"قسد" والخطط الأميركية المستجدّة: إدمان الرهانات الخاسرة

تحليل وآراء

الأربعاء، ١١ مايو ٢٠٢٢

بالتزامن مع التصعيد العسكريّ التركيّ باتّجاه مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" في الشرق السوري، وفي ظل خشية قوى الأمر الواقع الكردية المدعومة من واشنطن من هجوم عسكريّ تركيّ شامل على المنطقة، وخوف كرديّ من تقهقر السياسة الأميركيّة في سوريا وعموم الشرق الأوسط، حاول الكرد التأرجح على عدّة حبال في وقت واحد، لعلّهم يجدون ما يتعلّقون به للنجاة وتحقيق بعض المكاسب في هذا الظرف الدوليّ والإقليميّ والمحلّي العصيب.
بدايةً، حاول الكرد دفع واشنطن إلى التدخّل بقوة لدى الأتراك لمنعهم من القيام بعمليّة عسكريّة شاملة في الشرق السوريّ، لكنهم لمسوا عدم جدوى الاعتماد على الأميركيّ وحده، نظراً إلى مصالح واشنطن الاستراتيجية والمستجدة مع أنقرة، وخصوصاً بعد استعار الأزمة في أوكرانيا، وحاجتها إلى كلّ جهد دولي ممكن في مواجهة روسيا، ولم يجدوا بدّاً من التوجه إلى الطرف الروسيّ ودعوته إلى كبح جماح إردوغان في الشرق، والطلب من موسكو أن تتصرّف كطرف ضامن للتعهدات التي أبرمت بعد العملية العسكرية التركية الواسعة في أواخر العام 2019.
صحيحٌ أنّ الطرف التركيّ لم يوقف عملياته العسكرية ضد القوى الكردية في المنطقة الشرقية من سوريا، وهو مستمرّ بتوجيه ضربات انتقائية لاغتيال شخصيات كردية عن طريق هجمات الطيران المسيّر أو دفع الميليشيا السورية التي نظّمتها تركيا تحت مسمى "الجيش الوطني السوريّ" إلى القيام بقصف مدفعي على بعض المواقع الكردية في ريفي حلب الشماليّ والرقة، لكنْ يبدو أنّ الكرد حصلوا على تطمينات روسية بأنّ أنقرة لن تقوم بحرب شاملة ضدهم حاليّاً.
لم تتوقف موسكو هنا، بل حاولت استمالة الكرد عن طريق إيجاد مكان لهم في مباحثات "اللجنة الدستورية" في فيينا، لكنّ الكرد لم يكتفوا بهذا الأمر، بل تقدّموا خطوة باتّجاه قوى المعارضة السوريّة، وسُجّل غزل كردي ملحوظ يستهدف تطوير العلاقات بين الطرفين في الآونة الأخيرة، فيما تراجع الكرد خطوة على طريق دمشق.
وقد تجلّى ذلك باتّهام "قسد" الدولة السورية بمحاصرة حيّي الشيخ مقصود والأشرفية الحلبيّين، حيث آخر ما تبقى من نفوذ لـ"قسد" في منطقة حلب، لتبادر قوات "الأشايس" الكردية التابعة لها، ليلة الجمعة 8 نيسان/أبريل الماضي، إلى محاصرة الفرن الرئيسي في القامشلي ومنع دخول الطحين والمحرقات اللازمة لتشغيله، ثم إغلاقه بعد طرد عماله.
وفي العاشر من الشهر نفسه، أقدمت قوات "الأشايس" على إغلاق جميع الطرق المؤدّية إلى مطار القامشلي والمنطقة المحيطة به، ونشرت عدداً من الحواجز في شوارع منتصف المدينة وحول المربع الأمنيّ الذي تشغله مؤسسات الدولة السورية وأجهزتها الأمنية، وقامت أيضاً بفتح الطريق المؤدّي إلى معبر "نصيبين" على الحدود التركية، الذي يحاذي الأفرع الأمنية السورية تماماً، والذي كانت السلطات السورية قد أغلقته في العام 2011. تلا ذلك عمليّات خطف واحتجاز لعدد من الموظفين والعاملين في مؤسسات الدولة المدنية والعسكريّة. 
