بيديَ لا بيدِ عمرو...بقلم: الباحثة النفسية الدكتورة ندى الجندي

بيديَ لا بيدِ عمرو...بقلم: الباحثة النفسية الدكتورة ندى الجندي

تحليل وآراء

السبت، ٢٥ يونيو ٢٠٢٢

بهذه الكلمات كانت النهاية لأقوى امرأة عرفها تاريخ الشرق القديم.

كلمات نطقت بها.. ثم جرعت السُم بيدها وأنهت وجودها!

هل خانتها قواها لتُقدم على فعلتها هذه؟؟

أم أنه قرار سيادي اتخذته بملء إرادتها؟؟

أدركت أن الموت لا محالة فاختارت حق تقرير مصيرها بيدها!

خسرت الحرب أمام عدوها.. فقدت وطنها.

ألا يفقدُ الإنسان السيادة إذا فقد وطنه؟؟

أليس هو في حالة أشبهُ بالموت؟

أي مصير قاهرٍ كان ينتظرها بعد أن فقدت عرشها؟؟

من هي هذه المرأة وأي حقيقة جسدت في موقفها هذا؟

إنها (الزباء) ملكة الملوك.. ملكة (تدمر) الحاضرة أبداً عبر التاريخ، الآثار والأعمدة إلى يومنا هذا تصدحُ بعظمة هذه المملكة، حجارتها تنطق باسم ملكتها!

فلا تُذكر حضارة تدمر إلا ويتبلور معها اسم (زنوبيا) الملكة المحاربة ويكفي التأمل بتمثالها لنجدهُ ينطق متحدثاً عن قوة شخصيتها.. ملامحها.. نظراتها أي روح تضفي وأي مهابة نشعر بها ونحن ننظر إلى تمثالها.

فمن هي هذه المرأة وما هي حكايتها؟؟

كُتب الكثير عنها من الأساطير واختلفت الروايات من حولها من الشرق إلى الغرب باختلاف التأريخ ومدون التاريخ وما يجسده من تبعات سياسية!

سأتناول قصتها باختصار من وجهة نظر الرؤيا العربية.. ما كُتب عنها وما توثقه حجارة تدمر الصامدة.

إنها (زنوبيا) ابنة الصحراء، ابنة تدمر التي تقع في بادية الشام، موقعها الجغرافي الهام جعلها محط القوافل، حيث كانت تمرُ عبرها التجارة القادمة من الشرق إلى روما وأوروبا ومحطة تجارية هامة على طريق الحرير القادم من الصين مما لفت الأنظار إليها وكان الصراع عليها بين مملكتين عظيمتين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية.

ملكة عربية قوية جميلة ظهرت على سطح الأحداث التاريخية والصراع في أوجه بين الفرس والروم (زنوبيا) بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة، قُتل أباها غدراََ على يد (جزيمة الأبرش) ملك الحيرة فكيف كان ردها؟؟؟

الزباء امرأة ليست ككل النساء...بالإضافة إلى جمالها الباهر وذكاؤها المتقد، ثقافتها كانت تتكلم أربع لغات (الآرامية، القبطية، الرومانية، والإغريقية) كانت تحب الفلسفة واستقدمت أشهر الفلاسفة في عصرها إلى مملكتها. والأهم أنها كانت شجاعة تدرك فنون القتال.

ازدهرت تدمر في عهدها وعرفت تطوراً عمرانياً واقتصادياً واسعاً وتوسعت مملكتها حتى شملت باقي مناطق سورية وامتدت من شواطئ البوسفور حتى النيل.... حتى إنها أصدرت عملة خاصة بتدمر وصكت النقود في أنطاكية، أحبها شعبها وآمن بها، فأصبحت مملكتها أقوى الممالك في الشرق حتى أن روما كانت تهاب من توسع نفوذها.

بعد مقتل أبيها آل الحكم إليها فخططت للانتقام من قاتل أبيها جزيمة الأبرش أدركت حبه للسلطة وهل يكون الصراع إلا في سبيل السلطة؟

علمت ما تجوب به نفسه، فدعته إلى نفسها وعرضت عليه أن يتزوجها وأن يضم ملكه إلى ملكها. جزيمة عرض مطلبها هذا على مجلس شيوخه فوافقوا جميعاً إلا رجل واحد يدعى (قصير بن سعد)، حيث اشتم رائحة الغدر والخديعة، فنصحه بأن يطلب من زنوبيا أن تأتي هي اليه لإتمام مراسم الزواج، لكن جزيمة لم يأخذ برأيه وانساق وراء مطامعه وحضر إلى زنوبيا في زفاف ملكي وعندما دخل مخدعها ظهرت له زنوبيا وهي ترتدي لباسها العسكري فانقضت عليه وقتلته شر قتلة وانتقمت لوالدها.

