الدموع.. بقلم الباحثة النفسية الدكتورة ندى الجندي

الدموع.. بقلم الباحثة النفسية الدكتورة ندى الجندي

تحليل وآراء

الجمعة، ١٠ مارس ٢٠٢٣

رغم تجنبها إلا أننا نحتاجها في التعبير عن أحزاننا، نحتاجها في تجسيد آلامنا، نحتاجها في التنفيس عن معاناتنا.
الدموع تذرف لحظة ألم وحزن، لحظة يأس، وربما ندم، حتى في أقوى لحظات الفرح تكون حاضرة تعبيراً عن الخلاص بعد طول انتظار، تعبيراً عن الفرج بعد ليالي القهر والعذاب، تعبيراً عن النجاح بعد ليالي السهر بالدراسة والعمل الشاق.
الدموع ماذا تبوح به؟
هل تعكس حالة ضعف؟أم إنها بمثابة سلاح فتاك؟
الدموع قطرات عذبة تطهر قلوبنا، وتغسل آلامنا، هي الطريق للوصول إلى الحياة النفسية الداخلية، فهي تعكس حقيقة مشاعرنا ومخاوفنا، وقد تبوح بما تعجز الكلمات عن النطق به!
البكاء بحدّ ذاته فعلٌ جريء، يسمح للإنسان بمعرفة ذاته، وتجلي مخاوفه ونقاط ضعفه، بالإضافة إلى أن البكاء يخلق حالة من الارتياح النفسي، حيث أثبتت بعض الدراسات العلمية أن الدموع العاطفية التي يذرفها الإنسان يتحرر معها هرمونان مسؤولان عن الشعور بالارتياح (إندورفين –l’endorphine ) و (الأوسيتوسين  - l’ocytocine)وهذا يؤدي إلى تخفيف حالة التوتر، ما يجعل النفس هادئة، وبالتالي قادرة على التركيز والتفكير، وربما رؤية الأمور وتحليلها من جوانب مختلفة، تجعله أكثر حكمة في اتخاذ القرار المناسب.
ولكن هل للدموع سلطة؟
للدموع أثر كبير في التأثير على الآخرين، في كسب تعاطفهم وودهم، حتى إن بعض الرجال يخرون ساجدين أمام دموع المرأة ,لذلك نجد الكثير من النساء الداهيات يستخدمن دموعهن كسلاح بهدف التأثير في الرجل بالعزف على أوتار عواطفه بهدف الحصول على ما يردن.
فالدموع تعتبر وسيلة قوية لشد الانتباه، وفي حالة الخداع هذه هي أشبه بدموع التماسيح عندما توقع فريستها وتلتهمها.
الدموع الصادقة رغم مرارتها إلا أن كبتها أشد مرارة ولوعة، وللأسف الكثير من الثقافات تعتبرها تعبيراً عن حالة ضعف، وخاصة لدى الرجال، حيث ينظر إلى الرجل الذي يبكي وكأنه طفل، أو إن البكاء يمس برجولته، ودموعه ما هي إلا تعبير عن إنسانيته.
البطل "آخيل- Achille" في أسطورة "طروادة – Troie" الذي لا يقهر بكى وسالت دموعه عندما رأى جثة عدوه "هكتور "Hector"، ولماذا يبكي وهو البطل؟
وهل يبكي المنتصر؟
وهل في الحرب من منتصر؟
إنها آلة الحرب التدميرية التي تستهدف الإنسان والإنسانية جمعاء.
"آخيل" البطل لم يكن يريد أن يشارك في حرب اليونانيين ضد "طروادة" لقناعته بعدم جدوى الحرب ولكن "هكتور" ابن ملك طروادة قتل خطأً ابن عم وصديق "آخيل" "باتروكلس – Patrocls" فثارت ثائرته وقرر الانتقام، غضب أعمى أطفأ عقله ، الانتقام يتحول به الإنسان إلى جمرة نار تحرقه وتحرق من حوله!! 
قرر "آخيل" أن ينتقم شر انتقام من "هكتور" دارت بين الاثنين معركة شرسة، قاتل بها الاثنان بشرف، انتهت بمقتل "هكتور" ولكن "آخيل" لم يكتف بقاتل صديقه وابن عمه، بل أراد أن يجرد هذا المحارب من شرف مراسم الدفن، فربط جثة هكتور من قدمه بعربته وسار بجثته فوق الثرى على مرأى من أبيه الملك ….على مرأى من زوجة "هيكتور "وأهل طروادة.
في الليل تسلل الملك العجوز ملك طروادة عبر شعاب مدينته إلى معسكر اليونانيين خلسة، وجثا على ركبتيه متوسلاً آخيل أن يرد له جثة ابنه حتى يلقي له كلمات الوداع الأخير، ويقيم له مراسم دفن تليق بأمير ومحارب مثله.
في البداية رفض آخيل طلب الملك معتبراً أن هكتور يستحق الموت جزاء قتله ابن عمه، فأجابه الملك بلوعة "كم من أولاد العم قتلت"؟
كم من الإخوة ... كم من الآباء والأمهات لوعت، حتى الأعداء يجب أن يكون بينهم احترام، لقد سلبتني أغلى ما عندي، ابني الأكبر ووريث عرشي، ردَّ لي جثته حتى ألقي عليه الوداع الأخير، إنه يستحق جنازة تليق به".
كلمات الملك وشجاعته أذهلت آخيل، فوافق على تسليمه جثة ابنه، ولكن عندما رأى جثة هكتور انهال بالبكاء وذرف دموعاً غالية.
أي فعل اقترفته يداه؟
أدرك آخيل أنه قتل إنساناً شجاعاً، ربما كان بالإمكان يوماً أن يكون صديقاً له لولا الحرب وبشاعتها.
بكى آخيل وودع هكتور قائلاً: سألحق بك قريباً ...!
أدرك أن الموت أيضاً ينتظره وفي نهاية القصة أصيب بسهم قاتل في كعبه، أصيب في نقطة ضعفه ومات.
دموع آخيل فجرت ينبوع إنسانيته الداخلية، وعبرت عن همجية الحرب ومآسيها، صرخة ألم لإيقاف آلة القتل والدمار.
إيقاف الحرب
اليوم ماذا ينتظرنا بعد؟
أما آن الأوان لجراحنا أن تلتئم؟
دموع نسائنا لم تجف بعد
سنوات حرب شرسة فقدنا فيها الكثير من أبنائنا، وصار الشتات مصيرنا، حصار وجوع يكتسي ليالينا، لم تعد الأرض تحملنا، فابتلعت الكثير منا.
وما زالت بعض الأصوات تتعالى وبعض الأطراف المتناحرة تدعو إلى مزيد من الحصار والجوع!
أما كفانا؟
ألم تُطهر دموع نسائنا قلوبهم الحاقدة؟
إلى متى سيبقى إنساننا تائهاً عن أمه؟
أما آن الأوان إلى أن يعود إلى حضنها؟
كفانا دموعاً أرضنا أشبعت بها، أما آن الأوان لتزهر ياسميناً يشع نوره على وجودنا، كفانا دموعاً لتتشابك أيدينا مع بعضنا بعضاً ونعيد بناء أنفسنا بالمحبة والصدق...
آن الأوان.