ماذا يحدث في أمريكا؟.. بقلم: حسام ميرو

ماذا يحدث في أمريكا؟.. بقلم: حسام ميرو

تحليل وآراء

الاثنين، ١١ يناير ٢٠٢١

كان مفاجئاً للأمريكيين والعالم بأسره أن يقتحم متظاهرون مبنى الكونجرس بدعوة وتحريض من الرئيس دونالد ترامب، فهذه هي المرة الأولى في تاريخ أقوى دولة في العالم يقوم الرئيس بتحريض أنصاره لاقتحام المقر التشريعي للبلاد، هو الذي يعد المسؤول الأول عن الدستور الأمريكي، وناظم عمل الديمقراطية الأمريكية، ومركز توازن القوى بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وعلى الرغم من كل التصرفات غير المألوفة للرئيس ترامب على مدار سنوات رئاسته، التي أصبحت نمطاً خاصاً، يمكن وصفه ب «الترامبية»، إلا أن تحريضه ضد أعرق مؤسسة وطنية كان أكبر من أي توقع، إذ إن مثل هذا السلوك ليس مرعباً وخطراً على أمريكا وحدها، بل على مجمل النظام الدولي.
اقتحام متظاهرين أمريكيين مبنى الكونجرس يمكن تصنيفه كحادثة تاريخية عالمية، لا يمكن تجاهل أسبابها أو تأثيراتها المستقبلية، وهي تطرح سؤالاً كبيراً حول التحولات التي أصابت المجتمع الأمريكي، وسمحت بصعود رئيس شعبوي إلى سدة الحكم، ومن ثم رفضه الخروج منه، في بلد تعد فيه عملية انتقال السلطة حالة بروتوكولية محضة، لا مكان فيها لشخصنة نتائج الانتخابات، كما أن الحزب الخاسر في معركة الرئاسة ليس محروماً من المشاركة في رسم السياسات من خلال المؤسسات، وأهمها المؤسسة التشريعية، كما أن الكثير من السياسات الداخلية والخارجية متفق عليها بين الحزبين، خصوصاً القضايا الاستراتيجية الكبرى.
 الانتخابات الرئاسية الأخيرة تم اعتبارها تصويتاً على الرئيس ترامب، أكثر من كونها صراعاً حزبياً، وهي المرة الأولى في تاريخ أمريكا تكون فيها الانتخابات تصويتاً على شخصية الرئيس نفسه، فأعداد كبيرة ممن انتخبوا المرشح الديمقراطي جو بايدن هم من الرافضين لسياسات وأداء ترامب، أكثر من كونهم مؤيدين لسياسات بايدن أو شخصيته، وفي المقابل فإن قسماً كبيراً ممن انتخبوا ترامب قد صوتوا له شخصياً، وليس للحزب الجمهوري فقط، وحصول ترامب على 72 مليون صوت يبرز بشكل واضح مدى القاعدة الشعبية التي استطاع جذبها، ليس بفضل سياساته الناجحة، بل إلى حد بعيد من خلال ظهوره كمكافح ضد هيمنة المؤسسات الرسمية، التي وصفها بأنها «الدولة العميقة» لأمريكا.
 على مدار عقود طويلة كانت الانقسامات الأمريكية الداخلية قابلة للمعايرة والضبط، وكان بالإمكان التعامل مع الأزمات بوصفها حالة طبيعية ضمن اقتصاد السوق الرأسمالي، كما كان بالإمكان الانتقال من سياسات اجتماعية تقوم فيها الدولة بدور الضامن للعدالة الاجتماعية في خمسينات وستينات القرن الماضي إلى سياسات أقل التزاماً من قبل الدولة، من دون أن يحدث ذلك الانتقال فوضى اجتماعية، فقد ساعد النمو الاقتصادي الأمريكي في إرساء فرص عمل جديدة.
 العقود الثلاثة الأخيرة شهدت تحولات عالمية كبرى، في مقدمتها التراجع التدريجي والنسبي لمكانة أمريكا في ريادة النظام الدولي، مع صعود الصين كمنافس قوي وشرس، كما عادت روسيا، مدعومة بالريع النفطي الكبير، إلى الساحة الدولية، لاستعادة مكانة الاتحاد السوفييتي، وصعود ألمانيا كقاطرة للاقتصاد الأوروبي، وقد فشلت الولايات المتحدة في إدارة عدد غير قليل من الملفات، كان من أبرزها ملف التحول في العراق في عام 2003، ولم تستفد من التعاطف الدولي معها بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، حيث مضت في اتباع سياسات تفتقر إلى التنسيق مع الحلفاء، وفي بعض الأحيان تجاهلت مصالح بعض أبرز حلفائها.
 وفي الاقتصاد الأمريكي ذي الصبغة العالمية، حدثت تحولات نوعية، تقودها منجزات اقتصاد المعرفة، المبنية على البرمجة وقواعد المعلومات، وهو ما أدى إلى صعود قطاعات جديدة تعتمد على الخبرات والكفاءات، وإذا كان هذا النوع من الاقتصاد قادراً على تحقيق عوائد مالية كبيرة، إلا أنه يحصرها في الوقت نفسه بيد عدد قليل من أفراد النخبة الجديدة، بينما كانت الاقتصادات التكنولوجية الأمريكية التقليدية تقوم على نمط إنتاجي يعتمد على اليد العاملة بالدرجة الأولى، ما يؤمن حالة استقرار مجتمعية، قوامها أوسع شريحة من الطبقة الوسطى، التي تراجعت كماً ونوعاً في السنوات الأخيرة، ولكل هذه الأسباب المتعلقة بدور ومكانة أمريكا، وتحولات اقتصادها، فإن الحدث الأمريكي الراهن مرشح لأخذ أشكال عديدة في السنوات المقبلة، فرحيل ترامب قد يكون خطوة نحو استقرار أمريكي مؤقت، لكنه لن يكون ضامناً لعدم ظهور انقسامات اجتماعية وسياسية أكثر حدة.