أفغانستان: هزيمة الليبرالية الاستعمارية.. بقلم: نايف سلوم

أفغانستان: هزيمة الليبرالية الاستعمارية.. بقلم: نايف سلوم

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٧ أغسطس ٢٠٢١

قالت صحيفة واشنطن بوست: الانهيار السريع لأفغانستان جزء من هزيمة طويلة وبطيئة للولايات المتحدة، بينما نيويورك تايمز تقول: تفكّك أفغانستان قد يشكل ضربًة كبرى لمصداقية الولايات المتحدة.
لكن ما هي هذه الهزيمة التي منيت بها الولايات المتحدة في أفغانستان؟ قد يظن القارئ للوهلة الأولى أنّ الهزيمة عسكرية، وأقول: كلا، الهزيمة ليست عسكرية، حيث يمكن للجيش الأميركي أن يعود بعتاده وجنوده مرّة أخرى ويقصف المدن والقرى الأفغانية. نعم توجد هزيمة للنظام الإمبريالي في أفغانستان وفي العراق وغيرهما، وهي هزيمة تاريخية لليبرالية الإمبريالية المفروضة بالاستعمار المباشر والقوّة الغاشمة، وهي ذات الليبرالية الإمبريالية التي فُرضت على العراق إبّان احتلاله.
كان الوهم السّائد بعد دخول الجيش العراقي الكويت وخروجه تحت القصف الأميركي مطلع التسعينيات هو أنّ الولايات المتحدة سوف تنقل تجربة إعادة إعمار أوروبا واليابان (مشروع مارشال 1947) إلى بلدان الأطراف الرأسمالية والعربية منها، بحيث تباشر في تصنيع هذه البلدان وتنشر الديمقراطية الليبرالية بعد أن يتكفّل الجيش الأميركي بإزاحة «الطغاة المحليّين» ويسهّل الطريق. كان ينقص هذا الوهم الكثير من المعطيات التاريخية، تلك التي «أجبرت» النظام الأميركي الصاعد إلى صدارة قيادة النّظام الإمبريالي العالمي على وضع مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا واليابان اقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية، ولاحقاً تصنيع كوريا الجنوبية والنمور الآسيوية المحيطة بالصين كنوع من تصنيع ذي دوافع سياسية؛ كان الهدف الأكبر قطع الطريق على المدّ الشيوعي في جنوب شرق آسيا وفي أوروبا بعد انتصار الاتحاد السوفياتي على النازية الألمانية وبعد انتصار الثورة الاشتراكية في الصين 1949.
لم يكن هناك مدٌّ شيوعي في الشرق الأوسط، وكانت هناك دولة صهيونيّة استيطانيّة مدعومة من الغرب الإمبريالي ومعترفٌ بها من النظام السوفياتي البيروقراطي.
إنّ جردة سريعة لأرقام الحرب الأميركية الإمبريالية على أفغانستان تبيّن حقيقة الليبرالية الإمبريالية وحتميّة هزيمتها سواءً في أفغانستان أم في العراق. ففي عنوانٍ لروسيا اليوم يقول: آلاف القتلى ومليارات الدولات .. الحصاد المرّ لحرب الأطلسي في أفغانستان. فقد تكبّد التحالف الدولي ما يزيد عن 3500 قتيل منذ 2001 بينهم 2400 أميركي حسب بيانات الكونغرس ، فيما أصيب أكثر من 20 ألف جندي أميركي، وأنفقت الولايات المتحدة وحدها أكثر من 140 مليار دولار على شكل مساعدات لأفغانستان منذ عام 2002 حسب الكونغرس ، وقدر «البنتاغون» كلفة العمليات القتالية بما في ذلك دعم القوات الأفغانية بما يزيد على 820 مليار دولار في المدة الزمنية نفسها ، ولا تزال أفغانستان واحدةً من أشد دول العالم فقراً ، حيث تحتل المرتبة 169 بين 189 دولة على مؤشر التنمية البشرية الذي نشره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بمتوسط عمر 64 عاماً ونصيب للفرد من الدخل القومي 2200 دولار سنوياً .
بالطبع سوف يلاحظ القارئ أن التدخل الإمبريالي الأميركي لم يأتِ بالتصنيع لأفغانستان ولا بالديمقراطية الليبرالية ولا بالتنمية البشرية ولا التقدم الاجتماعي، بل جعل من هذه الأرض أرضاً يباباً.
إن «الديمقراطيين الليبراليين» الذين زرعتهم الإمبريالية الأميركية في أفغانستان لا يستطيعون البقاء لوحدهم في أرض خطرة ومعادية خاصة وأنهم ليسوا أكثر من قوات مرتزقة محلية من المترجمين والمرشدين. لهذا تعنون روسيا اليوم في تقريرٍ آخر قولها: أفغانستان .. موسم إجلاء المتعاونين مع القوات الأجنبية. وذكرت أنه مع تحقيق حركة «طالبان» تقدماً ميدانياً متسارعاً في مختلف مناطق أفغانستان، تصعّد دول غربية مساعيها لإجلاء آلاف الأفغان الذين ساعدوا قواتها على مدار سنوات الحرب الطويلة في البلاد. وحسب التقديرات الأميركية قد يبلغ عددهم 50 ألفاً.
