مسلم البارودي.!؟

مسلم البارودي.!؟

ثقافة

الأحد، ١١ مارس ٢٠١٢

من يزُر دمشق من المحافظات السورية أو الدول العربية والأجنبية لابد له من المرور من ساحة الحجاز ومن أمام محطة قطار الحجاز، ولابد له من مشاهدة النصب التذكاري القائم الآن أمام مبنى محطة الحجاز.. وأغلب المارين من أمام هذا النصب التذكاري (المهمل) قد لا يلفت نظرهم هذا النصب وقد لا يعني للكثيرين منهم شيئاً.!؟
في حين هذا النصب التذكاري يعني لدمشق الكثير.؟ ويعني لتاريخ رجالات سورية الكثير.؟ ويعني للوطن الكثير.؟
وهذا النصب التذكاري نموذج صارخ عن إهمالنا لتاريخنا وأوابدنا التراثية، وسيرة حياة رجالات طالت قامتهم أعالي السماء.؟!
منذ كنت صغيراً لفت نظري هذا النصب التذكاري، وأذكر أنني كنت في المرحلة الابتدائية حين وقفت أمامه (وكان قائماً وسط ساحة الحجاز) أتأمّله وأقرأ على إحدى جوانبه اسم الشهيد مسلم البارودي، ومنذ تلك الأيام، وكلما مررت من أمام النصب أتساءل، لماذا لا توضع لوحة مكتوبة تعرّفنا بهذا الشهيد الذي كتب اسمه على النصب التذكاري.!؟ لماذا لا توضع صورة شخصية أو مجسم لهذا الشهيد !؟ أسئلة حملتها ذاكرتي الطفولية ولم تزل إلى الآن معي ولم يزل السؤال قائماً حتى الآن.!؟

