المبنى العتيق.. بقلم: صبحة الراشدي

المبنى العتيق.. بقلم: صبحة الراشدي

تحليل وآراء

الخميس، ١٩ يناير ٢٠٢٣

المخزون العاطفي في دواخلنا باستطاعته استيعاب جمال الحياة وصخب الوجدان. ما زلت أذكر تلك الزاوية المهجورة، والأصوات الشائكة والخطوات المتداخلة، والأعين الجاحظة، ذاك الضجيج والعزف الغريب، وبين هذا وذاك صوت يملأ القلب سعادة. أثارني وأدخل السعادة إلى قلبي. لم أدرك من أين يأتي، أمسكت بطرف ذلك الكرسي المحشوة جوانبه بفلين، والمحكوم بربطة عتيقة عفا عليها الزمن. جلست في الجانب المحكم منه، وفي يدي رائحة عبق يعشقها قلبي، أخذت قهوتي في يدي، وأنا أتلذذ بعبقها وبين رشفة وأخرى عيناي على ذلك المبنى القوطي الغريب. له من الطراز ما يذهل العقل، ترجع أصوله للمباني القوطية الملتهبة، التي تتميز بالعقود المعمارية المضلعة والنوافذ البارزة المقوّسة. كل نافذة من هذه النوافذ تحمل في أحشائها قصصاً، وروايات يفوح منها عبق الزمان، وكأنني أرى عصوراً تتقدم، وأخرى ترجع للوراء.
في الطرف الأيمن لذلك المبنى العتيق هناك نافذة مقوسة من باب واحد، شعرت للحظة بأن صاحبها أسير ذلك المخدع، كان لها نور بسيط، له خيوط تتموج، وكأنها أشعة الشمس. أطلت النظر لأعرف ما هو هذا الشيء، الذي يتموج وإذا بفتاة شقراء لم أر شيئاً سوى شعرها، الذي يتموج وكأنه يراقص الخيال. كانت ترتدي فستاناً أبيض تحت نافذة، تفوح منها رائحة الياسمين، وتلك الستائر البيضاء، التي تداعبها في جو قارس يكسو الفؤاد ثلجاً. اقتربت منها، لم أر سوى خصلات شقراء تراقص الخيال. لم أستوعب المنظر فاقتربت أكثر، بعد أن فتحت نافذتي. تمعنت ففاجأني ما رأيت: فتاة ذات حسن وجمال، تحتضن في يدها بوقاً رومانياً قديماً. يخيل إليك أنه قد مر عليه عقد من الزمن. وترك الزمان لها بقايا تعزف بجنون، ولحناً صاخباً تضج منه الممرات والشوارع. تمعنت ذاك الجمال وذاك الجنون وشعرها، الذي يتموج في خيوط القيثارة، لفتتني قطع لآلئ أسفل عينيها منحدرة إلى شفتيها. ما رأيته أثار جنوني وكأن عقارب الساعة توقفت هنا. شعرت بأن بركاناً نارياً ينفجر في داخلها. 
لحظة تأمل!
كل واحد منا بداخله بركان عواطف ومشاعر ووجدان قد يظهر خبايا ربما لا تكون محبذة عند الجميع، ولكنها الأصدق والأعمق، والقليل منا من يستطيع استيعابها، والقليل منا من يتقن قراءتها وتفسيرها أو بالأحرى تحليلها. البعض منا يفضل العزلة كتلك الفتاة، وبعض آخر قد يدفنها في حنايا صدره، ومن قد يراها نقاط ضعف ومن يراها وقتاً للهروب.
ولكني لا أتفق مع كل تلك الآراء، جميل أن نتشارك ذاك البركان الدفين مع من نحب شريطة أن يكون المخزون العاطفي، الذي يكمن في دواخلنا في استطاعته استيعاب جمال الحياة وصخب الوجدان. ولكن هيهات أن يستوعب البشر ذاك الضجيج! نعم جميل أن يمتزج ذاك الضجيج في أحضان من نعشق. لك أن تتخيل أن كل ذاك الضجيج سيتلاشى ولن يبقى له أثر. نعم، ولدنا في هذه الدنيا منفردين، وسنكفن كذلك، وسندفن كذلك، فلم نحتفظ بضجيج لا تستوعبه عقولنا، ولا تستوعبه أجسادنا!