روسيا والصين وإنهاء هيمنة الدولار: معركة قرارٍ أم خيار؟

روسيا والصين وإنهاء هيمنة الدولار: معركة قرارٍ أم خيار؟

تحليل وآراء

الأحد، ٩ يونيو ٢٠١٩

نهايةَ شهر نيسان الماضي استضافت الصين القمة الاقتصادية «طريق الحرير»، وشهدَت حضوراً كبيراً على مستوى الدول والكتل الاقتصادية الوازنة. كان من الواضحِ أن القيادةَ الصينية أرادت البدءَ بخطواتِها العملية للوقوفِ بوجهِ العملاق الأميركي في حربٍ اقتصادية قد تكون عملياً هي الأقوى عبر التاريخ، خطوةٌ دفعتنا يومها للقول بأنها تأتي من خارج سياق إسقاط البعبع الأميركي بالصراخ أو الشعارات، فلكي تتراجع الولايات المتحدة الأميركية اقتصادياً علينا أولاً وأخيراً إنشاء نظامٍ اقتصادي يتحرر من التبعية لها، مع التأكيد أن مجردَ فكرةِ انعقاد المؤتمر شكلت خطوة أولى لتحقيقِ ذلك.
الخطوةَ الصينية كان لابُد أن يكونَ لها صدىً لدى الصديق الروسي الموثوق، على هذا الأساس انعقدَ المنتدى الاقتصادي في سان بطرسبورغ بحضورٍ صيني رفيعٍ تمثل بالرئيس الصيني شي جين بينغ، ليبدو المنتدى أَبعَد من فرضية رد زيارة الصديقِ للصديق أو تجسيداً لعقودٍ من التعاون بين البلدين منذ حقبة الاتحاد السوفييتي السابق، وصولاً لتعويمِ التحالف والتكامل بينَ البلدين على كلِّ الصعد، حتى بما يتعلق بسلاحِ الحرب الاقتصادية عندما تجسد ذلك بحديث كل من الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ وتنديدهما بإصرار الولايات المتحدة على استخدام الاقتصاد كأداةٍ للثواب والعقاب ضد الدول.
تحالفٌ يراهُ الكثيرون فرصةً جديدةً لبناءِ شبكةٍ اقتصاديةٍ دوليةٍ جديدة قادرة على التحررِ من الهيمنة الأميركية، فيما قَد يراه البعض الآخر مجردَ استعراضاتٍ اقتصادية لا طائلَ منها قد تنتهي لمجردِ أن يجلسَ كل من الأميركي والصيني على طاولةِ المفاوضات من جديد، بين هذا وذاك تبدو الحرب الاقتصادية بين العمالقة تجاوزت عملياً مرحلةَ المناوشاتِ المتقطعة، ولكي نتمكن من استقراءِ النتائج لا بد أولاً من التعاطي بموضوعيةٍ مع نِقاط القوة الأميركية التي تُشكل ركيزةً أساسية لسياساتها والتي يمكننا تلخيصها بالنقاط التالية:
أولاً: هيمنة الدولار على التعاملات التجارية العالمية
كانت دعوةَ بوتين واضحة لجهةِ إعادة تقييم دور الدولار في النظام العالمي بعد أن أضحى الأداة الأميركية لفرض الهيمنة على العالم، لكن في النهاية التصويب على المشكلة لا يعني أن الحل بين أيدينا، فربما لو سألنا أي كارهٍ للسياسات الأميركية في العالم لأجابنا بأن الدولار الأميركي هو علّة العلل، لكن كيف يمكن الوصول لنظام عالمي جديدٍ من دون دولار؟
القضية ليست بالأمنيات لكنها ببساطةٍ تحتاجُ لتبديلِ منظومة دولية كاملة تتعاطى بالدولار، الأمر لا يتعلق بإرادةِ كل من الصين وروسيا والدول التي تتطابق تحالفاتها معهما، نحن نتحدث عن شبكةٍ اقتصاديةٍ كاملة حول العالم تبدأ بأسعار النفط وتنتهي بالبورصاتِ العالمية.
