تاريخ القصر الجمهوري في المهاجرين

تاريخ القصر الجمهوري في المهاجرين

ثقافة

الأحد، ٢٩ مايو ٢٠١١


أُطلق علية عدة أسماء فكان قصر ناظم باشا، وجمال باشا وخورشيد، والجنرال اللبني، والجنرال غورو، فالقصر الجمهوري
تُوّج فيه الملك فيصل الأول ملكاً على بلاد الشام
أقام الرئيس شكري القوتلي في هذا القصر عام 1943 وجعله رسمياً القصر الجمهوري

المهاجرين منطقة تقع في سفح جبل قاسيون من الجهة الغربية واسمها القديم تحت الردادين. وأطلق عليها اسم المهاجرين منذ بداية القرن الماضي، عندما هاجر إليها لأسباب مختلفة أقوام من الأتراك والشركس والبخاريين والبلقان.. وكان أول المهاجرين من البلقان عام 1890 ثم من الروملي عام 1896 ومن كريت عام 1898 وقد أسكن الوالي ناظم باشا هؤلاء المهاجرين هذه المنطقة، التي كانت ملكاً لبهاء بك زمن الوالي حمدي باشا ومن ثم آلت ملكاً لآل المؤيد العظم.
وناظم باشا هو الوالي المصلح حسين ناظم باشا، من أشهر الولاة العثمانيين على دمشق، تسلم ولاية دمشق ثلاث مرات من خلال أعوام 1896 و1907 وعام 1909 وعام 1911م. أحب ناظم باشا دمشق، فاختارها وطناً له، ثم اختار أرضها الطيبة لتحتضن جسده، فبعد عزله عن ولاية دمشق بعدة سنوات قام بزيارة دمشق في العشرينات من القرن الماضي أثناء فترة الاحتلال الفرنسي، وقضى فيها آخر أيامه حتى توفي فيها ودُفن في تربة الباب الصغير على الطريق العام، ولم يزل قبره موجوداً حتى الآن. وقد أحبّ أهل الشام واليهم ناظم باشا.. فيذكر المؤرخون أن أهل دمشق ودّعوه بعد انتهاء ولايته بالأناشيد والأغاني الحزينة ومنها (سكابا يا دموع العين سكابا)، كما أطلق على أحد الشوارع في المهاجرين اسم شارع ناظم باشا تقديراً من دمشق لهذا الوالي المصلح.
لم يُعرف في ولاة العثمانيين من خدم دمشق مثل الوالي ناظم باشا فكان له الأيادي البيضاء في إنجازات عديدة ومهمة بدمشق، منها دار البلدية في ساحة المرجة، ثم دار البريد والبرق، وكان أضخمَ بناء أنشأه هذا الوالي خلف دار البلدية هو بناءُ الحكومة (السرايا) سنة 1900م الذي أصبح مقراً للولاة ثم مقراً للحكومات العربية في عهد الملك فيصل ثم مقراً لوزارة الداخلية الآن. وكان له الدور الكبير في إتمام إنشاء الخط الحديدي الحجازي، كما بنى ناظم باشا في عهد ولايته الثكنة الحميدية في البرامكة التي تحولت فيما بعد إلى مقر الجامعة السورية، وفي عهده بُني سوق الخجا الذي كان ملاصقاً لبناء قلعة دمشق، كما قام ناظم باشا باستبدال سقوف الأسواق الخشبية التي كانت تتعرض لحرائق فجعل السقوف كلها من الحديد. وعمل على جرّ مياه عين الفيجة، وإدخال الكهرباء والحافلات الكهربائية للمدينة، إضافة لإشرافه على تنفيذ مشروعي خط الاتصالات البرقي بين دمشق بالمدينة المنورة والخط الحديدي وغيرها من المشاريع الأخرى، يضاف إلى ذلك قصر المهاجرين:
قصر المهاجرين