عندما بلغ نبأ مقتل (جزيمة) قصيراً مستشاره سارع إلى (عمرو بن عدي) ابن أخته حيث كان يتولى مهام الحكم في غياب (جزيمة) وحثه على الثأر لمقتل خاله ووضع مكيدة يوقع بها الزباء، حيث طلب منه أن يجلده ويضربه وأن يقطع أنفه، فيذهب إلى الزباء مستجيراً بها يشكو ما عاناه من (عمرو) لأنه اعتبره هو الذي دفع خاله (جزيمة) إلى الزواج من زنوبيا.

لجأ قصير إلى زنوبيا بعد أن جدع أنفه مدعيا أنه لجأ إليها خوفاً من بطش عمرو وكانت حاله يُرثى لها فانطلت الحيلة على الزباء، استقبلته وأكرمته وأسكنته قصرها... فتحت له الأبواب جميعها فعرف كل مداخل وسراديب المملكة حتى الباب السري الخاص بالملكة الذي تستخدمه للهروب في الحالات الطارئة.

استقر (قصير) في تدمر بعد أن وثقت به الزباء فطلب منها السماح بالذهاب الى الحيرة ليأتي بتجارة له يمتلكها، فسمحت له وبالفعل عاد ومعه الجمال محملة بأجمل البضائع وعند وصول القافلة فتحت أبواب المدينة جميعها وكان هذا هو الخطأ الفادح!

فمهما كان القادم ومهما كانت مكانته لا يجب أن تفتح الأبواب جميعها أمامه.

دخلت القافلة وكانت محملة بالرجال!

أسرعت زنوبيا للهرب من ممرها السري، ولكن (عمرو) كان ينتظرها هناك فأدركت مصابها والحال الذي ستؤول إليه المملكة.

كيف قادها (قصير) الى ما يريد؟

ما الذي جعل هذه المرأة الذكية تنساق بهذه الطريقة إلى حتفها؟

هل هي لحظة إنسانية تعاطفت مع هذا الرجل ونسيت أنها الحاكمة والمسؤولة عن شعبها؟

لم تتوقع أبداً أنها خديعة وأن (قصير) لأمر ما جدع أنفه؟

 لم تتوقع أبداً أن يضحي إنسان بنفسه هكذا ويقبل التعذيب فداء لنصرة ملكه ومملكته! ؟

أبواب المملكة فُتحت أمام من اعتقدت أنه الصديق.... تسلل العدو إلى الداخل فكيف النجاة؟؟

في لحظة إنسانية تعاطفت (زنوبيا) مع (قصير) وشفقت لحاله ونسيت أنه من الأعداء!

 نسيت أنها الحاكمة الآمنة على حياة شعبها، فتحت الأبواب جميعها.. الحدود تلاشت، وعندما تفقد الحدود تضيع السيادة.

حتى الصديق القريب يحب توخي الحذر ألف مرة، فلا تعرف متى ينقلب عليك.... لا تفتح الأبواب جميعها أمامه.

 استباحوا المملكة وأرادوا إذلالها.

عندما تُفقد المرأة السيادة على حياتها ألا تكون مُعدمة في حالة سبات نفسي؟

أدركت الزباء الخديعة، ولكن لن ينال (عمرو) شرف قتلها وأي أثر حزين كان سيوصم به شعبها إذا كان (عمرو) هو قاتلها!

لا أحد يمتلك السيادة على حياتها سواها، فكان قرارها موتها بيدها لا بيد عمر!

أي حقيقة عبرت عنها زنوبيا؟؟

السيادة والصراع على السلطة، ولكن قبل السعي إلى السلطة هل نمتلك حقيقة السيادة على حياتنا؟

 قراراتنا هل هي التعبير عن إرادة حقيقة أم هي ليست سوى إرادة زائفة ناتجة عن أُطر فكرية بالية موروثة توجه فكرنا وسلوكنا؟

هل ندرك فعلاً خطواتنا أم أننا نسير بشكل آلي تقلبنا صفحات الأيام بعبثية وفق ما توجهنا به رياح الحياة؟؟

هل ندرك خفايا سلوكنا.. مشاعرنا؟

ما هو الحافز وراء أي قرار نتخذه؟

هل نرسم قدرنا أم أننا نُسلم بما تُمليه الأيام علينا؟

هل نتملك فعلاً السيادة الفكرية؟

هل ندير دفة حياتنا؟

السيادة على الذات هو أن يعرف الإنسان نفسه حق المعرفة، هو أن يدرك محيطه وبالتالي يسعى للحصول على السعادة والتفاعل مع الآخرين وقبولهم.

