في غياب القدوة الحسنة.. سلوكيات خارجة عن أدبيات المجتمع وانزلاق جماعي في المخالفات

في غياب القدوة الحسنة.. سلوكيات خارجة عن أدبيات المجتمع وانزلاق جماعي في المخالفات

شعوب وعادات

الجمعة، ٣ نوفمبر ٢٠١٧

حين خرجت تلك الفتاة الصغيرة من عيادة طبيّة لمعالجة الأسنان، تخلصت من منديل ورقي، كانت تحمله في يدها، وألقته على أرضية غرفة الانتظار، دون أن تعير اهتماماً لسلة المهملات القريبة منها، والموضوعة خصيصاً لهذا الغرض، وللأسف لم يظهر على ملامحها أي إحراج أو خجل من هذا السلوك، وكأنه تصرف في السياق الطبيعي، وحين طلب منها بلطف أحد الأشخاص المتواجدين في القاعة أن تحمل المنديل، وتلقيه في مكانه المخصص رغبة منه في تعليمها سلوكاً إيجابياً، أصمّت الفتاة أذنيها، وتجاهلت تماماً المحاولة التي قام بها.

وإذا كانت الصورة السابقة مفهومة بعض الشيء، أو مبررة قليلاً بالتعامل معها كسلوك طفولي في طور التشكل لفتاة صغيرة تحتاج مراحل كثيرة من التعليم، والتدريب، والاقتداء بنماذج حسنة لتعديل تصرفاتها، وتحسين سلوكها، فمن غير المفهوم، أو المبرر، بل من المستغرب تماماً تتمة الموقف والصورة، حين خرج ولي أمر تلك الطفلة من العيادة، وتصرف هو الآخر بسلبية مطلقة، فرمق باستياء الشخص الذي طلب المحافظة على نظافة القاعة، وكأنه يريد أن يقول له: لا تتدخل، هذا ليس من شأنك، بدل أن يقوم هو بتصحيح سلوك الفتاة الصغيرة بإلقاء المنديل أمامها، أو دفعها لوضعه في سلة المهملات، ثم انصرف خارجاً من العيادة، ومنديل الورق في الأرض خلفه!!.

في غياب القدوة

ولعل من المؤسف كثيراً أن الصورة السابقة لم تعد اليوم إلّا حالة مصغرة ومكررة لتجليات وصور كثيرة في المجتمع، مجتمع تغيب القدوة الحسنة عن الكثير من أبنائه، أو تقتدي بنماذج سلبية في العائلة أو المحيط، ليس في النظافة فحسب، بل بمعايير وقواعد أخلاقية كثيرة كالصدق، والأمانة، والالتزام بالمواعيد، والمحافظة على العهود، والمواثيق، ما ينحو بالمجتمع نحو الهاوية، ويتركنا حائرين أمام أسئلة مخيفة، خاصة حين نتساءل عن مصير الجيل القادم الذي ينشأ، ويتربى على سلوكيات خاطئة، وتصرفات سلبية، وهو من سيقود دفة المجتمع مستقبلاً، وينهض به نحو التطور والارتقاء، كيف سيتمكن المجتمع والأطفال الجدد من أداء تلك المهمة الجسيمة، إن ترك بين أيدي نماذج قدوة سلبية كالمثال السابق، فالتصرف السلبي لطفل يصبح مفهوماً تماماً، ومفسراً بوجود نموذج رديء وسيىء، وقدوة فاشلة ترافق تعليمه.. تتحدث ربة المنزل أم أسامة عن أهمية مراقبة الأهل لسلوكهم وتصرفاتهم أمام الطفل: الطفل مرآة عاكسة للأهل، ومن التناقض فعلاً أن يقوم بعض الأهالي بدفع أطفالهم إلى الصدق في حين أنهم يكذبون أمامهم، أو الأمانة، وهم يقومون بالغش، وتكمل: أحاول دائماً، وأحرص على الانتباه لتصرف أبنائي، لأنهم يراقبون تصرفاتنا بدقة، كذلك أحاول قدر الإمكان مساعدتهم في اختيار الأصدقاء، لأن الطفل يراقب، ويتعلم بسهولة، ويتقمص بسرعة سلوكيات الأسرة.

أكثر سلبية

أمثلة أخرى كثيرة يمكن الحديث عنها، وبعضها  مواقف ذكرت أمامنا، فمثلاً يردد لؤي ابن الثلاثة عشر عاماً الكثير من الكلمات النابية أمام جيرانه وأصدقائه لدرجة تجعل أصدقاءه في إحراج من وجوده معهم، وتجعل أهله في حالة خجل دائم لسلوك وتصرفات ابنهم، وبالاستفسار من بعض أقارب ذلك الطفل، تبيّن أن الصبي كان يردد الكثير من تلك الكلمات والألفاظ النابية حين كان في سن مبكرة دون حتى أن يفهم معناها وسط تشجيع من أهله الذين كانوا يضحكون ويبتسمون حين ينطق تلك الكلمات دون علمهم أن تصرفهم هذا، إنما يشجع الطفل، ويجعله يعتقد أن تصرفه صحيح تماماً، فالضحك حالة إيجابية تثبت السلوك الذي أنتجها، وبالتالي أصبح حال الولد على تلك الحال.. صورة أخرى شاهدناها لطفل صغير كان يقف منتظراً بالدور أمام أحد الأفران قبل أن يقتحم رجل آخر دوره ويأخذ مكانه، وحين حاول الصغير أن يعترض على هذا التصرف، واستفسر من الرجل بلباقة لا تخلو من الجرأة عن عدم التزامه بالدور، كان رد الرجل صادماً للطفل حين أجابه: “عمو بس تصير كبير فيك تطحش”، صمت الطفل دون أن يقتنع تماماً، لكنه ربما سيتشكّل لديه اعتقاد بأن الضخامة واستعراض العضلات يمكن أن تجعل الفرد في المقدمة، ولا أهمية تذكر للدور أو الانضباط والتنظيم بعد ذلك.