أطلق على قصر المهاجرين عدة أسماء فكان قصر الوالي ناظم باشا، ثم قصر خورشيد، فالقصر الجمهوري. وهو يقع في آخر طريق المهاجرين، قرب ساحة آخر الخط، إلى يسار الصاعد إليها.
قصر الوالي ناظم باشا:
طلب الوالي حسين ناظم باشا من شفيق بك المؤيد العظم أن يبيعه قطعة من سفح جبل قاسيون، الذي كان شفيق بك قد تملّكه مع أخيه عبد الله بك المؤيد، وعبد الرحمن المرابط، فأجابه شفيق بك أن يختار القطعة التي يريدها من أراضي الجبل لتكون هدية فلم يرضَ الوالي وجاء بالخبراء وقدروا ثمن قطعة الأرض التي اختارها بعشر ليرات ذهبية فأرسل إليه خمسين ليرة وبنى الدار الشهيرة (قصر ناظم باشا) وأحاطها بالحدائق الغناء، وكان ذلك في حدود سنة (1900م).
ويذكر الشيخ علي الطنطاوي أن الوالي أصبح ذات يوم ضيّق الصدر منقبض النفس فطلب من أعوانه أن يختاروا له مكاناً يتنـزه فيه فأعدوا له خيمة ومجلساً مكان ذلك القصر فلما جلس الوالي نظر فرأى منظراً هو السحر الحلال، رأى من كل مشهد صورة، تلال وسفوح في أسفلها يجري نهر يزيد وهو يلمع في شعاع الشمس كأنه العقد حول جيد الحسناء، وتبدو من بعيد الغوطة الخضراء التي كانت إحدى عجائب الدنيا تمتد بلونها الأخضر إلى نهاية الأفق وبين الغوطة والجبل تظهر دمشقَ وجامِعُها الأموي كأن قبته من فوقها عمامةُ التقوى، ومآذنه الطويلة كأنها أصابعُ ممتدةٌ بالشهادة... كان ناظم باشا قد طاف بلاداً كثيرة ولكنه لم يرَ في روعة هذا المشهد وكان محباً للعمران وله نظرة ثاقبة في الاختيار وذوق رفيع، وفجأة قرر الوالي أن ينقل إقامته من دار البارودي في حي القنوات إلى قصرٍ جديدٍ في هذا المكان، وبالفعل بُني القصر وسكنه والي دمشق حسين ناظم باشا.
قصر خورشيد:
يقول بدر الدين الشلاح إن خورشيد بك المصري رجل نادر أصبح اسمه جزءاً من تاريخ دمشــق ولا يمكن للدمشقيين حينما يرد ذكر المرحوم حمدي الإدلبي إلا أن يذكروا أباه الروحي ومربيه الكبير وزوج والدته خورشيد المصري.
كان خورشيد بك أهم عضو في أول بعثة أرسلها إلى ألمانيا الخديوي توفيق للاختصاص في هندسة الري، وتخرج في عام 1875 م بتفوق وعاد إلى مصر واستلم مهام مشروع القناطر الخيرية، وكانت له قطعة أرض في مصر القديمة أمام كوبري الملك الصالح فأقام عليها مزرعة أطلق عليها اسم نخل خورشيد وشيّد العديد من المساكن.
اشتهر خورشيد بك بالقوة البدنية والممارسة الرياضية ورفع الأثقال، وكان يمشي المسافات الطويلة ويقوم بالعمل اليدوي مع عماله وهو يرتدي ملابسهم، واشتهر بمحاربة التدخين وشرب الخمر وكان يزيد أجر كل عامل يقلع عن التدخين، كما عُرف بالعطف على العميان الذين لا عائل لهم. فدأب على تعليمهم مهن صنع السلال ونقل الماء وأجرى لهم مرتبات ثابتة.
وكان خورشيد قوي الشخصية يتمسك بحرية الفكر واستقلالية الرأي فاختلف بشدة مع المستشارين الإنكليز وتصادم معهم أكثر من مرة، وما لبث أن غادر مصر إلى بيروت حيث أنشأ على شاطئ البحر قصراً وبستاناً رائعين وكان يوزع الصدقات على الفقراء يومياً.
