمقراطية"، قدّمت دولة قطر بعض الدبابات أيضاً، كما عرض كيان الاحتلال الإسرائيلي، بتشجيع من واشنطن، تزويد كييف بأسلحة هجومية وبنظام "القبّة الحديدية". 
وفي حين طلبت كييف من الإدارة الأميركية تزويدها بطائرات "إف 16"، فإن واشنطن لم تستجب لهذا الطلب حتى الآن، بذريعة أنّ الطيارين العسكريين الأوكرانيين يحتاجون إلى وقت طويل من التدريب على هذا النوع من الطائرات.
إلى جانب الدعم العسكري المحموم من واشنطن والغرب، أقدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون على إقرار أوسع عقوبات من نوعها في القرن الحاليّ على روسيا، بهدف خنقها اقتصاديّاً، إلى جانب إشغالها وإرهاقها عسكريّاً، لكنّ موسكو استطاعت الصمود والتقدّم على هذه الجبهة أيضاً، إذ رفضت دول كثيرة الرضوخ لمشيئة واشنطن في مسألة العقوبات، كما امتنعت العديد من الدول النفطية عن تحقيق إرادة واشنطن في خفض أسعار الطاقة العالمية.
وقد حولت موسكو فوهة هذا السلاح باتّجاه الغرب الذي يحتاج إلى نفطها وغازها وقمحها ومواردها المعدنية النادرة، إلى أنْ تعالت أصوات شعبية ورسمية في أوروبا تطالب برفع هذه العقوبات، قبل أن تتحول إلى ضحية لهذا الحصار وتلك العقوبات.
يبدو واضحاً من خلال خطاب الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين الأخير أن لا سبيل أمام موسكو سوى الانتصار في هذه الحرب، وأنها ستُهاجم أكثر كلّما زاد الغرب دعمه العسكري للأوكرانيين وتمويله لهذا الصراع الذي سيمتدّ إلى أنْ يُعلن زيلينسكي نفاد الوقود البشري الأوكراني الذي يستخدمه "الناتو" في هذا الصراع.
كذلك، فإنّ أهداف موسكو واضحة جدّاً حتى اللحظة ولا رجعة عنها، وهي تتلخّص بالاعتراف الأوكراني والغربي بضمّ الأقاليم الأربعة إلى روسيا، وإقامة نظام محايد ودولة منزوعة السلاح في أوكرانيا. وإلى حين تحقيق ذلك، فإنّ روسيا ماضية في عمليتها العسكرية، وسوف تطوّرها تماشياً مع أيّ وقائع ميدانية وعسكرية يفرضها الغرب.
وخلال كل هذا، تُعبّر موسكو على لسان رئيسها عن إيمانها بأنّ هذه الحرب ستفضي إلى إقرار نظام عالميّ جديد لا تكون الولايات المتحدة فيه القطب الأوحد الآمر الناهي، ليس عسكريّاً واقتصاديّاً فحسب، بل أخلاقيّاً أيضاً. 
ومن المؤكّد أنّ دولاً عديدة، وعلى رأسها الصين، تقف متأهبة خلف روسيا، مترقّبةً احتمال دفع الولايات المتحدة هذا الصراع نحو التوسّع أكثر ليطال الجميع بشكل مباشر، ولتتضح صبغته العالمية التي لا بدّ من أنها ستفضي إلى ولادة ذاك النظام المنشود.
الميادين