الاعتذارمن شيم الكبار.. بقلم: د.يوسف الحسن

الاعتذارمن شيم الكبار.. بقلم: د.يوسف الحسن

تحليل وآراء

الجمعة، ١٥ أبريل ٢٠٢٢

الاعتذار.. قيمة إنسانية وأخلاقية، وسلوك حضاري، يعبر عن اعتراف بالخطأ والندم، جراء فعل مسيء سبب أوجاعاً أو أراق دماء، أو عدواناً غير مبرر، أو أقوال شائنة ومسيئة لحقت بالآخرين.
يعكس الاعتذار خلقاً إنسانياً سامياً، وقوة وشجاعة، وضميراً حياً وحساً مسؤولاً، وليس تعبيراً عن ضعف أو فشل.
ويتوجب أن يكون الاعتذار صريحاً وصادقاً، وأن يتحمل صاحبه أو الجهة التي تقدمه، المسؤولية عن الأفعال المسيئة التي ارتكبت، وهي أفعال لا تسقط بالتقادم، وقد قيل إن الأمم المتحدة أقرَّت يوماً عالمياً للاعتذار، باعتبار أنه ثقافة حضارية تبقي البشر والمجتمعات على تواصل وتفاعل وعلاقات طيبة.
ومن أهم نماذج الاعتذار، الاعتذار السياسي في العلاقات الدولية، وهو سلوك رفيع المستوى يُرسخ السلم الأهلي، ويعزز الثقة المتبادلة والسلام بين الدول، ويُسهِّل الحوار والتواصل على قاعدة النوايا الطيبة والمصالح المشتركة، بعيداً عن الثأر والكراهية، والعنف والأحقاد المستدامة.
تميزت بعض الثقافات السياسية باستعدادها للاعتذار كأسلوب أخلاقي جماعي، وتعبير عن شجاعة أدبية، إلا أن غالبيتها لا تُقدم على الاعتذار إلا إثر ضغوط قوية، سياسية أو نفسية أو رأي عام صاحب «نَفْس لوَّامة» تحركه باتجاه الاعتذار عن الشر، والإقدام على الخير.
اعتذرت اليابان، بعد توقيعها وثيقة الاستسلام، عن عملية قصفها القاعدة العسكرية الأمريكية في ميناء بيرل هاربر رغم أن كل الضحايا كانوا من العسكريين المقاتلين، بينما لم تعتذر أمريكا عن ضرب هيروشيما وناجازاكي بقنبلتين ذريتين أثناء الحرب العالمية الثانية، رغم أن الضحايا كانوا كلهم من المدنيين، فضلاً عن أنه لم يتم وضع هاتين المدينتين ضمن التاريخ الإنساني الذي تم تدميره بقسوة بالغة، وبدون ضرورة ماسة.
حروب عدوانية شرسة، وتميير عنصري كريه وعبودية، وغزوات عنيفة غير مبررة، جرت في القرنين الأخيرين، وفي العقدين الأخيرين بخاصة وفي أماكن متعددة من العالم، وما زالت بدون اعتذار لضحاياها، دولاً وشعوباً، ومازالت أجيال حية تتذكر محارق ومآسي دموية في فيتنام ودول إفريقية وعربية، في فلسطين والجزائر وأفغانستان والعراق وسوريا وغيرها.
لم تعتذر فرنسا ولا إسبانيا والبرتغال عن ماضيها الاستعماري الشرس، والمليء بالتدمير والاستعباد والنهب، في مناطق عديدة، في الجزائر، وأمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، وحوض الخليج العربي.
لكن العالم سمع بابا الفاتيكان فرنسيس، ذات يوم، وهو يطلب «الصفح» أثناء رحلة له إلى أمريكا الجنوبية في العام 2015، ليس الاعتذار فقط، عن جرائم الكنيسة الكاثوليكية نفسها ضد الشعوب الأصلية باسم التبشير، بل أيضاً عن الجهات التي ارتكبت الجرائم ضد هذه الشعوب.