وصادف أن خورشيد بك زار دمشق عام (1322 للهجرة) وكان الوالي العثماني ناظم باشا بحاجة إلى المال لتجهيز ابنته في اسطنبول فعرض قصره للبيع (يذكر قتيبة الشهابي أن الذي هندس القصر هو خورشيد المصري) وأعجب خورشيد بهذا القصر الدمشقي واشتراه من ناظم باشا بعد أن نافسه عليه آل العظم وآل الشمعة ولكنه تمكن من شرائه بخمسة آلاف ليرة عثمانية ذهبية ولما علم أن منافسيه دفعوا أكثر من ذلك، قدم ألف ليرة أخرى في صرّة من الأطلس وقدمها لناظم باشا على أنها نقوط لكريمته لمناسبة زفافها في اسطنبول. ويروي علي الطنطاوي في كتابه (دمشقَ صور من جمالها وعبر من نضالها):هناك حادث طريف يدلُّ على جانب من أخلاق هذا الرجل (ويقصد ناظم باشا) وهو إنه بعد عزله عن ولاية دمشق أراد بيع قصره ففاوضه المهندس الشهير خورشيد باشا على شراء القصر بخمسة آلاف ليرة ذهبية ووعده الباشا بذلك ثم جاء مصطفى باشا العابد فدفع له سبعة آلاف ليرة ذهبية ثمناً للقصر، فقال له ناظم باشا: لقد أعطيت المصري وعداً.
فقال له العابد: ولكن البيع لم يُسجل في الطابو.
فقال ناظم باشا عندها كلمته الشهيرة: ناظم كلامه طابو (وذهبت مثلاً).
وهكذا استقر خورشيد بك في قصره الجديد (قصر ناظم باشا) بدمشق، وأطلق اسمه على هذا القصر. ولما كان خورشيد المصري بالغ النشاط وشديد الرغبة في العمل زار حوران فأعجبته أرض كبيرة في قريتي بويضان وبلَي ولمس شدة خصوبتها فقرر إنشاء مشروع زراعي فيها، وسرعان ما باشر بحفر آبار ذات فوهات كبيرة ما زالت موجودة حتى الآن (1992)، واستورد من ألمانيا قساطل فولاذية بقيمة 11 ألف ليرة عثمانية ذهبية لتكون شبكة ري المشروع، ولكن السلطة العثمانية استكثرت هذه الكمية عند وصولها فوضعت اليد عليها، وعطلت المشروع.
ولما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها حاول خورشيد بك استئناف مشروعه فرهن قصره على خمسة آلاف ليرة ذهبية، وعاد إلى حوران لتأمين مستلزمات المشروع وبناء مرافقه، وما كاد ينتهي من العمل حتى حدثت فتنة مفاجئة وتم خلالها تخريب تلك المنشآت.
هنا أُسقط في يد خورشيد بك ولم يعد قادراً على عمل أي شيء، فاستدعى ربيبه الدكتور حمدي الإدلبي وأوكل إليه توفير المال لفك الرهن عن القصر.
وفي عام 1939م وافت خورشيد بك المنية بعد أن تجاوز المائة عام فرثته الصحف السورية والمصرية، وقالت الأهرام المصرية إنه أكبر مهندس ري أنجبته مصر في القرن التاسع عشر وأشهر معمر مصري وشرحت سيرته بإسهاب.
ووفاء من دمشق لخورشيد المصري أطلق اســم خورشيد بك على الساحة الأخيرة في نهاية حي المهاجرين وعلى الجادات المجاورة. و بقي أن نذكر أن خورشيد كلمة فارسية من اللفظ: خرشيد، بمعنى: الشمس.دخلت العربية في العصر الإسلامي، وهي اليوم نسبة لعدد من العائلات في الوطن العربي.