وقد عمدت الميليشيا الكردية إلى الإجراءات عينها في مدينة الحسكة، ونشرت قواتها حول المؤسسات والمراكز الأمنية التابعة للدولة السورية، ومنعت وصول مادتي الطحين والمحروقات، وأغلقت أفران المدينة، كما منعت وصول الأدوية والمستلزمات الطبية إلى الصيدليات والمستشفيات التابعة للدولة، الأمر الذي أدّى إلى حدوث أزمة معيشية وصحية خانقة في أحياء مدينة الحسكة، وتفاقم معاناة المواطنين الذين اختبروا طوال أشهر طويلة شحّ المياه بسبب الحصار التركي والاعتداءات التركية والكردية على محطات توليد وتوزيع الكهرباء.
في الأشهر الأخيرة، وبعد اندلاع الصراع في أوكرانيا، وانشغال الغرب بكل ما من شأنه مواجهة روسيا ومحاصرتها، حاولت بعض القوى المنخرطة في الصراع على سوريا استغلال هذا الارتباك العالميّ لاكتساب نقاط جديدة في الميدان السوريّ، إمّا عن طريق التحرك العسكريّ واللعب بالخرائط الجيوسياسية والديمغرافيّة، كالأتراك الذين لم يوفّروا أي فرصة أو جهد لتحقيق مكاسب استراتيجية تخدم مشروعهم في سوريا والمنطقة، أو الكرد الذين يتخبّطون بين الخوف من ضياع أحلامهم القومية ومشروعهم الانفصاليّ واستعراض قوتهم ومكاسبهم العسكرية والسياسية والاقتصادية التي أمّنها لهم الوجود العسكري الأميركي، واستغلالها لتقوية فرصهم في التفاوض على المنطقة وثرواتها، وتكريس وجودهم كقوة أمر واقع لا يمكن تجاوزه.
في 13 آذار/مارس الماضي، بدأت الميليشيات الكردية حملة عسكرية واسعة على "مخيّم الهول" في شرقيّ البلاد، والذي يُعتبر أحد أهمّ خزانات تجنيد المقاتلين بالنسبة إلى تنظيم "داعش" الإرهابيّ في المنطقة الشرقية.
لم يكن هذا الأمر مجرّد هجوم استباقيّ كرديّ لمنع "داعش" من إعادة جمع قواه والهجوم على مناطق سيطرة "قسد"، بل محاولة كردية لبثّ رسائل سياسيّة في كلّ اتّجاه، تبدأ من واشنطن والقوى الغربية، ولا تنتهي في دمشق، مروراً بموسكو وأنقرة، فقد أرادت القوى الكردية القول إنها قوة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاوزها في مسألة الحرب على الإرهاب، وفي مواجهة التنظيم الإرهابي الذي يهدد الجميع، كما أرادت قطع الطريق على أنقرة التي قد تحاول تحريك بعض خلايا التنظيم للقيام بهجوم على مواقع "قسد"، للضغط أكثر على الكرد بالتوازي مع التصعيد العسكري التركيّ. 
من جهة أخرى، وبالتزامن مع ذكرى اندلاع الأزمة السورية، بثت "الإدارة الذاتية" رسائل أكثر انفتاحاً باتجاه المعارضة السورية، وبدا أنّ الكرد يرغبون في التقرّب أكثر من تلك القوى المدعومة تركيّاً وغربيّاً، وذلك لعدة أغراض، منها محاولة دفع هذه القوى إلى التوسط لدى أنقرة لتخفيف التوتر مع تركيا، وتشكيل جبهة أوسع للضغط على الدولة السورية في المحادثات السياسية، ودفع دمشق إلى تقديم تنازلات على هذا المستوى، كذلك محاولة احتواء المكوّن الشعبيّ العربي ذي الأغلبية بين سكان المناطق التي يسيطر عليها الكرد، وذلك بعد تصاعد الغضب الشعبي في وجه الميليشيا الكردية، وتمكّن دمشق من التوصل إلى مصالحات كبيرة في المنطقة الشرقية، وتشكيل فصائل مقاومة للاحتلال الأميركي وأداته "قسد"، بدأت بالعمل والتصعيد فعلاً في الأشهر الأخيرة. 
