عن السِجال الأحمق حول “بيع” و”شراء” الجولان السورّي المحتل.. بقلم: فيصل جلول

عن السِجال الأحمق حول “بيع” و”شراء” الجولان السورّي المحتل.. بقلم: فيصل جلول

تحليل وآراء

السبت، ٣٠ مارس ٢٠١٩

 انتشر على نطاق واسع على وسائل التواصل الإجتماعي، سِجالٌ حادٌ بين علي الِديكْ المغنّي الشعبي السوري المشهور بأغنيتيه “طَلّْ الصباح ولكْ علّوشْ .. والحاصودي” وسلام الزعتري المقدّم السابق لبرنامج “شي. أن. أن” الساخِر على قناة “الجديد اللبنانية”. السِجال وقع قبل أيام في برنامج المنوّعات “منّا وْجُرّ” الذي تقدّمه محطة “أم. تي. في” اللبنانية أيضاً.
بدأ المذيع بطرح السؤال على ضيف البرنامج علي الدِيكْ حول موقفه من تزامن بثْ الحلقة مع توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب على اعتراف الولايات المتحدة بقرار ضمّ الجولان إلى إسرائيل. بدأ الدِيكْ بجواب مباشر، مُستنكراً القرار ومؤكّداً على أن هضبة الجولان ستعود إلى سوريا رغماًعن ترامب، فقاطعه الزعتري، وهو من الضيوف المُعتادين على الحلقة، بالقول إن “النظام السوري باع الجولان وإن هذا الأمر بات معروفاً منذ زمن طويل” فردّ الديك داعياً الزعتري لاحترام نفسه ومهدّداً بالخروج من الحلقة، فكان أن خرج الزعتري وبقي الديك مع تصفيق الجمهور تحية لسوريا وللأسد.
قضية “بيع الجولان” ليست جديدة، وغالباً ما يسوّقها خصوم وأعداء سوريا، للقول بأن الدليل على صفقة البيع هو بقاء الحدود السورية مع الجولان المحتل “آمنة” منذ العام 1974 تاريخ فكّ الإشتباك بين دمشق وتل أبيب.
تتكرّر هذه الحجّة حتى في السِجالات الشعبية، حول الدور السوري في المقاومة وفي مجابهة إسرائيل، واستخدامها لا يقتصر على أعداء سوريا وخصومها، بل يبادر إلى استخدامها في الجلسات الخاصة بعض أصدقاء سوريا في لحظة غضب، جرّاء موقف سوري أثار حفيظتهم لهذا السبب أو ذاك.
ولأنها سائدة وتُستعاد دائماً فإن فِرْية “بيع الجولان” تستحق لمرة واحدة على الأقل أن تناقش على الملأ لمعرفة أين وكيف ينبغي تصنيفها، ومن أين أتتْ وكيف استُخْدِمتْ ولماذا تُستعَاد بين الحين والآخر.
يستحق”بيع الجولان” أن يُدْرَجَ في إطار الشائعة، وهي أحد أهم تقنيات “البروباغاندا” التي تستخدم في الحروب أو في الصراعات السياسية، وتُفَبْركُ عادة بما يوحي بقربها الشديد من واقعٍ معيّن أو هزيمة أو أزمة تؤرِق الرأي العام. في الحال السورية تُستخدَمُ هذه الشائعة للطعن بمصداقية سوريا، ولشيطنة النظام والحكم والتشكيك بكل سياساته ومواقفه.
إنطلقت هذه الشائعة بعد حرب العام 1967 التي انتهتْ بسقوط الجولان وسيناء والضفة الغربية بيد الصهاينة في حرب خاطفة دامت 6 أيام. وانتشرت شائعات مُشابهة في مصر والأردن لتفسير الهزيمة المفاجئة حقاً. ستخرج الشائعة من التداول في الأردن ومصر بعد توقيع اتفاقات السلام مع إسرائيل وستبقى حول سوريا بسبب إمتناعها عن الخضوع للإرادة الإسرائيلية والإملاءات الأميركية والغربية. هذا الإمتناع الذي كلّفَ سوريا وما زال يُكَلّفُها ثمناً باهظاً يسمّيه التابعون والخاضعون والأذّلاء والمهزومون “مماتعة” قبل أن يعودوا الى شائعة “بيع الجولان”.
يَجدرُ التذكير أن إسرائيل هي التي أطلقت شائعات البيع والشراء في الصراع مع العرب. قالتْ إنها اشترتْ أرضَ الفلسطينيين الذين باعوها وصارت ملكية صهيونية وبالتالي “سبباً شرعياً” لقيام الدولة العبرية، وأن حرب الأيام الستة كسبتها إٍسرائيل ليس بميزان قوى قاهر يميل لصالحها وليس بسبب دعمها المطلق من الغرب على كل صعيد ، وإنما بسبب “البيع والشراء” للقول للعامة من العرب “حكّامكم باعونا أرضكم” وبالتالي عليكم أن تنزعوا ثقتكم منهم. فهم “يريدون التسلّط عليكم والبقاء في الحُكم وليس قتال عدوكم”..