آل الادلبي:
عمل الدكتور حمدي الادلبي وهو من ابرز أطباء دمشق ومن مواليد عام 1899 م، عمل على مدار سنوات عدة للوفاء بديون خورشيد المصري لفك الرهان عن قصره ويقول بدر الدين الشلاح عام 1992 م: (وكان الدكتور حمدي شديد الامتنان لأبيه الروحي (خورشيد بك) بالغ الاعتزاز به فعكف على العمل المرهق للوفاء بالديون وفوائدها طوال سنوات حتى استخلص قصر خورشيد بك وأصبح ملكا له ولأسرته. وفي هذا القصر تم في عام 1929 زفاف الدكتور حمدي على ألفة عمر باشا، وهي الأديبة المعروفة والقاصة الموهوبة المعروفة ألفة الأدلبي وأنجبا ذكرين وأنثى وهم الدكتور زياد المتخصص بإدارة الأعمال وياسر المتخصص في الحقوق من جامعة أوكسفورد.) توفي الدكتور حمدي الادلبي في آب من عام 1978 م.
ظل قصر خورشيد المصري ملكا لأسرة الدكتور حمدي الادلبي إلى أن استملكته الدولة.
القصر الجمهوري:

يعتبر قصر ناظم باشا معلماً من معالم دمشق البارزة (تبلغ مساحة حديقته فقط عشرة آلاف متر مربع) وسجلاً لأهم الأحداث التي عاشتها سورية، منذ العهد العثماني مروراً بعهد الدولة العربية الأولى والانتداب الفرنسي إلى عهد الاستقلال فأيامنا هذه، ففي الزمن العثماني كان هذا القصر كما مرّ معنا مركز ولاية الوالي ناظم باشا حيث كان يشرف منه على إدارة شؤون الشام، كما قامت الحكومة العثمانية في بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914 باستئجار هذا القصر وجعلته مقراً رسمياً لجمال باشا قائد الجيش الرابع، ولما تولى جمال باشا المرسيني الملقب بالصغير بدلاً عن جمال باشا قيادة الجيش عام 1918 صيره مستشفىً عسكرياً حتى خروج الأتراك من دمشق في نفس العام، ومن ثم استخدم هذا القصر مقراً للرئاسة السورية منذ عام 1920 حين تُوج فيه الملك فيصل الأول ملكاً على بلاد الشام في 8 آذار عام 1920 م قبل إعلان النبأ على مواطني بلاد الشام من شرفة دار البلدية في ساحة المرجة، وأصبح مقراً له منذ ذلك التاريخ إلى أن غادر البلاد إثر معركة ميسلون ودخول البلاد تحت حكم الانتداب الفرنسي، حيث خضع هذا القصر كما البلاد كلها للاحتلال فرنسي وأصبح مقراً للجنرال الفرنسي غورو، وهنا تُروى حادثة طريفة ومهمة حصلت في هذا القصر بين غورو وفارس الخوري يرويها جورج حداد وحنا خباز، " في كتابهما فارس الخوري: حياته وعصره، الصادر في بيروت عام 1952" فيقولان: (بعد أسبوعين من دخول الفرنسيين دمشق، في 8 آب 1920، أقيمت مأدبةٌ في قصر المهاجرين – القصر الجمهوري الحالي – حضرها وزراءُ ثاني حكومة شكَّلها الفيصليون وعددٌ كبير من وجهاء المدينة. أخذ غورو القائد الفرنسي يمتدح منظر دمشق وغوطتها أثناء الطعام، ثم أجال نظره في القاعة التي هم فيها، وكأنه أراد التهكم والاستخفاف بالملك فيصل فقال: "أهذا هو القصر الذي سكنه فيصل؟" فأجابه فارس: "نعم، يا صاحب الفخامة، هذا هو القصر الذي سكنه الملك فيصل، وقد بناه والٍ عثماني اسمه ناظم باشا، ثم حلَّ فيه جمال باشا، والآن تحلُّونه فخامتكم. وجميع مَن ذكرتُهم أكلنا معهم في نفس القاعة، وكلهم رحلوا، وبقي القصر وبقينا نحن." سمع الجنرال غورو هذه العبارة فصمت، ووجم كلُّ مَن كان حول المائدة، ولم ينطق أحد حتى انتهاء المأدبة. وكان الشيخ تاج الدين الحسيني حاضراً، فقال لفارس بعد الحفلة: "منذ هذا اليوم انتحرت، ولن تقوم لك قائمة مع الفرنسيين." فيجيب فارس: "وأنا أيضاً لم أرغب أن تقوم لي قائمة، وإنما هي معركة ولن تنتهي حتى يرحلوا).
ثم تحول القصر بتاريخ 5-12-1920 م مقراً لحكومة حقي العظم واستمر مقراً للحكومات المتعاقبة في ظل الانتداب الفرنسي إلى أن أعيد لمالكه الدكتور حمدي الإدلبي بتاريخ 24- 8-1922، فأقام فيه حتى عام 1939 حيث أجّره بعد ذلك إلى المفوضية العراقية مقراً لها، وفي عهد الاستقلال أقام الرئيس شكري القوتلي في هذا القصر عام 1943 وجعله رسمياً القصر الجمهوري ومنذ ذلك العام عُرف بهذا الاسم، فكانت كل أمور الدولة تدار منه، والاستقبالات الرسمية العربية والأجنبية تُعقد فيه.. ومنذ ذلك التاريخ (عام 1943) أصبح قصر حسين ناظم باشا مقراً لرئيس الجمهورية حتى العام 1975م.
يتبع


شمس الدين العجلاني - أثينا
alajlani.shams@hotmail.com