كانت الدوائر السياسية الأميركية توصّلت إلى قناعة فرضها الميدان العسكري السوري وتقدّم دمشق ومحور المقاومة والحليفة روسيا، بأن لا سبيل لحل الصراع مع الإبقاء على بعض النفوذ الأميركيّ في سوريا سوى بالتفاهم مع موسكو، لتضمن الأخيرة مكاسب الكرد وتحلّ محل القوات العسكرية الأميركية التي كان من المحتمل أنْ تنسحب في حال التوصل إلى تفاهم موثوق وطويل الأمد مع الروس، لكنّ الأزمة الأوكرانية غيّرت كل هذه الخطط، وبدأ رأي سياسيّ واستخباريّ وعسكريّ أميركيّ بالتبلور أكثر في ما يخصّ الساحة السورية واستخدامها في الصراع ضد موسكو.
وتعتمد الرؤية الأميركية الجديدة على الكرد والأتراك بشكل أساسيّ، وعلى جميع القوى العسكرية والأهلية والإرهابية العاملة تحت الراية الأميركية والتركية، إذ بدأت دوائر نافذة في واشنطن بالدفع باتّجاه توحيد القوى المعادية لدمشق وروسيا أو المتضرّرة من وجود الأخيرة القوي في الساحة السوريّة، بما يعنيه ذلك من التوصّل إلى اتّفاق تركيّ كرديّ يضمن التهدئة أوّلاً، ثم التنسيق والعمل معاً ضد دمشق وموسكو، وذلك من خلال دمج جميع القوى السورية المعارضة ضمن تشكيل سياسيّ يكون له وزن أكبر في المفاوضات السياسية، ويستطيع الادّعاء بتمثيل أوسع شريحة من السوريين القاطنين في المناطق الخارجة عن سيطرة الشرعيّة السوريّة.
وبموازاة ذلك، تدفع واشنطن هذه القوى نحو العمل معاً على الأرض لإخراج "نموذج حكم" يمكن الاعتداد به أمام الخارج، بعد دعمه وتقديم كل الإمكانيات التي تمكّنه من إدارة تلك المناطق بأفضل طريقة ممكنة، حيث الأمن والأمان والاستقرار والاستثمارات الاقتصادية التي تساعد على تنمية وازدهار المنطقة الممتدة من شمال اللاذقية إلى القامشلي والمالكية عند الحدود العراقية في أقصى الشمال الشرقيّ، الأمر الذي تنتفي معه الحاجة إلى روسيا كطرف ضامن أو قوة فاصلة بين القوى المتصارعة على الجانبين التركي والكردي.
وتسعى واشنطن من خلال ذلك إلى طمأنة تركيا والكرد معاً، واعتماد أنقرة عضواً فاعلاً في تلك المنطقة، ووضعها أمام موسكو باعتبارها قوةً رئيسية تتبع لحلف الناتو تحديداً.
يلقى هذا الرأي استحساناً ورواجاً في الولايات المتحدة والغرب هذه الأيام، وهو ما يُفسّر المحاولات الكردية الأخيرة للتقرب من المعارضة السورية، وارتياح الكرد من الخطوة الروسية التي أخذتهم إلى فيينا، والتي أرادت موسكو من خلالها تحقيق أهداف معاكسة تماماً للرؤية الأميركية، وهذا أيضاً يجعل الكرد أكثر ارتياحاً حيال المخاوف من حرب تركية شاملة عليهم، فقد بدا لهم أنّ الحاجة إليهم باتت ملحّة لمختلف الأطراف، الأمر الذي دفعهم إلى العودة إلى الرهانات الكبيرة.