ماذا يحدث إذا فقد الإنسان السيادة على حياته؟ يبقى دائماً في حالة المعذب بصورة الضحية! إنه فاقد للإرادة

فما هو هدفنا وما هي بوصلتنا للحياة؟

أي فعل نقوم به لا ينجح إذا لم نؤمن بذاتنا بقدراتنا، بمعتقداتنا..

الاعتقاد والإيمان بالشيء يعطي الحافز ويسمح بالتحرك والقيام بالفعل الذي هو مفتاح النجاح فما هي معتقداتنا التي تحرك سلوكنا؟

الإيمان بالشيء يدفعنا إلى تحفيز كل طاقاتنا... المعتقد هو البوصلة التي توجه سلوكنا، ولكن ماذا تكون النتيجة إذا كان سلوكنا مبني على معتقدات خاطئة؟؟

أول شيء يجب عمله لتغيير سلوك ما هو البدء بتغيير الاعتقاد الخاطئ!

الاعتقاد الخاطئ ما هو إلا تمثل داخلي فكري يوجه سلوكنا، للوصول إلى هدفنا يجب تحرير أنفسنا من الأوهام والمعتقدات الخاطئة والأهم تبني الأفكار الإيجابية.

فما هي بوصلتنا للحياة؟

لمعرفة ذلك يتطلب منا الوقت الكافي للغوص في أعماق النفس لمعرفتها وبالتالي الابتعاد عن حالة الفوضى مما يدفع للتركيز على التطور والإبداع ولا يكون ذلك إلا بالعمل ثم العمل للوصول إلى الهدف.

الإنسان الضعيف عقلياً لا يعرف مواهبه وقدراته لا يمتلك حتى الصبر والوقت الكافي للتغيير. الإنسان الضعيف عقلياً ينهار من أول فشل يتعرض له.... إنه لا يفكر، بل هو في حالة تقليد للآخرين ...لا يبني حدود نفسية وعاطفية مع الآخر وبالتالي ينساق في حالة تبعية نفسية فهو فاقد للسيادة.

السيادة تتطلب الدقة والمعرفة... تتطلب المجازفة، ولكن بشكل مدروس بعد تحليل المخاطر والتنبؤ بالنتائج.

التطور يحتاج إلى حالة يقظة وتوتر تدفعه لتجاوز أخطاء الماضي والسير تقدماً،

السيادة تتطلب المعرفة والعلم ومن امتلك العلم لا يعرف العبودية!

ضرورة الإنسان أن يبحث عن ذاته، يدرك خفاياها حتى يشعر بسيادته وكيانه.

 حكاية الزباء تشير في عمقها إلى أهمية الانتماء وحب الوطن، فمن يفقد وطنه يفقد السيادة يفقد وجوده. ماذا عن شعور الإنسان بكرامته وسيادته في وطنه آلا يعزز ذلك من قوة انتمائه وحبه لوطنه؟؟؟

سنوات حرب قاسية مرت على انساننا السوري هدفها محو الهوية السورية والأهم استهداف المرأة بعنفوانها وشموخها...المرأة السورية التي عرفت بقوتها وثباتها عانت الكثير وماتزال مستهدفة إلى يومنا هذا، حاولت إلقاء الضوء على حياة امرأة متميزة من التاريخ السوري القديم فنحن النساء اليوم بأمس الحاجة لقدوة نحتذي بها.

زنوبيا حكمت ولا أحد يستطيع أن يحكمها...لا أحد يستطيع سلب سيادتها، إنها امرأة حرة.

نحتاج اليوم لشجاعة الزباء وصمودها، نحتاج أن نوقظ في أنفسنا روح التمرد على كل من يقيد فكرنا.. على كل من يحاول محو شخصيتنا...نحتاج لمزيد من الوعي ...نحتاج لسلاح العلم والمعرفة...نحتاج للإرادة الصلبة لتحقيق وجودنا

يجب ألا ننسى أن الذي يملك الحرية الفكرية لا يفقد أبدا السيادة.