نبدأ مثلاً من البنك الدولي الذي يُسيطر بشكلٍ مباشر أو غير مباشر على مقدرات الكثير من الشعوب وربط نتاجها المحلي وديونها بعملاتٍ ثلاث أساسية متحالفة سياسياً واقتصادياً مع الدولار هي: إضافة له، اليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني ولتحييدهِ جانباً فإن المنطق يحتم وجودَ بنكٍ موازٍ يعتمد كلاً من الروبل الروسي واليوان الصيني كعملاتٍ أساسية قادرة أن تعطي ضماناتِ قروض للحلفاء أو الدول التي هي بحاجة لذلك، ، ثم ما المناخ الاستثماري الذي يتم إعدادهُ مثلاً لجذب الوفورات المالية لدولٍ تمتلك الكثير من الفائض وإعادة استثمارها من خلالِ صناديق الثروة السيادية التي تبلغ بمجملها ما يقرب نصف تريليون دولار؟
ثانياً: التطور التقني والصراع المعلوماتي
حتى ماقبل انهيار الاتحاد السوفييتي السابق كان مصطلح «حرب النجوم» الهادفَ إلى عسكرةِ الصراع على الفضاء هو الطاغي على توصيفِ حالة الصراع السوفييتية ـ الأميركية. نظرياً فإن الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان لم يأتِ بهذا المصطلح عن عبث، على اعتبار أن هذا الصراع كان عملياً ذروةَ الصراع التكنولوجي حول العالم بين القوتين المتنفذتين، حيثُ كانت المليارات تُصرف للسيطرة على الفضاء، واللافت أن المعركة انتهت نظرياً حتى بعدَ سقوط الاتحاد السوفييتي بنتيجةِ التعادل فلا غالب ولا مغلوب، وبمعنى أدق: لم تستطع الولايات المتحدة الاستئثار بهذا المجال ولم يذهب إرث الاتحاد السوفييتي هباءً لكون الروس قد ورثوه، لكن بالنهاية هذه المعركة على ضراوتها كانت بعيدة عن حياة الناس ولم تنعكس على حياتهم اليومية، اليوم نحنُ نتكلم عن معركةٍ تقنيةٍ من نوعٍ آخر تتميز بإمكانية أن تصلَ بمنعكساتها السلبية لأغلبية البشر وتدخلَ كل بيتٍ، محورها الأساسي هو السيطرة عن بعد، وكمثال: قلل الأميركيون كثيراً من صعودِ شركة الإلكترونيات الصينية هواوي للمركزِ الثاني من حيثُ قوة المبيعات في السوق العالمية بعد سامسونغ الكورية وقبل آبل الأميركية، هذا التقليل استند لفرضيةِ أن الجهاز يلاقي رواجاً في الصين ذات المليار ونصف المليار نسمة تقريباً، نظراً لانخفاض ثمنهِ وهذا ما يرفع من نسبة المبيعات، لكنهُ على المستوى العالمي ليس بهذه الإمكانات.
