ترامب: سننسحب ولكن!

ترامب: سننسحب ولكن!

تحليل وآراء

الأربعاء، ٩ يناير ٢٠١٩

من الصعب أن يصحح استدراك الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتأخر تداعيات قراره استعجال سحب قوات بلاده المحتلة للأراضي السورية.
فالثقة أصلاً معدومة لدى حلفاء وأصدقاء وأتباع واشنطن بسياساتها الدولية والإقليمية، والتجارب المتعاقبة مع الإدارات السابقة كافة كما الحالية مثالٌ حي على التخلي المفاجئ عن هؤلاء عندما تحين ساعة المغادرة أو التراجع أو إقفال هواتف المسؤولين الأميركيين بوجههم.
وهو سلوك ليس بجديد، مراجعة بسيطة لما فعلوه مع الموالين لهم من الفيتناميين الجنوبيين الذين كان الجنود الأميركيين يرفسونهم بأرجلهم بعدما حاولوا التعلق بأطراف المروحيات للهرب معهم، كافية لتصوير واقع من يراهن على تلك السياسات، إذ إنه لم يكن لدى مهندس الخروج الأميركي من فيتنام هنري كيسنجر وقت للتفكير بمصيرهم.
أما وضع شاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوي فكان أفضل بقليل من حيث توافر الوقت للهروب سريعاً، لكن المؤسسة العسكرية الأمنية الأميركية التي نصبته شرطياً على ممالك وإمارات الخليج العربية لم تكلف نفسها عناء توفير ملجأ له، إلى أن تطوع شبيهه بالتبعية الرئيس المصري السابق أنور السادات لاستضافته وما لبث أن واجه مصيراً أسوأ بكثير.
وكذلك كان حال بعض المسؤولين اللبنانيين وفي مقدمهم الرئيس الأسبق أمين الجميل والذين راهنوا على الوقائع التي فرضها الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، وعلى الاستثمار الأميركي عليها لتمرير أول اتفاق «سلام» عربي مع كيان العدو الإسرائيلي وبالتالي تغيير خريطة المنطقة، وما هي إلا أشهر قليلة حتى وجدوا أنفسهم وحيدين في وسط اختلال كبير في موازين القوى دفعهم لدق أبواب دمشق.
الأمثلة كثيرة، وسلسلة «الاستغناء» الأميركية عن الحلفاء والأصدقاء والأتباع تمتد إلى ما لانهاية، فعلى ماذا يراهن رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان من جهة والانفصاليون الأكراد من جهة أخرى؟
كان يأمل أردوغان قبل إعلان ترامب الانسحاب من سورية أن يستمر في الإمساك بعصا المراوغة من منتصفها، تارة يؤكد التزامه بالوعود التي قطعها لشريكيه في مسار «أستانا» الثنائي الروسي الإيراني حول معالجة أوضاع مدينة إدلب ومحيطها وطوراً يقوم بالتطبيع الميداني العسكري والأمني مع الاحتلال الأميركي، بحيث يُسير دوريات مشتركة مع قوات هذا الاحتلال في مدينة منبج وحولها كذلك يرسم حدوداً معه لمناطق نفوذه ونفوذها كي لا يتصادم بعضها مع بعضٍ، ومن البديهي أن يرسم هذا التطبيع أيضاً حدوداً لقواعد الاشتباك مع الانفصاليين الأكراد.
وعلى الطريقة الأميركية المتبعة لم يمنح ترامب أردوغان فرصة لالتقاط أنفاسه فركض الأخير لاهثاً خلف غطاءٍ روسي للحصول على إذنٍ يسمح له بالانقضاض على مناطق سورية جديدة بذريعة حماية الأمن القومي التركي!
غريب أمر رئيس النظام التركي، فهو حتى اليوم لم يفِ بأي من التزاماته في ما يعني إدلب وها هو يريد غطاءً روسياً سورياً إيرانياً وعراقياً لمد سلطانه من شمال سورية إلى شرقها، بحيث يقف شرطياً بالوكالة على جزءٍ من الحدود السورية مع العراق. ولما لم يجد له من نصير يحمي مغامرته الجديدة بادر إلى رفع الحواجز من أمام مسلحي «هيئة تحرير الشام أي جبهة النصرة أو القاعدة سابقاً ولاحقاً» لتفتك بمجموعات كان يدعي رعايتها باعتبار أنها «معارضة وطنية مسلحة».
ولكن أليست مفارقة أن يفتك التركي بالقطري أو القطري بالتركي نتيجة تبدل أولويات أتباع واشنطن بعد قرار الانسحاب المذكور؟
أما الانفصاليون الأكراد فلم يعد لهم حول ولا قوة، فمسلسل استنزافهم لم يتوقف ولن يتوقف ما داموا قد سعوا وارتضوا لعب دور الفيتناميين الجنوبيين. فهم حيناً وقودٌ للحرب الأميركية المزعومة ضد «الإرهاب»، وأحياناً كثيرة هم وسيلة ابتزاز بيد الراعي الأميركي لإبقاء النظام التركي على مسافة حذرة من الاقتراب أكثر من شريكيه الروسي والإيراني.
الاستدراك الأميركي المتأخر لن يغير قرار الانسحاب المُتخذ والمحسوم، لكنه سيمنح وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) مساحة من الوقت أكبر لترتيب شروط هذا الانسحاب لتحقيق هدفين: الأول، ضمان إبقاء الميدان في شمال وشرق سورية مشتعلاً على أن تبقى خيوط إدارته بيده من بعيد. والثاني، احتواء مفاعيل الانسحاب على المستوى السياسي بحيث يبقى الإسرائيلي مطمئناً والسعودي ممسوكاً والعرب الباقون في حالة تردد وضياع، والتركي محتاجاً لضوءٍ أخضر أو أصفر أميركي. على فرض أن يتمكن مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون خلال جولته الحالية في المنطقة من تدعيم أعمدة السياسة الأميركية التي تتداعى.