النصب التذكاري:
النصب التذكاري الموجود حالياً أمام محطة مبنى الحجاز هو في الأصل سبيل ماء، كان فيما مضى يتوسط ساحة الحجاز وكان قائماً على قاعدة بازلتية ارتفاعها حوالي نصف متر يتوسطها هذا السبيل، وهو عبارة عن عمود تزييني طولاني الشكل له أربعة جوانب وكل جانب يحتوي منهل ماء، هذا النصب يحتوي على رسومات وزخارف جميلة من وحي مبنى محطة الحجاز، لأنه أنشئ مع بناء مبنى المحطة، ومبنى المحطة هو أول منشأة حديثة بدمشق تحمل ملامح فن العمارة الأوروبية مع بعض التأثيرات الزخرفية العربية وهو من تصميم المهندس المعماري الإسباني فرناندو دي أراندا (Frnando De Aranda) الذي ساهمت عبقريته في بناء الفن المعماري وتخطيط المدينة الدمشقية الحديثة في النصف الأول من القرن العشرين, والكثير من الأبنية التي صممها فرناندو معروفة بدمشق وما زالت قائمة حتى الآن، ومن أهمها بناء العابد في ساحة المرجة ومبنى محطة الحجاز.
ما بين عامي 1908 – 1910 أنشئ مبنى محطة الحجاز، وأنشئ في الوقت نفسه هذا النصب التذكاري (سبيل الماء) وهو أحد معالم المحطة الرئيسية، وكانت الغاية من إنشائه تتماشى مع عادات وتراث أهل دمشق، في إنشاء سبل الماء في كل الحارات والساحات، وهذا السبيل كان القصد منه خدمة رواد محطة الحجاز من المسافرين والقادمين.
وبعد فترة طويلة من الزمن وعند إعادة تنظيم ساحة الحجاز تم نقله إلى الرصيف أمام المدخل الرئيسي لمبنى المحطة، وألغيت قاعدته البازلتية، وظل يقوم بمهمته في تقديم الماء العذب للمسافرين وعابري السبيل إلى أن أصبح في أيامنا هذه مجرد آبدة أثرية مهملة أكل الدهر عليها وشرب.
نصب مسلم البارودي:
بعد عام 1945 عُرف هذا النصب التذكاري (سبيل الماء) باسم نصب مسلم البارودي.!؟ ويعود سبب ذلك أن الطبيب مسلم البارودي كان يسعف الجرحى وينقل جثث الشهداء من شوارع وحارات دمشق إثر قيام قوات الانتداب الفرنسي بقصف دمشق في التاسع والعشرين من أيار من عام 1945م وأثناء قيامه بإسعاف أحد الجرحى قرب هذا النصب التذكاري استشهد بنيران الفرنسيين حيث جاءته رصاصة غادرة خرّ على إثرها صريعاً، وتكريماً له ولذكرى استشهاده.. ثم نقش اسمه على هذا النصب الذي يعرف اليوم باسم نصب الشهيد مسلم البارودي.
الشهيد مسلم البارودي:
مع الأسف بحثت كثيراً في الكتب التي أرّخت لفترة الانتداب الفرنسي فلم أعثر على سيرة ذاتية للشهيد البارودي أو صورة له، حتى كتاب "تاريخ الثورات السورية" لأدهم آل جندي ذكر فقط : "وبينما كان الطبيب مسلم البارودي "ابن عارف أبو السعود البارودي "يقوم بواجبه الإنساني، أصيب برصاصة غادرة صرعته أمام محطة الحجاز" وبنفس المعنى ذكر الدكتور قتيبة الشهابي عن هذا النصب.
عائلات كثيرة في سورية والوطن العربي أطلق عليها اسم "البارودي"، ولكن عائلة البارودي الدمشقية يقال: إن جدها الأول محمد بن أحمد بن ظاهر العمر "الذي لقب بالبارودي" جاء دمشق سنة 1775م من عكا، وعمل في مصنع بارود بدمشق فتحول اسمه من محمد الظاهر إلى محمد البارودي، وقد لاقى حتفه بحادثة انفجار المصنع.
اشتهر العديد من أفراد هذه العائلة الدمشقية في المجالات السياسية والأدبية ومن أشهر الشخصيات الزعيم الوطني فخري البارودي، وفخري هو ابن عم مسلم البارودي، والدكتور مصطفى البارودي وهو الأديب والسياسي والوزير وهو الأخ الأصغر للشهيد مسلم.
قيل في بعض الكتب: إن مسلم البارودي كان طالب طب حين استشهاده، ولكن المؤكد أنه كان طبيباً وموظفاً في محافظة دمشق الممتازة، حين استشهاده، وذلك سنداً للقرار رقم 5/1 الصادر في 16- 6- 1945م من قبل المجلس البلدي بدمشق والذي نص: على إثر العدوان الفرنسي على سورية عامة، ودمشق خاصة، في 29/ أيار 1945، والفظائع التي ارتكبها الفرنسيون بحق أبنائنا وبلادنا، قرّر المجلس البلدي بدمشق الاقتراحات الآتية:
1-    إلغاء الأسماء الفرنسية لشوارع دمشق وتبديلها بأسماء عربية.
2-    إزالة كل نصب تذكاري فرنسي من الشوارع والساحات في المدينة.
3-    تقدير بطولة شهيد الواجب الإنساني والوطني طبيب المحافظة مسلم البارودي، وتسجيل اسمه في لوحة الشرف، ومنحه وسام الاستحقاق السوري.