هذا التبرير الذي استسهلهُ الأميركيون بدا كنوعٍ من دفنِ الرأس بالرمال لم يستيقظ منهُ الأميركيون إلا بعدَ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرضَ عقوباتٍ على الشركة المنتجة من بينها منعهم من استخدام نظام اندرويد وصولاً حتى لعدم قدرةِ الأجهزة على تحميل فيسبوك كتطبيق، هذا النزوح الأميركي نحو المواجهة يدحض الكثير من المزاعم التي كانت تُقال هنا وهناك عن ترك المجال للمنافسة التجارية تأخذ مجراها، ويؤكد أن الحرب التقنية ليست فقط حرباً للاستحواذ على السوق ورفع نسب الضرائب التي ستدفعها الشركات الأميركية عن أرباحها، القضية تدخل في صميم الحس الأمني الأميركي الذي يرى في تلك المواقع والتقنيات جزءاً لا يتجزأ من خزان المعلومات والتجسس، وفي المقلب الآخر فإن المعركة بالنسبة للصينيين ومن معهم ليست فقط استحواذاً بقدر ما هي القدرة على ابتداعِ أنظمةٍ وتقنيات تحرر العالم من هذه الهيمنة فهل هم جاهزون لذلك؟
ربما علينا أن نقرأ بعنايةٍ تحذيرات القائمين على عملاق البحث الإلكتروني غوغل من خطورة الخطوات المتخذة ضد الصين لأن الأمر سيدفعها نحو ابتكارِ ما يناسبها، لكن ما يمكننا قراءته بين سطور تحذيرات غوغل أن الصين ما كانت لترفعَ سقفَ المواجهة إلى هذا الحد لو أنها لم تكن جاهزة أساساً لكل الاحتمالات!
ثالثاً: الانتشار العسكري الأميركي
تبدو هذه الميزة نتيجة منطقية لكلتا الميزتين السابقتين، لكن مايزيد من أهميتها أن الولايات المتحدة عملياً استطاعت أن تطوِّر هذا الانتشار من شقه الاستعماري الذي لم ينجح وفشلَ فشلاً ذريعاً في العديد من المناطق كفيتنام إلى تعاقدي بتحويل الولايات المتحدة إلى حارسٍ بالآجار لأنظمة متهالكة لا تمتلك إلا النفط والصناديق السيادية بوفوراتٍ نفطية هائلة.
واقعياً لكي تستطيع كل من روسيا والصين امتلاك هذه الميزة التي هي أشبهَ بعمليةٍ متقنةٍ لغسلِ الأموال عليهما أن يتجردا من الأخلاقيات والمثاليات في السياسة، عليهما أن يعلقا الالتزام بالقانون الدولي وأن يحاضرا بكيفية بث التفرقة والقتل والدمار، كل هذه القذارات لا يبدو أنها تدخل في أدبيات الروس والصينين، فالولايات المتحدة استفادت عملياً من فترة الفراغ التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي وانكفاء الصين داخلياً لتخلق كتلة متشبعة من السيطرة بالعسكر لا يمكن التعاطي معها بهذا التبسيط، لأن مراكز السيطرة تلك تضمن للولايات المتحدة تمويلاً كاملاً لكل هذه العمليات، ونكاد نجزم أنها لن تنتهي إلا بانتفاء الحاجة للسيطرة على هذه المناطق ولعل أهمها منطقة الخليج العربي، فالقضية تبدو أبعدَ من سطوة الدولار أي إن سياسات الولايات المتحدة تبدو فيما تبدو أشبهَ بكتلةٍ سرطانية تصيب عضواً فعالاً في جسم الإنسان، لا يمكن استئصالها ولا علاجها.
لكن بذات الوقت يبدو الجميع أمام فرصة تاريخية للتخلص من الهيمنة الأميركية وإن كان الطريق لا يزال طويلاً، فالحرب الاقتصادية تبدو فيما تبدو بديلاً منطقياً من حالة الحرب التي يُستبعد حدوثها لأن تكلفتها قاسية على الجميع، ومن سيربح هو عملياً من يمتلك النفَس الأطول، نثق بالصينيين في الإطار الاقتصادي ونفسَهم الطويل فهل تكون النتيجة لمصلحتهم ومصلحة حلفائهم؟
يبدو أن المعركة الصينية الاقتصادية مع الولايات المتحدة أشبهَ بالمعركة السورية ضد العصابات الإرهابية لا خيار لنا فيها إلا النصر أو النصر وبمعنى آخر: هكذا معارك فإن النصرَ فيها قرار، وليس خياراً.