مشروع الإصلاح الإداري منعطف تاريخي في تاريخ الإدارة العامة في سورية.. بقلم: الدكتورة سلام سفّاف

مشروع الإصلاح الإداري منعطف تاريخي في تاريخ الإدارة العامة في سورية.. بقلم: الدكتورة سلام سفّاف

تحليل وآراء

السبت، ٢٦ مارس ٢٠٢٢

العمل الإداري أو الإدارة العامة هو عمل كمي وليس كيفياً وليس فقط تشخيصياً فقط بل هو ملامسات ومقاربات
اليوم في فلسفة الإدارة عندما تريد أي دولة في العالم القيام بالإصلاح الإداري فإنها تنهج نهجاً معيناً، النهج اليوم في سورية قام على “الدراية” التالية بأن واقع الجهاز الحكومي بمعنى الإدارة العامة هو واقع مستقر ومليء بالثغرات ومترهل، نتيجة أنه ومنذ أكثر من 80 عاماً، ومنذ تأسيس مديرية المعارف ومديرية الداخلية في العشرينيات لم يطرأ عليه أي تطور جذري حتى بشأن القوانين، فإذا أخذنا قانون الموظفين في الدولة كان أفضل من قانون العاملين لأنه تضمن نظام المراتب الوظيفية، بعد ذلك لم يقترب أحد من كتلة الإدارة العامة في سورية لا توظيف ولا آليات التعيين ولا أنظمة داخلية دقيقة ولا استجابة لمعطيات الإدارة وتطوراتها ونظرياتها الحديثة وإدارة الموارد البشرية، فبقي هذا الجسم الحكومي يتمدد ويستطيل ويستقطب أناساً على أسس غير واضحة  ويرقي أناساً على أسس غامضة وغير واضحة لا تخلو من المحسوبية والواسطات، وهكذا إلى أن جاءت الأزمة في سورية وبات من الضروري على الجهاز الحكومي إعادة هيكلة ذاته، ليس من باب الترف بل من باب الضرورة لإعادة بناء مقومات صمود الدولة والاستجابة لمتطلبات ما بعد الحرب، واليوم فإن الإصلاح الإداري يتضمن إعادة هيكلة الجهاز الحكومي في ظل غياب الهيكل الإداري للجهاز الحكومي وغياب خارطة الموارد البشرية، فاليوم لا أحد يعلم كم يبلغ عدد العاملين في الدولة من الفئة الأولى والثانية وما هو المؤهل النوعي لهم وليس لدينا خارطة موارد بشرية في الدولة، وبالتالي كيف بالإمكان معرفة فائض العمالة في الدولة؟ وبالتالي هناك مشكلات بنيوية في جهاز الإدارة العامة.
مخرجات المشروع هي خارطة موارد بشرية وخارطة شواغر وظيفية وكذلك التدريب المتوازن
من هنا جاءت الحاجة إلى مشروع الإصلاح الإداري الذي أطلقه السيد الرئيس بشار الأسد منتصف العام الفائت، لذلك يجب أن نرى بعين الواقع وبدون مجاملة واقعنا الإداري، فالواقع الإداري في سورية غير مطمئن على الإطلاق، وقياساً بأقرب دولة جوار، هنالك مدخلات وهنالك مخرجات، فاليوم في سورية وللمرة الأولى بُنيت منظومة لقياس الأداء الإداري تسمح لأن تعطي مؤشرات لأي جهة حكومية بمكامن الخلل وتعطيها إرشادات لتكمل الطريق، وما يميز هذه المنظومة أنها لم تُحدث من قبل وهي غير مرتبطة بإحداثات سابقة، هي منظومة للإدارة العامة.
الغاية من الموضوع القياسي هي معرفة مدى استجابة كل جهة حكومية لأي شكوى تصلها علماً أن منظومة قياس الأداء الإداري هي منظومة إلكترونية بالكامل لا يتدخل فيها العنصر البشري على الإطلاق، فبدل أن يتدخل 1000 شخص مختص بالإدارة فإننا نستبدلهم بهذه المنظومة، وهذه هي معايير الإدارة الإلكترونية أن نحول هذه الخبرات إلى معايير إلكترونية من خلال أتمتتها، أصلاً ليس هناك معاملات ورقية بيننا وبين الجهات العامة الأخرى ولا أي ورقة على الإطلاق؛ فالعملية بالكامل إلكترونية وهي ذاتها تقوم بعملية القياس.
غاية القياس ليس التقييم على الإطلاق إنما الكشف عن الخلل الإداري بالمعنى التقني لمعالجته والنهوض سويةً
