الحياة بعين الروح.. بقلم: رشاد أبو داود

الحياة بعين الروح.. بقلم: رشاد أبو داود

تحليل وآراء

الخميس، ١٤ يناير ٢٠٢١

عندما تنظر في المرآة انظر بعين روحك. لا بعين جسدك الذي يرى التجاعيد على رقبتك ووجهك ويديك. وإن انحنى ظهرك لا تنحني معه. الروح لا تهرم.
أما العمر فهو مكتوب قبل أن تولد. ليس بإمكانك أن تتخلد لكن بإمكانك أن تظل شاباً.
وفق الأسطورة الإغريقية، نسيت سيبل أن تطلب من الآلهة الشباب الدائم عندما طلبت الخلود الأبدي، فظلّت تصغر وتصغر إلى أن وُضعت في قفص صغير، وعندما سئلت: ماذا تريدين يا سيبل؟ قالت: أريد الموت. فقد أدركت أن لا قيمة للخلود بدون شباب الروح، أما الجسد فما هو إلا وعاء لها.
كانت فكرة الخلود إحدى أهم مرتكزات الحضارات القديمة من جلجامش البابلي إلى الفراعنة المصريين وغيرهم.
تايثونس أدرك حقيقة أن لا مفر من الموت، فقد أحبته إيوس، إلهة الفجر عند الإغريق، وطلبت من زيوس كبير الآلهة منح حبيبها تايثونس الخلود، كي يبقيا معاً للأبد، وقبل زيوس طلب إيوس، فقد منح تايثونس الخلود لكن لم يمنحه الشباب، فشاخ تايثونس وخسر جماله وقدراته التي أحببته إيوس لها، فحبسته في غرفةً بقي يكلم فيها نفسه إلى الأبد.
عند الإغريق، المدارس الفكرية كثيرة ولكن أهمها هي فلسفة أفلاطون. فقد حاول في نظريته الشهيرة «المُثل» إيجاد حل توفيقي بين فكر بارمنداس المادي الواقعي المستقر غير القابل للتغيير وبين فكرة هراقليطس الذي أمن بأن كل شيء في تغير مستمر بين الأضداد حينما قال قوله المشهور: «إنك لا تستطيع الاستحمام في نفس النهر مرتين».
في نظرية المثل لأفلاطون نجد تشخيصاً واضحاً حول فكرة وجود النفس «الروح» التي هي أبدية والجسد الذي هو زائل. إذن هناك عالمان، عالم المثل الذي لا يتغير مستقر أبدي وعالم الواقع الزائف المتعرض للتغير والزوال. الجسد هو من عالم الواقع لذلك فهو زائل، وأن الروح هي من عالم المثل لذلك هي أبدية. لذلك تتصارع الروح في هذا العالم مع الجسد كي تتحرر منه وتعود إلى أبديتها. من هنا انطلق الفكر الميتافيزيقي الإغريقي الذي أثر على الفكر الإنساني عبر التاريخ.
ليس الإغريق وحدهم، فلم تكن صدمة الملك جلجامش لموت صديقه انكيدو فقط في أنه خسر أعز أصدقائه للأبد، فقد كانت بداية صراع جديد سيخوضه جلجامش، ليس مع الوحوش البرية كالعادة، ولكن مع فكرة مجردة أقوى منه جعلته عاجزاً أمامها وهي الموت. ولأن جلجامش كان بحسب الأسطورة «ثلث إله وثلثي بشر» فهو لم يعتد على الشعور بالضعف والخسارة، وعندما أحاطه خطر الموت قرر أن يخوض رحلة هي الأصعب في حياته ليحصل على نبات ينمو في أعماق البحر يحوي إكسير الخلود، تلك الفكرة التي شغلت الإنسان منذ الأزل وأعادت تشكيل علاقته بمفهوم الحياة.
من يدرك هذه الحقيقة يعش سعيداً. وثمة من يحسب حساب «أرذل العمر» مثل ذاك الأب الذي أوصى ابنه قائلاً:
ولدي العزيز: في يوم من الأيام ستراني عجوزاً، غير منطقي في تصرفاتي. عندها من فضلك أعطني بعض الوقت وبعض الصبر لتفهمني. وعندما ترتعش يدي فيسقط طعامي على صدري، وعندما لا أقوى على لبس ثيابي، فتحلى بالصبر معي وتذكر سنوات مرت وأنا أعلمك ما لا أستطيع فعله اليوم.
إذا حدثتك بكلمات مكررة وأعدت عليك ذكرياتي فلا تغضب وتملّ، فكم كررت من أجلك قصصاً وحكايات فقط لأنها كانت تفرحك. وكنت تطلب مني ذلك دوماً وأنت صغير. فعذراً حاول ألا تقاطعني الآن، إن لم أعد أنيقاً جميل الرائحة، فلا تلمني واذكر في صغرك محاولاتي العديدة لأجعلك أنيقاً جميل الرائحة.
يا ولدي: لا تضحك مني إذا رأيت جهلي وعدم فهمي لأمور جيلكم هذا، ولكن.. كن أنت عيني وعقلي لألحق بما فاتني، أنا من علمك كيف تواجه الحياة فكيف تعلمني اليوم ما يجب وما لا يجب؟
لا تملّ من ضعف ذاكرتي وبطء كلماتي وتفكيري أثناء محادثتك، لأن سعادتي من المحادثة الآن هي فقط أن أكون معك، فقط ساعدني لقضاء ما أحتاج إليه، فما زلت أعرف ما أريد. عندما تخذلني قدماي في حملي إلى المكان الذي أريده فكن عطوفاً معي وتذكر أني قد أخذت بيدك كثيراً لكي تستطيع أن تمشي، فلا تستحيي أبداً أن تأخذ بيدي اليوم، فغداً ستبحث عن من يأخذ بيدك.
في سني هذا اعلم أني لست مُقبلاً على الحياة مثلك ولكني ببساطة أنتظر الموت، فكن معي ولا تكن عليّ. كنت معك حين ولدت فكن معي حين أموت.
* كاتب أردني