إن إطلاق مثل هذه الشائعات القاتِلة في لحظة هزيمة مدوّية كهزيمة حزيران ـــــ يونيو عام 1967 يعطي الهزيمة نفسها أبعاداً عميقة ويُرسِّخُها بل يجعلها مطلَقة وغير قابلة لإعادة النظر في أية حرب مقبلة. والأخطر من ذلك هو عندما تتأكّد الشائعة من طرف باحث مسموع الرأي كالدكتور الراحل صادق جلال العظم وهو سوري الجنسية وخرّيج الجامعة الأميركية في بيروت، إذ يرى في كتابه “النقد الذاتي بعد الهزيمة” أن شرط الإنتصار على إسرائيل هو أن نصبح مثلها، أي أن على المهزوم أن يبلغ مرتبة المنتصر حتى يتمكّن من هزيمته وإن لم يفعل فهو باق في موقع المهزوم وعدوّه باق في موقع المُنتصر. معنى ذلك أن المهزومَ لا ينتصر بل يبيع أرضه أي “الجولان” في المثال السوري. يبقى أن من حُسن الحظ أن الجزائريين واليمنيين والأفارقة والفيتناميين لم يأخذوا بهذه المقولة، ولو فعلوا لما خرجتْ الدول المحتلة الشبيهة بإسرائيل من أراضيهم.
هكذا إذن يدخل عدوّك إلى تضاعيف وعيك ويقنعك أن هزيمتك أبدية وأن دولتك التي تبني خططاً لاستعادة الأرض والكرامة، ليست جديرة بالثقة، لأنها بالضبط باعت “الجولان” عام 1967 وليس لأن العالم الغربي برمّته كان خلف هذا العدوان وتسبّب في نتائجه.
إن تفاصيل القتال في الجولان في العامين 1967 و1973 تفصح عن بطولات باهرة أبداها العسكريون السوريون والعرب، وأن الإحتلال وقع على أجسادهم ولم يهربوا من المعركة ولم تهرب دولتهم من القتال وكان عليها أن تختار بين هدنة ووقف لإطلاق النار وبين مواصلته على أبواب دمشق وحاراتها. فاختارتْ الأول لحماية فرصها المقبلة في الصراع والتي سنرى كيف تم اعتراضها بربيع داعش والنصرة وذلك بالضبط حين كانت دمشق قد صارت قاعدة للمقاومة العربية في فلسطين ولبنان والعراق الأمر الذي يؤهّلها لفتح معركة الجولان في اللحظة المناسبة.
أما فِرْية “الهدوء” المستمر على جبهة الجولان منذ أربعين عاماً فهي تردنا من بلدان عربية معنية بالحرب على إسرائيل لكنها لم تطلق طلقة واحدة على الدولة العبرية منذ نشأتها، بل تستخدم أسلحة إسرائيل الدعاوية لإلحاق الهزيمة بالرأي العام المقاوِم والتشكيك بجدوى تضحياته في الصراع مع الكيان الصهيوني. لقد بقيت جبهة الجولان هادئة لأن الحرب العربية الإسرائيلية لا تُخاضُ ب “المباطحة” وإنما ببناء شبكة واسعة من القوى المقاتلة وإعداد وسائل القتال لتحقيق الإنتصار على العدو الأوحد للعرب في المنطقة.
إن تحرير جنوب لبنان ما كان له أن يتمّ من دون سوريا. هو انتصار لبناني سوري على الصهاينة ومثله تحرير العراق من الإحتلال الأميركي وبناء القوّة العسكرية الضارِبة في قطاع غزّة وكلها من أثر ” الهدوء” المزعوم على الحدود السورية الإسرائيلية.
يبقى أن سوريا كان بوسعها أن تبيع ال “10أمتار” المتبقية التي رفضت تل أبيب إعادتها في المفاوضات الإسرائيلية السورية عام 1999 حول الجولان فلماذا رفضت ؟ يمكن إحالة هذا السؤال على الخصوم الذين ينتصرون لعدوّهم على أهلهم عن قصد أو عن غير قصد، مع عِلمنا التام أنه لن يُغيّر في وعيهم “المضروب” والتابع قَيْدَ أنُملة، فما يُقال عن البيع هو سُبّة وليس حُجّة والشتائم لا تناقش وانما تُحال إلى موقعها الطبيعي في مزابل التاريخ.
الميادين