إدلب في نظر الجولاني.. بقلم: أنس وهيب الكردي

إدلب في نظر الجولاني.. بقلم: أنس وهيب الكردي

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٦ نوفمبر ٢٠١٨

تتوضع إدلب بوداعة في السهول الشمالية الغربية لبلاد الشام مشكلةً إحدى أكثر المناطق ‏خصباً على امتداد الجغرافيا السورية، وبمساحتها التي تقارب مساحة لبنان، وطبيعتها الغناء لا تزال المحافظة تشكل إحدى أسخن ‏المناطق في الجيوسياسة العالمية، وتحتل أولوية في الاتصالات الدبلوماسية لدزينة من الدول ‏الكبرى والإقليمية. ‏
وإن كانت الخصائص الجغرافية والبشرية قادرة على تفسير الأهمية التي تكتسيها محافظة ‏إدلب، فإن هذا التفسير يظل محدوداً وجزئياً، إذا لم يتم ربطه بالسياق الراهن للأزمة ‏السورية، والتيارات التي كانت فاعلة في كواليسها. ‏
لنا أن نرى أن كل تلك التيارات تلاقت في إدلب: الجهادية العالمية، الصعود التركي متلبساً ‏نزعة شرق أوسطية وتوجهه مطامح تركيا لاستعادة دورها القديم في الهلال الخصيب، سعي ‏واشنطن لتعريف دورها في المنطقة بما يتناسب مع أولوياتها الدولية، والولوج الروسي إلى ‏المنطقة من بوابة دعم الحكومة السورية، دور حزب «الاتحاد الديمقراطي» الكردي وتوجهه ‏الإقليمي المناصر لـ«حزب العمال الكردستاني – بي كي كي»، أخيراً، أزمة اللاجئين وصعود الأحزاب ‏الشعبوية في أوروبا، وإن كان الكثير من هذه التيارات معلومة، فإن بعضها يحتاج لمزيد من ‏الإضاءة، والسطور التالية تتناول بشكل خاص «الجهادية العالمية». ‏
يجري التعامل مع التيارات الجهادية كـ«بنى إرهابية» من دون إدراك الإستراتيجيات التي تحركها ‏والرؤية والتكتيكات التي توجه علمياتها، وهكذا، يظل فهم الأزمة السورية ناقصاً، من دون تفهم ‏إستراتيجية أحد أهم التنظيمات الجهادية، التي حازت قائداً كان له باعٌ طويلٌ في «الجهاد ‏العراقي»، قبل أن يؤسس ما يعرف في الأدبيات الجهادية بـ«الجهاد الشامي». ‏
في السنة الثانية من عمر الأزمة، كتب أمير «جبهة النصرة»، السلف لـ«حركة تحرير الشام»، أبو ‏محمد الجولاني، «إن إدلب تشكل قفل القنطرة لأي حل دولي في سورية وإن على الجهاديين ‏وضع اليد عليها، لمنع حل لا يتناسب مع رؤاهم».
كانت أغلبية المحافظة آنذاك بيد الحكومة ‏السورية، على حين كان عامل الجولاني، أبو ماريا القحطاني، يفرض سطوته على «الشرقية»، أو ‏المحافظات الواقعة شرقي نهر الفرات في يد التنظيم الجهادي. ليس من قبيل المصادفة ‏استناداً إلى هذه الكلمات، أن يكون الجولاني قد وحد جهود «النصرة» مع الجماعات الجهادية ‏وغير الجهادية الأخرى لإنشاء «جيش الفتح» شتاء العام 2015 بهدف السيطرة على إدلب، ‏متبنياً لاحقاً، سياسة إحلال «الجهاديين» الأيغور والشيشان والمصريين والأوزبك في مناطق ‏معينة من المحافظة، هؤلاء «الجهاديون» ليسوا، فقط، مقاتلين أشداء أثبتوا أنفسهم فيما ‏خاضوه من معارك، بل هم بمنزلة أوراق إستراتيجية، قد تدفع بعض القوى الكبرى ‏والإقليمية الكثير في سبيل تصفيتها، أو حمايتها بغرض الاستفادة من خدماتهم مستقبلاً ضد ‏بلدانهم الأم. ‏