هناك اعتذارات جاءت متأخرة، من بينها اعتراف الرئيس الأمريكي بايدن بالفظائع التي ارتكبت بحق السكان الأصليين من الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، وقد جاء هذا الاعتذار الخالي من الإنصاف في ذكرى يوم المستكشف كريستوفر كولمبس، الذي يعد عيداً وطنياً أمريكياً، وقال الرئيس عنه: «إن هذا الاستكشاف، أدّى إلى موجة من الدمار للسكان الأصليين». وطالب الأمريكيين «بعدم دفن الأجزاء المخزية من تاريخ أمريكا»، وأصدر قراراً باعتبار يوم الحادي عشر من أكتوبر من كل عام، يوم ذكرى للسكان الهنود الحمر، بالتوازي مع ذكرى «يوم كولمبس».
كما أزالت جامعة هارفارد قبل سنوات شعاراً لعائلة تاجر رقيق ثري كان جزءاً من شعار كلية الحقوق في الجامعة. واعترفت الجامعة بأن العبودية كانت من جوانب ماضيها وغيرها من المؤسسات الأمريكية المتواطئة بشكل مباشر في نظام العبودية العرقية في أمريكا.
وهناك تاريخ مشين لعدد من «البارونات اللصوص»، وفق وصف أطلقه ذات يوم الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت على أثرياء كبار بدأوا شبابهم كلصوص وقاطعي طرق، وبنوا ثروات طائلة، وفي نهاية العمر، صاروا يتشبهون ببارونات أوروبا، فشيدوا أو دعموا مؤسسات علمية وخيرية مماثلة لما شيَّده أمراء إقطاع أوروبي مستنيرين، تدعم البحوث والفنون، وبدوا أتقياء وحتى متدينين، وكأنهم ينشدون الغفران والصفح والاعتذار.
ومن بين هؤلاء مالك العبيد الثري إسحاق رويال، الذي قدم أرضاً وثروة لصالح جامعة هارفارد في القرن التاسع عشر، فأنشأت الجامعة كرسياً لأستاذية القانون باسمه، وهو من عائلة بريطانية مستعمِرة في الشمال الأمريكي (نيوإنجلاند).
وكذلك المليونير الشهير جون روكفللر الذي جمع ثروة أسطورية من إبادة قبائل من الشعوب الأصلية في فنزويلا، كي يُفسح المجال للتنقيب عن البترول، بعد أن صمم على امتلاك هذه الحقول.
وقد استحق هذا الرجل أن يوصف بأنه «أسال دماءً على سطح أراضي فنزويلا بأكثر مما استخرج من آبارها نفطاً».
وتذكر وثائق أمريكية أن روكفللر الكبير وضع على مكتبه لوحة كتبت عليها عبارة مأثورة عن مستوطن استعماري إسباني، في القرن السابع عشر، تحمل نداءً موجهاً منه إلى الأهالي من الشعوب الأصلية في كافة مستوطنات إسبانيا في أمريكا اللاتينية، ونصه هو: «عليكم أن تعرفوا من الآن فصاعداً، أنكم رعايا ملك إسبانيا، ولابد أن تعتنقوا الدين الكاثوليكي، ومن هذه اللحظة أنتم عمَّال لنا، وزوجاتكم وأولادكم هم عبيد عندنا، وإذا لم تمتثلوا وقع عليكم العذاب».
في سواحل عُمان والإمارات، عاث قائد برتغالي بربري فساداً وقتلاً وحرقاً واستباحة في مطلع القرن السادس عشر، وهو المدعو الفونسو دي البوكيرك، وارتكب مذابح هائلة، حَرَقَ المدن، وأعدم الرجال والنساء في الساحات، وجدع الأنوف والآذان، وقطع الأعضاء التناسلية.. الخ
لم نسمع اعتذاراً، ولم نطلب اعتذاراً.
الاعتذار مطلوب، وهو من شيم الكبار.