جزء من الأشياء

في المقابل تؤكد المدرّسة سامية، وهي معلّمة لغة عربية، على ضرورة أن يشارك الطفل بنفسه في القيام بالنشاطات، ونقل السلوك الإيجابي إليه من خلال المعلّم نفسه والمدرسة، والذي يمكن أن يكون قدوة للطفل، فالتلميذ حين يشارك في عمل تطوعي في المدرسة، أو يقوم بتنظيف صفه، سيعمل للمحافظة على نظافته، وعدم إلقاء الأوساخ فيه، وبكل تأكيد سيصبح هذا السلوك مدعماً ومعززاً أكثر عند التلميذ حين يشاهد المدرّسين أيضاً يقومون بسلوك مماثل، كأن ينظف الطاولة، أو الكرسي التي يجلس عليها، ومن المفيد فعلاً أن يتعلّم الأطفال العمل الجماعي، وينتقل السلوك الإيجابي إليهم من خلال الأنشطة المدرسية، مثل أسبوع النظافة مثلاً، أو رحلات عمل تطوعي، والمؤكد أنه لا يمكن لطفل قام بتنظيف صفه أو حيه وشارعه أن يلقي الأوساخ مجدداً، وبالتالي يجب التركيز على حالتين أساسيتين في التربية المدرسية، وهما: التعلّم بالمشاركة، وبكون الطفل أو التلميذ جزءاً من الأنشطة الصفية، والأمر الآخر أن يكون المدرّس نفسه قدوة جيدة للطفل الذي سيقلّده في الكثير من المواقف.

جزء من سلوك وشخصية

يؤكد الدكتور مهند إبراهيم، اختصاصي علم نفس الطفل في جامعة البعث، بعض الأمثلة التي وردت سابقاً فيقول: إن الكثير من السلوكيات التي نمارسها في حياتنا اليومية تعلّمناها فعلاً منذ الصغر، ومن خلال عملية تمثّل أو اقتداء الكبار من حولنا، وأصبحت جزءاً من سلوكنا وشخصيتنا، مثال طرق تواصلنا وتعاملنا مع الآخرين، فهل كان الكبار من حولنا يستمعون لبعضهم، ويتيحون لنا الفرصة للتعبير، أم يميلون للصدام؟!.. كل تلك الأمور التي قد لا ننتبه لها أثرت في طريقة تواصلنا وتعبيرنا عن أنفسنا، وحتى التعامل مع الأشياء من حولنا تسرب لنا من خلال مراقبتنا للكبار في حياتنا، كذلك الكثير من القيم وطرق التعبير والسلوكيات المختلفة الأخرى، ويؤكد إبراهيم: علينا أن نتذكر باستمرار أن أطفالنا سينظرون لنا بالطريقة نفسها التي نظرنا وتأثرنا فيها بالكبار الذين رعونا في طفولتنا، ويضيف: القدوة والنموذج كأسلوب تربوي على أهمية كبيرة في تشكيل السلوك، لأن اقتباس السلوك الاجتماعي الإيجابي والسلبي ينتج عن مؤثرات مرتبطة بعواطف الطفل وأحاسيسه، وتساعده هذه المؤثرات في إعطائه الأمثلة المطلوب منه الاقتداء بها.

تقمص وتقليد

ويشرح إبراهيم الآلية التي توضح عملية الاقتداء من قبل الطفل، حيث يبدأ الصغير عادة بالتمثّل بوالديه أول الأمر لارتباطه بهما عاطفياً، وكلما كبر زاد تعرّفه على كبار آخرين يخصونه، فيظهرون له أنماطاً من السلوك جديدة عليه، ويخصونه بالحب والحنان في آن واحد، فيقتدي بهم، أو بالذين يشعر بأهميتهم في حياته، وتتسع دائرة معارف الطفل، ما يتيح له فرصاً أكبر في مراقبة وتقليد أشخاص عديدين يقابلهم في حياته اليومية، فالسلوك لا يتم تعلّمه أو تشكّله في فراغ، وإنما ضمن محيط وبيئة وتفاعل يومي، وكثيراً ما لا يدرك الكبار دورهم الحيوي والفعّال، فيتفاجؤون بتقليد الأطفال كلامهم وسلوكهم، فالأطفال لن ينقلوا عنا ما لم نقل أو نفعل، بل ما كان ينبغي ألا نقوله وألا نفعله، فالطفل عندما يقلّد سلوك الكبار أو كلامهم، يتلقى تشجيعاً منهم أو تعزيزاً من خلال تبسم الكبار أو ضمهم له، أو تربيتهم على كتفه، فيتكوّن سلوك الطفل حسب القدوة، ويتمسك الطفل بالسلوك المطلوب ويحافظ عليه عندما يتعلّم أن هذا السلوك يؤدي إلى نجاحه ويظهر قدراته، وإذا أعجب الكبار وأثنوا عليه فإنه يكرره مراراً حتى يصبح جزءاً منه، لذلك فالقدوة ذات تأثير كبير في حياة الطفل، وفي تشكيل المجتمع مستقبلاً.

محمد محمود