أما غاية القياس ليس التقييم على الإطلاق حتى لا نأخذ بعراك التقييم؛ فاليوم الغاية هي الكشف عن الخلل الإداري بالمعنى التقني لمعالجته والنهوض سويةً، وهذا اسمه تقييم أداء مؤسساتي لأننا نرى أنه أوْلى من تقييم الأداء الفردي وفي المشاريع القادمة فإن تقييم الفرد مرتبط بتقييم أداء المؤسسة فواجبه اليوم أن يعرف بأن مؤسسته ضمن التنافسية الوطنية.
النقطة المهمة والغاية الجوهرية في المشروع أن نقوم ببناء المؤسسات في العاصمة دمشق يتم على ذات معايير ومؤشرات بناء مؤسسات في ريف إحدى المدن، فطبيعة تطور الدول اليوم أن تتركز المجتمعات الحضرية في المدن، الآن وقبل الأزمة لدينا تفاوت في الأداء المؤسساتي ما بين المدن والأرياف من حيث حجم الخدمات، فنجد أن الأداء المؤسساتي قوي في الإدارات المركزية وضعيف في الفروع، وتجد إحدى المؤسسات قوية وأخرى غير قوية أو فرعها غير قوي كونه بعيد عنها، لأن الموارد البشرية تعمل في ظروف مغايرة، وهناك بيئة مجتمعية وثقافية وتعليمية أنتجت هذه الموارد البشرية، وقد تكون حصة التدريب وما آل إليه أقل، فهذا يؤدي إلى تفاوت إضافة إلى أنه لا ضغط على الخدمات في بعض المدن الأصغر من العاصمة والمراكز التجارية فنجد انها تتنشط أكثر.
 فالجديد في المشروع أنه يقوم على “مبدأ التنمية المتوازنة” ما بين المدينة والريف، فلا تقاس على أساس وزارة والجهات التابعة؛ بل على أساس كل وحدة إدارية مستقلة مالياً وإدارياً بما فيها المديريات (نسميه الهيكل الرابع للمديريات)، فمديرية الزراعة في الرقة تقاس بذات المؤشرات والإدارات التي تقاس بها الإدارة المركزية لوزارة الزراعة في دمشق، فالمطلوب هو الاستجابة للمؤشرات بشكل متساوٍ، وبعد فترة من الزمن ستكون المؤسسات الفرعية قد تقدمت لأن أحجامها تسمح لها بالتطور السريع  حتى لو كانت بعيدة.
في الكلمة التي ألقاها السيد الرئيس بشار الأسد بتاريخ 20/6/2017 ذكر التدريب الإلكتروني وغايته إعادة البرامج التدريبية عدة مرات، وسيحل مركز خدمة الكوادر البشرية في الدولة محل السجل العام للعاملين في الدولة وفق القانون الجديد لوزارة التنمية الإدارية، وهذا مشروع إصلاحي بنيوي.
وقد وجّه السيد الرئيس بموضوع التدريب الإلكتروني حتى نحقق وفورات اقتصادية ويصبح بإمكان الجميع الدخول، وهو جداً مفيد وغير مكلف على الإطلاق وهو متاح لجميع العاملين في الدولة لكي يتمكنوا من تعلم اللغات وبناء قدرات ذاتية.. الخ، وسننتقل من بعدها إلى التدريب الإلكتروني التخصصي وفقاً لتوجيهات السيد الرئيس، وأيضاً هيأنا أنفسنا لموضوع التدريب الافتراضي أسوة بالجامعات الافتراضية ومراكز التدريب العالمية، والتي ستمكن الجميع من الاستماع إلى الجلسات التدريبية،  الأمر الذي سيحقق وفراً اقتصادياً كبيراً، وكلما سرّعنا في هذا الجانب، وأصبح هناك تفهم للمشروع كلما هدأت مقاومة التغيير بانتظار بدء قطف ثمار المخرجات الأولى للمشروع ومن بعدها يتم الانتقاد وليس التقييم.