في نهاية عام 2014 حاول أوباما الإشادة بنهاية المهمة العسكرية الأميركية في البلاد بعد سنوات من مكافحة التمرد على حكومة هي صنيعة الاحتلال الأميركي، معلناً في بيان أن «أطول حرب في التاريخ الأميركي تقترب من نتيجة مسؤولة» وهذه «النتيجة المسؤولة » تبين أنها غير مسؤولة، لأن الاحتلال لا يخلّف سوى الدمار والخراب والموت. فقد تم استحضار وهم تحويل القوات الأميركية إلى قوات استشارية غير مقاتلة. ولكن وزارة الدفاع البنتاغون وضعت الكثير من الاستثناءات التي جعلت التمييز بين قواتٍ قتالية وأخرى غير قتالية أمراً لا معنى له. وجاء ترامب الذي دعا بصوتٍ عالٍ إلى إنهاء الاشتباكات العسكرية المكلفة في الخارج، ولكنّه أذن بتكثيف حملات القصف الجوي ضد أهداف إسلامية متشددة، والتي أدت وفقاً لإحدى الدراسات إلى زيادة الخسائر في صفوف المدنيّين الأفغان بنسبة 330%.
تتحدث الصحافة الليبرالية الغربية والأميركية خاصة عن فشل المشروع الأميركي ـــ الغربي في أفغانستان وعن التذمّر بصدد المصداقية الأميركية. وإذا ترجمنا هذا القول إلى كلامٍ ذي معنى كان الأمر يعني بالضبط: فشل المشروع الأميركي في آسيا، مشروع قطع الطريق الجيوسياسي على روسيا وعلى الصين بوجه الخصوص، وفشل القيادة الأميركية للنظام الإمبريالي حيث تتعزّز فكرة أنّ دعم أميركا لحلفائها ليس بلا حدود، خاصة أن الصين وروسيا تتجهان إلى توسيع نفوذهما، ومن المحتّم أن يثير تراجع أميركا الشكوك في مصداقية هذه القيادة الأميركية للنظام الإمبريالي والتي بدأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وها هو بايدن يحاول لملمة البيت الذي كاد ترامب أن يطيح به عبر سياسة أنانية: «أميركا أولاً».
وتعقيباً على ذلك يقول أحد المحلّلين الفرنسيين ساخراً: عندما يقول بايدن «إن أميركا عادت، سيقول الناس: نعم، عادت إلى الوطن». إنّ فشل القيادة الأميركية للنظام الإمبريالي سوف يترسخ الآن بسبب أفغانستان، وستترسخ معه فكرة: لا يمكن الاعتماد على القيادة الأميركية، وستشعر العديد من الدول التي تدور في الفلك الأميركي بتداعيات فشل القيادة الأميركية بما في ذلك تايوان وأوكرانيا والفليبين وإندونيسيا، وربّما إسرائيل. يقول رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني توم توجندهات: إنّ ما جعل الولايات المتّحدة قويّة وغنيّة هو أنه من عام 1918 حتى 1991 وما بعده كان الجميع يعلم أنه يمكن الاعتماد على الولايات المتحدة في الدفاع عن العالم الحر (عن النظام الإمبريالي الرأسمالي). وأضاف إن حلفاء أميركا سيتساءلون بعد الانسحاب المفاجئ من أفغانستان بعد 20 عاماً من الاستثمار في الأرواح والجهود عما إذا كان عليهم الاختيار بين الديمقراطيات (الليبرالية) والأنظمة «الاستبدادية» (الدول الصاعدة كروسيا والصين)، وأن بعض الديمقراطيات الليبرالية لم يعد لديها قوة البقاء الآن «خاصة وأنها لم تكن أبداً تملك مثل هذه المقوّمات، بل كانت مجرّد مجموعات مرتزقة لإرشاد قوات الاحتلال الأميركي وترجمة ما يصعب على الأميركي فهمه محلياً. كانت مجرد ليبرالية إمبريالية، أعواناً للاستعمار الغربي. لقد وقع الغرب الإمبريالي في وهم انتصار الديمقراطية الليبرالية النهائي على رأسمالية الدولة الاشتراكية (والاشتراكية الماركسية) بعد تفكك الاتحاد السوفياتي بداية التسعينيات، وجرى الإعلان عن ذلك من قبل «ابن أبيه» فوكوياما في كتابه: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، لكن ما إن مضى ثلاثون عاماً حتى بدأ هذا الوهم بالزوال.
ليس انسحاب قوات التحالف الدولي من أفغانستان بهذا الشكل المذلّ سوى فشل القيادة الأميركية للنظام الإمبريالي وفشل للديمقراطية الليبرالية الإمبريالية المنزّلة مع آلاف الأطنان من القنابل الأميركية. إنها بداية النهاية للإمبريالية الرأسمالية وزعيمتها الإمبراطورية الأميركية.
* كاتب سوري