بين دبلوماسية القوة ومنع التفاوض.. أميركا سقطت

بين دبلوماسية القوة ومنع التفاوض.. أميركا سقطت

تحليل وآراء

الخميس، ١٦ أغسطس ٢٠١٨

علي إبراهيم مطر
“السياسة هي الرحم الذي تتطور وتتخرج منه الحرب” (كلاوزفيتز)
 
لم تعد الولايات المتحدة الأميركية، تلك القوة التي كانت ترهب كل العالم. تبدلت المعايير وتغيرت المعادلات. بعد أن كانت واشنطن القوة المتربعة على عرش النظام الدولي بدأت تفقد سيطرتها تباعاً منذ أحداث 11 ايلول 2001، وإن كانت حتى الآن تسيطر على مفاصل كثيرة وتمتلك قوة هائلة إلا أنها لم تعد تسيطر كما في تسعينات القرن الماضي.
في السنوات الأخيرة، بدأت الدبلوماسية الأميركية تفقد فعاليتها، مع بدء فقدان تفوقها العسكري لجهة عدم تحقيق الانتصارات في كل حرب تدخلها، إلى أن بدأت تتحول استراتجيتها لعدم إدخال قواتها بمعارك مباشرة، وتحويل أعمالها إلى أذرع يقودها جنرالات أميركيون، وهذا ما أفقد الإدارة استراتيجية القوة في الدبلوماسية القائمة على لي ذراع الخصم أو العدو بسلاح التهديد والعقوبات.
في تحليلات كثيرة نشرت في واشنطن بدأ يظهر الإعتراف الأميركي بأن دبلوماسية القوة الأميركية تفقد زخمها نتيجة اختيارات سياسية وفق تقديرات مبهمة وسياسات معتمدة غير مجدية في الحفاظ على أمن الشعب الأميركي. وتكمن مشكلة الإدارة الأميركية بأنها غير ثابتة على آلية واحدة في السياسة الخارجية أو لنقل بالتعامل السياسي، فتختلف سياسة واشنطن بين الديمقراطيين والجمهوريين، فتارة تكون السياسة قائمة على الحرب الصلبة وأخرى على الحرب الناعمة ومع إمكانية الجمع بين السياستين، إلا أنه ليس بالضرورة أن تؤدي إلى نتيجة جيدة بالنسبة لها، مع فقد القدرة على تحقيق الانتصار من خلال استخدام احدى القوتين.
لقد ضعفت القوة الصلبة او اللينة لدى واشنطن بشكل مفرط نتيجة القصر تارةً والاستعلاء أخرى، في التعاطي مع ملفات كثيرة في السياسة الخارجية الأميركية من بغداد إلى بكين وكابول وموسكو وبيونغ يانغ وطهران. النموذج الإيراني جعل قدرة الولايات المتحدة الأميركية على التعامل مع “العدو” تتراجع بشكل ملفت، ففي مقابل صمود إيران تنعدم إحتمالات واشنطن بالانتصار، وإن كانت إدارة ترامب تستخدم أقصى قوتها الناعمة المتمثلة بالعقوبات على إيران وحصارها اقتصادياً، إلا أن تجربة إيران تقول أنها قادرة على الصمود في وجه هذا الحصار الذي لم يقدم أي جديد في مسألة الملف النووي، لأن إيران تأقلمت معه على مر أكثر من ثلاثة عقود.
لا شك أن العقوبات تؤثر على إيران ولم ينكر ذلك أي طرف في الجمهورية الإسلامية، إلا أن لدى الأخيرة القدرة على تخطي هذه العقوبات، ولدى الشعب الإيراني القدرة على التعامل معها والصمود بوجهها، وهنا يقول أحد الأصدقاء الإيرانيين وهو باحث في القانون الدولي إن الشعب الإيراني ومع أنه يعاني نتيجة هذه العقوبات التي تخنق وضعه الاقتصادي، إلا أنه ازداد كرهاً لواشنطن وأصبح أكثر عزيمة على الصمود والمواجهة. فطهران تدرك أن لديها الكثير من أوراق القوة في إدارة عملية المواجهة الاقتصادية والسياسية، وسيما أن وضعها حالياً مريح أكثر من ذي قبل، على اعتبار أن الأمم المتحدة لا تستطيع الضغط عليها كونها التزامت بالقرار الدولي الذي أقر الاتفاق النووي، كما أن روسيا والصين ومعهما الكثير من الدول الأوروبية الرافضة للعقوبات الأميركية تشكلان عامل قوة في المواجهة الإيرانية، وهذا ما يعطي طهران قوة دافعة في إدارة العملية الدبلوماسية.
كل ما تقدم يجعل لدى طهران مروحة من خيارات التعامل، فخيار الحرب الأميركية صعب الحصول، وبالتالي يمكنها أن تشكل قوة دبلوماسية قادرة على مواجهة السياسة الأميركية، سيما أن واشنطن تستخدم التهديد والحصار والعقوبات في سياستها مع إيران على اعتبار أن الدبلوماسية القوية هي وسيلة أخرى للحرب لكن بشكلها الناعم. إلا أنها لم تعد قادرة على فرض خياراتها جدياً، ومع أن ترامب يحاول الايحاء بالاستعداد للجلوس إلى طاولة المفاوضات لكن بشروطه وهذا ما يعني في حال حصوله فوز له على حساب حكومة روحاني لأن في العملية التفاوضية لا يتردد الأقوياء في استبعاد الضعفاء ولا تتأخر القوى العظمى المنتصرة عن الاستخفاف بالدول المهزومة ولا يجبن أصحاب المصالح عن فرض شروطهم وتحديد طلباتهم، وهذا هو حال واشنطن على مر التاريخ. من هنا ياتي القرار الحاسم والحازم والمتقدم جداً في منع التفاوض والحوار مع أميركا.
هذا القرار هو من أهم القرارت الاستراتيجية في وجه واشنطن، وقل نظيره في حقل العلاقات الدولية على أقل تقدير بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتربع وانشطن على عرش النظام الدولي، حيث لم يحصل أن رفضت دولة محاصرة التفاوض مع واشنطن، ومن هنا تنبع أهمية هذا القرار من الإمام علي الخامنئي الذي لم يعط فرصة لفرض واشنطن شروطها على طهران واستخدام دبلوماسية العقوبات ضدها. ومن هنا تنبع أهمية دور الإمام الخامئني في السياسة الإيرانية، “فإذا كان القائد مليئاً بطموحات كبيرة، وإذا تابع أهدافة بجرأة وقوة الإرادة، فسوف يصل إليها رغم كل العقبات”، وفق ما يقول كلاوزفيتز، وهذا ما سيعطي الجمهورية الإسلامية بقيادة هذا القائد الفرصة الأكبر للمواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية.
هذا الحسم والحزم والقوة والقدرة في إدارة العملية السياسية، يجعل ايران تشكل مدرسة منقطعة النظير في الإدارة الدبلوماسية، مدرسة تقوم على الصبر والصمود والمواجهة وعدم الرضوخ لمنطق القوة، فقلما نجد دولةً تصمد في إدارتها للتفاوض أمام الإدارة الأميركية كما ايران، وقلما نجد دولةً لم ترضخ بمجرد إشارة واشنطن لإمكانية التفاوض معها.
العهد