مصير «الناتو» المجهول.. بقلم: وليد شرارة

مصير «الناتو» المجهول.. بقلم: وليد شرارة

تحليل وآراء

الجمعة، ٥ أبريل ٢٠١٩

درجة عالية من الإرادوية، ومن الانفصال عن الواقع، تدفع الأمين العام لحلف «الناتو»، يانس ستولتنبرغ، للزعم في الذكرى السبعين لتأسيسه أنه «الحلف الأقوى والأكثر نجاحاً في التاريخ». ليس من المبالغة القول إن مصيره أصبح على المحك بسبب الخلافات المتعاظمة بين أعضائه البارزين. والأنكى، بالنسبة إلى الحريصين على بقاء الحلف، أن الخلافات ليست محصورة بين الأميركيين وبعض الأوروبيين، بل هي إلى تزايد بين الأوروبيين أيضاً. القضية الخلافية المركزية هي الاتهام الموجّه من الولايات المتحدة لدول أوروبية، وأساساً لألمانيا، بعدم الالتزام بتعهداتها برفع نسبة إنفاقها العسكري إلى 2% من قيمة ناتجها المحلي الإجمالي. وهو اتهام تتبناه أيضاً أطراف أوروبية لدوافع تختلف عن الدوافع الأميركية. قضية خلافية أخرى هي تلك المرتبطة بتطور أنماط من التعاون، قد تصل مستقبلاً إلى مستوى الشراكة، بين بعض دول الحلف وروسيا، التي أعيد تصنيفها على أنها التهديد الأكبر لدوله. تكشف هذه الوقائع عن تباين متصاعد في الأولويات الاستراتيجية بين أعضاء «الناتو» قد يفضي إلى انفراط عقده، أو على الأقل دخوله في حالة احتضار طويلة كما يرى والتر راسل ميد، في «وول ستريت جورنال»، وفي زمن ليس ببعيد.
خلفيات السجال حول الإنفاق العسكري
الخلاف بين الأميركيين والأوروبيين حول المساهمة في الإنفاق العسكري سابق لوصول ترامب وفريقه إلى السلطة، لكن الجديد هو تهديد الأخير بالانسحاب من الحلف نتيجة له. تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في نسبة الإنفاق العسكري، حيث تبلغ مساهمتها 3.5% من قيمة ناتجها المحلي الإجمالي، فيما تنفق أغلب دول الحلف الأخرى أقل من 2%، مع تعهد بأن تصل إلى هذه النسبة بحلول عام 2024. وخلال سنة 2018، بلغت قيمة المساهمة الأميركية في موازنة «الناتو» حوالى 70% من إجمالي نفقات الحلف العسكرية. بعض المسؤولين الأوروبيين يعتقدون بأن تهديدات ترامب المستمرة، وإصراره على الرفع السريع لنسب الإنفاق العسكري الأوروبي، وما يرافقها بالتوازي من ضغوط على الحلفاء لشراء معدات أميركية، تندرج جميعها في إطار الابتزاز التجاري. هذا ما لمحت إليه وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورانس بارلي، خلال زيارتها لواشنطن في آذار الماضي، عندما قالت إن «المادة 5 من ميثاق الناتو الخاصة بالتضامن بين أعضائه ليست المادة F-35»، في إشارة إلى قيام بلجيكا بشراء طائرات «F-35» من الولايات المتحدة. وقد أشار الخبير في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، كانتان لوبينو، في مقابلة مع «لو موند» إلى الضغوط التي تمارسها واشنطن لبيع معداتها للحلفاء، وتلك الموجهة ضد جهود الاتحاد الأوروبي لتطوير صناعاته الدفاعية. لكن أوساطاً أخرى أميركية وأوروبية مقتنعة بأن تهديدات ترامب بالانسحاب من «الناتو» تنسجم مع رؤيته للحلف باعتباره غير ذي جدوى، في سياق دولي متغير يفرض شكلاً جديداً من التحالفات الظرفية حسب المهمة، وأنه لا ينظر لروسيا على أنها التهديد الأخطر على عكس غالبية إدارته وأقطاب الدولة العميقة في الولايات المتحدة. وقد نطق عضوا مجلس الشيوخ الأميركي باسم هذه الغالبية عندما ذكّرا في مقال نشراه في «ذي أتلانتك» بقول ونستون الشهير: «شيء واحد أسوأ من القتال إلى جانب حلفاء، هو القتال من دونهم».