إن المشروع الوطني للإصلاح الإداري يتضمن عدة أولويات منها إصلاح بنية الوظيفة العامة وهو يتضمن إصلاحها من خلال الصكوك التشريعية وإحلال ثلاثة قوانين محل قانون العاملين الأساسي، وهذا يتطلب دراسة هوية الوظيفة العامة للمستقبل، ولهذه الغاية فقد قمنا بتشكيل فرق العمل ومجلس الخبرة القانونية، وفرق العمل هي عبارة عن ممثلين من كل الجهات العامة من خريجي كلية الحقوق أو القانون العام ممن مضى على تعيينهم أكثر من خمس سنوات في الدولة، بالإضافة إلى الفريق التنفيذي الذي سيعمل على سبر عيوب قانون العاملين الأساسي في الدولة ومنعكساته ومدى مواءمته مع مختلف القطاعات الاقتصادية والإدارية بكافة تفرعاتها، أما النقطة الثانية سنذهب باتجاه هوية الوظيفة العامة في سورية هل هي هوية مغلقة أم تعيين فقط أو نظام مفتوح أو نظام مختلط؟ وما هي قواعد هذا النظام مهما كان؟
هنا يبرز سؤال.. هل نذهب باتجاه قانون “خدمة مدنية” أو “خدمة عامة” كما ورد في الدستور كمظلة ونتيح للقطاعات المختلفة إصدار أنظمة عمل وعاملين تتواءم مع اختصاصهم كالقطاع الإنشائي الخدمي أو الإنتاجي الأمر الآخر، اليوم لدينا ثلاثة قوانين، لدينا على مستوى دول المنطقة العربية ودول الجوار الإقليمي منظومات حققت قفزات نوعية بأنظمة في الإدارة العامة فأصبح لديهم قوانين موارد بشرية وقوانين خدمة عامة، بالنسبة لنا ليس لدينا اليوم توصيف وتصنيف للوظائف العامة في الدولة وبالتالي لا أحد يعلم عدد الوظائف العامة في الدولة وليس لدينا خارطة شواغر ووظائف، هناك دول قريبة من سورية لديها مواقع إلكترونية فيها دليل إلكتروني مؤتمت موصفة ومرمزة فيه الوظائف ومعروف عددها وهي متاحة لكل الناس وهذا إنجاز ومتاح لكل الناس وليس سراً.
اليوم مخرجات المشروع هي خارطة موارد بشرية وخارطة شواغر وظيفية وكذلك التدريب المتوازن، الأزمة أحدثت تغير ديموغرافي على مدى سبع سنوات، فمخرجات كل العملية التي تحدثنا عنها (التوصيف- المسالك- تحسن الأداء المؤسساتي) ستكون النتيجة هي حل هذه القضايا، هي ليست سبب حتى نعالجها، فأثناء تعقد المشاكل هناك أسباب لمعالجتها ولدينا مظاهر عن الأسباب نحن نذهب إلى المظهر واليوم يقول البعض: إذا أردنا مكافحة الفساد يجب علينا محاسبة بعض الأسماء المعروفة والمتورطة في الفساد وتنتهي المشكلة، في الواقع هناك أسباب قانونية وبيئية تنظيمية تولد الفساد حين يتم توقيف الشخص المفسد وهو إجراء رقابة لاحقة لابد منه، ولكن لم نعالج جوهر المشكلة.
فالعمل الإداري أو الإدارة العامة هو عمل كمي وليس كيفي وليس فقط تشخيصي فقط بل هو ملامسات ومقاربات، لكن اليوم لدينا مشاكل ولدينا أسباب لهذه المشاكل ولدينا ظواهر ونتائج، نحن نعمل بعلم ومنطق على معالجته، ولكن هل يلامس المواطن ذلك مباشرة، بالتأكيد يحتاج ذلك من ثلاث إلى أربع سنوات إذا عملنا يداً بيد.. هناك عمل وهناك مظاهر عمل، ومن خلال المشروع الذي نعمل عليه وهو مشروع الإصلاح الإداري هناك ثلاثة قوانين مرتبطة بعضها ببعض، بمعنى آخر هناك مجموعة مرتبطة بعضها ببعض عندما تقوم بالتعديل بمادة دون الأخرى فتكون قد أخلت بجزء من إنتاجية المشروع.
علينا أن ننظر بعين الرحمة للمجتمع، فهو يحتاج إلى مؤسسات دولة لكي تتطلع بعين الصمود للمستقبل، وسورية تستحق مؤسسات قوية هذا من جانب واحد، أما الجانب الثاني فنحن بحاجة إلى الهدوء والصبر ومعرفة ودراية بالعمل، جميعاً يتحدث في جلسات بأشياء يعرفها ولا يعرفها، وهنا ينتج لدينا ثقافة معادية للمشروع، نحن مع النقد لكن المشروع يتطلب هدوءاً وتعاوناً وتريثاً وعدم استعجال بالأحكام ومد اليد الأخرى إليه.
نحن بحاجة إلى هدوء في التعاطي مع الأمر؛ فالمشروع استراتيجي وحضاري وهو امتداد مرحلة تاريخية وهو منعطف تاريخي في حياة الإدارة العامة في سورية.
 
وزيرة التنمية الإدارية