لقد استشهد العديد من سكان دمشق إثر الاعتداء الفرنسي عليها في التاسع والعشرين من أيار 1945م وتبعثرت أشلاؤهم في الشوارع، ولا من مسعف أو معين لعدم توفر الإمكانات الطبية وتعذّر الوصول إلى المشفى الوطني "مشفى الغرباء" الكائن قرب التكية السليمانية، وهو المشفى الوحيد آنذاك الذي كان يستقبل الجرحى، وذلك بسبب النيران الكثيفة التي كانت تصدر عن الثكنات الفرنسية في شارع جمال باشا والثكنة الحميدية "جامعة دمشق الآن"، وتكدس الجرحى في الشوارع وكان طبيب محافظة دمشق مسلم البارودي وهو الطبيب البارز المرموق لا يألو جهداً في معالجة الجرحى ونقلهم إلى المشفى أو الكنائس والجوامع التي فتحت أبوابها للجرحى، وفي اليوم الثاني لاعتداء الفرنسيين على دمشق "30 أيار من عام 1945م " أعلم الطبيب مسلم أن هناك العديد من الجرحى في ساحة الحجاز فأسرع بسيارة الإسعاف التي يرفع عليها العلم الأبيض "وقيل كان معه في السيارة طبيبان آخران" إلى ساحة الحجاز ونزل من السيارة مسرعاً إلى أحد الجرحى من المدنيين ولم يكد يلقي عليه النظر حتى قامت القوات الفرنسية بإطلاق النار عليه وعلى سيارة الإسعاف فخرّ صريعاً شهيداً. هذه هي الرواية المتعارف عليها لاستشهاد الطبيب، ولكن نقف مطولاً عند قول شقيقه الأصغر الدكتور مصطفى في عام 1993م (ولم أخش الموت بعد أن سال دم أخي على كتفي، وكنت قريباً منه في ساعة الاستشهاد.) فهل كان مصطفى مرافقاً للشهيد ساعة استشهاده، وعمل على إسعافه حتى سالت دماؤه على كتفه.!؟
 استشهد مسلم البارودي وهو يسعف الجرحى، وأعطى مثالاً للتضحية والوفاء للطبيب الذي كرّس حياته لخدمة الإنسانية فكان قدوة حسنة لكل الأطباء.
وقضى هذا الطبيب في ساحة الحجاز ببسالة وشجاعة نادرتين مستهيناً بالموت أمام القيام بواجبه الوطني والإنساني‏، فقامت محافظة دمشق الممتازة في نفس العام الذي استشهد فيه بنقش اسمه على سبيل الماء الذي كان في وسط الساحة تخليداً له، فعُرف سبيل الماء منذ تلك الأيام باسم الطبيب الشهيد مسلم البارودي.
بين الشقيقين:
في حفل تكريم أقيم في السعودية للدكتور مصطفى البارودي عام 1993م الشقيق الأصغر للشهيد مسلم، كان الشهيد حاضراً في هذا الاحتفال بروحه الطاهرة وذكراه الخالدة، فقال الدكتور مصطفى الزرقا في هذا الحفل، هو طبيب بارز مرموق، والَّذي كان يتميز بشعوره الوطني النبيل وكان من مروءته البالغة إنه عندما اشتد القصف من القواعد الفرنسية المحتلة من مركز المزة في دمشق على دمشق، بالمدافع والحمم والنيران والرصاص..، كان تحت الرصاص والقذائف والحمم يطوف بصدريته البيضاء، يطوف الشوارع ويلتقط الجرحى من الأرض ويحملهم إلى المستشفى..، وفي خلال هذه الأعمال النبيلة منه أتته رصاصة وقع بها صريعاً فوق جريح كان يريد إنقاذه.
وحين غادر مصطفى البارودي دمشق للدراسة في فرنسا وحصول على درجة الدكتوراة، سأله صديق له كيف انتقمت لشقيقك الشهيد.؟ فردّ علية قائلاً : (أهديت أطروحتي لروح الشهيد، وفي ثنايا الأطروحة تحدثت عن مساوئ فرنسا، فقالت لي اللجنة - التي ظلت خمس ساعات تناقشني- ألم تر في الانتداب إلا المساوئ؟ قلت لهم: لو كان في الانتداب محاسن لما ذكرنا المساوئ، إن الحرية لا ثمن لها، فليحسن الانتداب ما شاء أن يحسن؛ ومن إحسانه أني أتكلم الفرنسية بينكم ولكن لأحدثكم عن عيوبكم، فإن كنتم صادقين - كأناس وكبشر - فاجعلوا هذه العيوب تصحح النظام الدولي أبد الآبدين، وإلا ظللتم في غلوائكم وواقعكم).
وبعد:
هذا ما استطعنا الحصول علية من سيرة شهيدنا البطل مسلم البارودي، والذي أجزم أن أكثرنا لا يعرف عنه إلا الجزء اليسير اليسير، أليس من واجب وزارة الداخلية التي من المفترض  أن لديها سجلات ووثائق شهدائنا، أن تعرّفنا بهذا الشهيد.!؟ وأليس من واجب وزارة النقل (المؤسسة العامة للخطوط الحديدية السورية) أن تذكر شيئاً ما عن صاحب هذا النصب التذكاري القائم ضمن حرمها.!؟ أليس من واجب وزارة الثقافة أن تثقفنا.!؟ ويبقى السؤال مطروحاً: من منّا يعرف شهيد الوطن الطبيب البطل مسلم البارودي.!؟


شمس الدين العجلاني - أثينا 
alajlani.shams@hotmail.com