لكنّ رهانات واشنطن، كما رهانات الكرد غير المحسوبة دوماً، اصطدمت بعوائق كثيرة على الأرض السورية. صحيح أنّ تركيا أبدت اهتماماً كبيراً بالرؤية والخطط الأميركية الجديدة، لكنها مصرّة على تحييد عدوها التاريخي "حزب العمال الكردستاني"، الذي ترى أنّه ممثّل بالقوة صاحبة النفوذ الأكبر في "الإدارة الذاتية"، ولا يمكن الوثوق به.
 كما تدرك أنقرة أنّ روسيا لم تضعف في سوريا أو تتراجع كي تستطيع أيّة قوة أخرى الحلول محلها، وهي تعرف أنّ دمشق وحلفاءها في قوى محور المقاومة باتوا أكثر قوة في الشرق السوري، وأنّ ضرباتهم الموجهة إلى "قسد" وقوات الاحتلال الأميركي ستأخذ بالتصاعد، وسينتج منها ضعف أميركيّ سيؤدي إلى الانسحاب.
أضف إلى ذلك، أنّ إردوغان يلمس النتائج العملية للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وأثرها في العالم أجمع اقتصاديّاً وسياسيّاً. لذلك، يعيد ترتيب أولوياته في المنطقة، وعينه على الانتخابات البرلمانية التركية القريبة.
وتسعى قوى المعارضة التركية إلى التركيز على الفشل التركي في سوريا والمنطقة، وهو يحاول لملمة ما يستطيع من الأخطاء والفشل هنا قبل الانتخابات، وليس الوقوع في مطبّات أميركية جديدة. لذلك، تابعت أنقرة توجيه ضرباتها وهجمات حلفائها السوريين إلى المواقع الكردية، ولم توقف التنسيق مع موسكو أبداً.
وبعد أن أدرك الكرد مؤخّراً، وبعد أكثر من 3 أسابيع من حصار الأحياء الشعبية والمؤسسات السورية في الحسكة والقامشلي، أنّ الخطة الأميركية لا تسير على ما يرام، وأنهم يخسرون أكثر في كلّ يوم، وأنّ الضغط السوري على ميليشياتهم في حلب اقترب من احتمال العمل العسكري الموسّع، طلبوا توسّط "قاعدة حميميم" الروسية بينهم وبين الدولة السورية، ووضعوا بعض الشروط للقبول بفك الحصار، أبرزها تغيير محافظ الحسكة اللواء غسان خليل، لكنّ دمشق لم تقدّم أيّة تنازلات. وقد استطاع الروس ليلة الخميس 28 نيسان/أبريل الفائت التوصل إلى اتفاق أدى إلى فك الحصار فوراً عن الأحياء والمؤسسات والأفران، وإدخال جميع المواد الغذائية والطبية وإمدادات الطاقة.
المتوقّع هنا في الميدان السوري أنْ يستمر الضغط على الكرد وحلفائهم الأميركيين في الشرق من قبل الجيش العربي السوري وقوى المقاومة والقوى الشعبيّة، كما سيستمرّ الضغط العسكري التركيّ وقصف القوى المسلحة الحليفة لأنقرة للمواقع الكردية، من دون التدحرج نحو عمليات عسكرية شاملة.
وقد تسفر هذه الضّغوط عن عودة الكرد إلى الواقع، بعيداً عن الخطط الأميركية العرجاء، إذ لن يكون أمام "الإدارة الذاتية" سوى اللجوء إلى موسكو، لتفتح لها طريق دمشق من جديد؛ دمشق ذاتها التي ضاقت بالألعاب البهلوانية الكردية الخطرة والمؤذية، والتي تعدّ بأمسّ الحاجة الآن إلى نفطها وقمحها التي تسرقه قوى الاحتلال الأميركي وتستغلّه "قسد" أبشع استغلال.
ولن يكون الميدان السوري بعيداً عن تداعيات الأزمة الأوكرانية على جميع المستويات، السياسية والعسكرية على وجه الخصوص، وجميع المعطيات تشير إلى خسائر أميركية وغربية كبيرة هنا أيضاً لمصلحة موسكو ودمشق والقوى الحليفة في المنطقة.