المتهم الرئيسي بعدم الالتزام بتعهداته الخاصة بالإنفاق العسكري هي ألمانيا، التي التزمت في قمم «الناتو» الثلاث التي عقدت منذ عام 2014 بزيادته ليصل إلى نسبة 2%، لكنها لم تفعل. وقد شهدت قمة وزراء دفاع دول الحلف، المنعقدة في بروكسل في شباط/ فبراير الماضي، مواجهة حادة بين وزيري الدفاع البريطاني والألماني حول هذا الموضوع. البريطاني غافين ويليامسون، أكد أن طبيعة التحديات التي يواجهها الحلف تقتضي تجاوز سقف الـ 2%، «بينما يتمتع البعض بالتمدد والاسترخاء». ردت الوزيرة الألمانية، أورسولا فون در ليين، بأن بلادها تعمل بكدّ لبلوغ هذا الهدف، «لكن الأمر صعب سياسياً». مجلة «ديرشبيغل» أوضحت خلفيات هذه الصعوبة، في مقال تضمن معطيات مهمة عن واقع الإنفاق العسكري الألماني، الذي لن يتجاوز 1.25% في السنوات الخمس المقبلة، وأسبابها المتصلة بالتوازنات السياسية الداخلية. حسب «دير شبيغل»، فإن الوعود التي تقطعها المستشارة الألمانية للحلف، وحتى وزير المال، لا قيمة لها لأن من يقرر في النهاية حجم الإنفاق هو رولف موتزنيخ، نائب رئيس الكتلة البرلمانية لـ«الحزب الاجتماعي الديموقراطي» الألماني، والمكلف بملفات الأمن والدفاع. لدى هذا الأخير قدرة على التأثير المباشر على مواقف وزير الخارجية الألماني، العضو في الحزب نفسه، هايكو ماس، ودفعه إلى التشدد في قضايا الإنفاق. وهو يعتبر أن عدم الانصياع لإملاءات ترامب ومنع الحكومة الألمانية من ذلك ينسجم مع المصالح الوطنية والمصلحة السياسية لحزبه. لكن الأهم هو اقتناعه بأن لا مستقبل لحلف «الناتو» إن كان مصدر شرعيته الوحيد هو ردع روسيا: «إذا كان الحلف مستعداً لتعزيز دور الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فسيكتسب شرعيته وليس من خلال التركيز الحصري على روسيا».
لكن اعتبارات أخرى قد تسمح بتفسير الموقف والتعاطي الألمانيين في قضية الإنفاق العسكري، وهي علاقات التعاون و«الود» المتنامية بين ألمانيا وروسيا، وخصوصاً في مجال الطاقة. فمشروع «السيل الشمالي 2» الذي سيسمح لروسيا بتزويد ألمانيا مباشرة، ومن خلالها دول أوروبية أخرى، بالغاز الطبيعي، يثير غضب الأميركيين وعدد من دول أوروبا الشرقية والبلطيق. آنا ماريا أندرز، وزيرة الحوار الدولي البولونية، حذرت في مقال على موقع «ريل كلير وورلد»، من أن روسيا تستخدم سلاح الطاقة لإثارة الخلافات بين الحلفاء: «أنبوب الغاز الروسي يقسم الحلفاء. التصدعات التي يسببها بينهم واضحة: فهناك حديث عن اتفاقات سرية بين كل من ألمانيا وفرنسا من جهة، وروسيا من جهة أخرى. وهناك أيضاً اعتراضات من بولونيا ودول أوروبا الشرقية. وأخيراً هناك رفض قاطع من الولايات المتحدة وتهديدات بفرض عقوبات». حتى اللحظة، لم تؤدّ هذه الاعتراضات والتهديدات إلى أي تحول في الموقف الألماني.
خلافات أخرى تبرز بين دول الحلف، بين فرنسا وإيطاليا، وبين فرنسا وألمانيا، تتشابه خلفياتها مع تلك التي ذكرناها سابقاً، أي مع التباين المتزايد في المصالح والأولويات الوطنية للدول الأعضاء في «الناتو»، نتيجة التحولات العميقة التي يشهدها العالم وبروز قوى دولية جديدة غير غربية تتسع دوائر نفوذها وتأثيرها إلى درجة فرض سياسات إعادة تموضع على بقية اللاعبين الدوليين. في سياق كهذا، يغدو الحفاظ على حلف «الناتو» مهمة شاقة، وخصوصاً مع وجود رئيس كدونالد ترامب في مركز القرار في واشنطن.