يعول الجولاني، مستعيناً بأوراق القوى التي بيديه من التنظيمات الجهادية، شمال حلب وفي ‏ريف اللاذقية الشمالي، على نجاح مناوراته بين القوى الدولية والإقليمية المتصارعة، كي ‏يتمكن من تثبيت وضع إدلب، قدر الإمكان، مراهناً على العودة في المدى الطويل إلى الساحة ‏من جديد، لاعباً فاعلاً، ويظن بإمكانية تكرار تجربة حركة «طالبان» الأفغانية، التي تجد اليوم ‏من يمد لمسؤوليها السجاد الأحمر، بعد سبعة عشر عاماً من الصراع مع الأميركيين وحلفائهم، ‏وهي الحركة المتهمة بإيواء زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، ومساعدته على تنفيذ ‏ضربة 11 أيلول عام 2001. ‏
من هنا نراه، يتابع العلاقات الشائكة والمضطربة داخل مثلث أستانا المتشكل من روسيا وإيران وتركيا، ‏وكذلك بين هذه الدول والولايات المتحدة، والهدف الذي لا يعلو عليه هدف في الأهمية، ‏بالنسبة إلى الجولاني، هو ألا تتفق القوى الدولية والإقليمية على استئصال «هيئة تحرير ‏الشام». لذلك، يبتز الروس عبر تهديد قاعدة حميميم الجوية، والإيرانيين بالهجوم على بعض ‏القرى بريفي حلب وإدلب، والعالم أجمع بما لديه من «تنظيمات جهادية» عابرة للقارات، وحدها ‏تركيا، احتاجت من الجولاني جهداً متواصلاً وتكتيكاً متنوعاً، بين الابتزاز والتعاون، بهدف ‏المحافظة على علاقة مستقرة معها، تضمن له ظهيراً إقليمياً لا غنى عنه لاستمرار تنظيمه، ‏والورقة الأمضى في هذا الصدد هي التلويح للأتراك بالقضاء على التنظيمات المسلحة المقربة ‏منهم، والتي عبأتها أنقرة للقتال من أجل القضاء على النفوذ العسكري لتنظيم داعش في ‏شمال حلب، ومليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية في عفرين. مع ذلك، ما كان لمشروعي ‏‏«درع الفرات» و«غصن الزيتون» التركيين، أن يتما لولا أن الجولاني قد قرر غض الطرف عنهما، ‏إن لم يكن دعمهما من وراء الكواليس. ‏
إذن، تحتل المحافظة على وجود «هيئة تحرير الشام» في إدلب، أولوية قصوى بنظر الجولاني، ‏لكن الأورد أن يضيق الخناق عليها شيئاً فشيئاً في المرحلة المقبلة؛ فباتفاق الرئيسين الروسي ‏فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب اردوغان على إنشاء منطقة عازلة في محافظة إدلب، سحب ‏الروس ورقة أمن حميميم من يد الجولاني، والأرجح أن تتكلل مباحثات وزيري الدفاع الروسي ‏سيرغي شويغو والتركي خلوصي آكار حول سبل تطبيق اتفاق سوتشي، بالتوصل إلى تفاهمات ‏عسكرية تضمن استعادة الجيش السوري السيطرة على بلدة جسر الشغور غربي محافظة ‏إدلب، وفي الوقت نفسه مراعاة حساسية الأتراك فيما يتعلق بالوضع في مدينة تل رفعت ‏بريف حلب الشمالي، المسيطر عليها من مليشيا «الحماية الشعبية» الكردية. بذلك، سيتم ‏سحب ورقة جسر الشغور من هيئة «تحرير الشام»، البلدة التي تشكل مدخلاً لتهديد الساحل ‏ومدينة اللاذقية وريفها الشمالي الغربي.
مع ذلك، ليست «هيئة تحرير الشام» بصدد الاختفاء في قابل الأيام، والأرجح أن يبقى ‏للجولاني فسحة صغيرة للمناورة، لكن هذه المرة، عبر ما تبقى له من أوراق التنظيمات «الجهادية» العابرة للقارات.