اغتيال العقيد محمد ناصر..تفاصيل – خفايا – آراء(2-4)
ثقافة
الجمعة، ١٨ مايو ٢٠١٢
استيقظ السوريون صباح يوم الثلاثاء الواقع في 1/8/1950على صوت راديو دمشق (إذاعة دمشق) يقول: (وقع اعتداء أثيم في الساعة العاشرة والنصف من مساء الاثنين الواقع في 31/7/1950، ذهب ضحيته آمر سلاح الجو السوري العقيد محمد ناصر، إذ هاجمه مجهولون يمتطون سيارة وأطلقوا عليه عيارات نارية وذلك بالقرب من مفرق كيوان، وقد نقل إلى المستشفى العسكري حيث أجريت له عملية جراحية توفي على إثرها في الساعة الثالثة والنصف من صباح الثلاثاء، وقد تولى القضاء العسكري التحقيق في هذه الجريمة).
تناقلت الصحف والمجلات السورية والمصرية واللبنانية والعراقية نبأ اغتيال العقيد محمد ناصر وتداعيات هذه الجريمة النكراء، وروت العديد من هذه الصحف وبعض الكتاب والسياسيين مجريات هذه الجريمة التي راح ضحيتها أكثر الضباط علماً ودماثة وجرأة، واختلفت في بعض التفاصيل.
الجريمة:
في الساعة العاشرة ليلاً من يوم الثلاثاء الواقع في 31/7/1950 اتصل أحد العاملين في المطار العسكري بدمشق بالعقيد محمد ناصر (آمر سلاح الطيران) يطلب منه الحضور إلى المطار لأمر طارئ، ورغم أنه قد حُذر مراراً وتكراراً من مؤامرة تحاك ضده، وبضرورة أخذ الحيطة والحذر، لكنه لم يبال، فركب سيارته بمفرده إلى المطار، وهو يرتدي ملابسه المدنية (بنطال وقميص أبيض)، وفي طريقه إلى المطار العسكري (مطار المزة) اعترضته سيارة، ونزل منها شخصان مسلحان وأطلقا عليه النار بكثافة.. وأُصيب بجراح خطيرة نُقل على أثرها إلى المستشفى العسكري وهو في سكرات الموت، وجاءه المدعي العسكري "عبد الوهاب الأزرق" المعروف بنزاهته وجرأته، وسأل العقيد من أطلق النار، فأدخل أصبعه في فمه "حيث كان الدم يسيل منه بغزارة" وكتب على قميصه اسم شخصين. فأعاد المدعي العسكري طرح سؤاله على الشهيد مرة أخرى قائلاً: "هل أنت متأكد أنهما هما" فأومأ برأسه بالإيجاب. وفاضت روحه إلى باريها. وهنالك رواية أخرى تختلف قليلاً عن سابقتها، وهي أن الجريمة حصلت عندما كان عائداً مساء من مطار المزة، حيث لاحقته سيارة مجهولة أطلقت عليه النار فقُتل سائقه على الفور وأصيب هو بجراح خطيرة نقله القاتلون إلى مدخل طريق الربوة "منطقة كيوان" للإجهاز عليه، وانصرفوا. لكن العقيد ناصر لم يفارق الحياة مباشرة، حيث صادف مرور دورية شرطة السير، فأسعفته ونقلته إلى المشفى الفرنسي، وهو ينزف. وحين علم زملاؤه في الجيش بالحادث أسرعوا إليه في المشفى منهم، العقيد توفيق نظام الدين والعقيد عزيز عبد الكريم والمقدم حسن الخير.
وداع الشهيد:
استيقظ السوريون صباح يوم الثلاثاء الواقع في 1/8/1950 على حادث مروّع هزّ سوريا كلها، والجيش السوري بشكل خاص. حادث اغتيال العقيد محمد ناصر ابن السابعة والثلاثين من العمر، آمر سلاح الطيران العسكري السوري ومن ألمع ضباط الجيش، وعلى الفور اجتمع الزعيم فوزي سلو وزير الدفاع الوطني والعقيد أديب الشيشكلي مع رئيس الدولة السورية، اجتماعاً سرياً لمناقشة ذيول هذه الجريمة والإجراءات المترتب اتخاذها، كما عقد مجلس الوزراء برئاسة ناظم القدسي رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، جلسة سرية مستعجلة لنفس الغاية، كما طرحت هذه الجريمة تحت قبة المجلس النيابي في اليوم التالي. أقيم للفقيد احتفال عسكري ومدني مهيب، فسار وراء النعش مندوب رئيس الدولة، ورئيس الجمعية التأسيسية، ورئيس الحكومة والوزراء، وكبار ضباط الجيش والشرطة، وجمهور غفير من المواطنين وأفراد القوات المسلحة السورية، وصلّي على الجثمان في المسجد الأموي، وشُيّع إلى ساحة السبع بحرات والحزن والكآبة يخيمان على رؤوس الجميع، وألقى رئيس الحكومة كلمة تأبين باسم رئيس الدولة، واشترك العقيد الشيشكلي في التشييع وتقبل التعازي، ووقف بجانبه في تقبل التعازي العقيد توفيق بشور "الذي لم تكن له أية صلة بتلك الجريمة"، نُقل جثمان الفقيد إلى حمص، ووضع في الثكنة العسكرية إلى صباح اليوم الثاني، ومن ثم نقل إلى قريته " طبرجة - عين شقاق" في منطقة جبلة حيث كان في انتظار النعش أهل ضيعته ودفن هناك، وأقيم له احتفال عند قبره ألقيت خلاله العديد من الكلمات في وداع الفقيد ومزاياه الوطنية والقبر موجود إلى الآن ويزار، وكُتب على شاهدة القبر ("ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون، في هذه البقعة من الوطن العربي يرقد الشهيد العقيد محمد ناصر الذي أثبت تاريخ حياته أنه كان من أوفى أبناء العروبة لوطنه، وأكثرهم حرصاً، وأسماهم تضحية..).
من القاتل؟:
الملفت للنظر في هذه الجريمة التي لم يزل الغموض يكتنفها، وأجندتها مفتوحة، أن العديد من السياسيين والعسكريين والصحفيين بالإضافة إلى الصحف والمجلات السورية واللبنانية والعراقية والمصرية تناولت أسماء الذين اتهموا بارتكاب هذه الجريمة النكراء، وأسماء من يقف وراءها ومع ذلك فقد برأتهم المحكمة؟
لقد كتب الشهيد اسم إبراهيم الحسيني رئيس الشعبة الثانية "رئيس المخابرات العسكرية "آنذاك والملازم عبد الغني قنّوت".. حينما سأله المدعي العسكري من أطلق النار عليك.. ويؤكد هذه الرواية كل من تحدث عن هذه الجريمة منهم، نصوح بابيل في مذكراته، ويضيف اتهام أديب الشيشكلي إلى الجريمة ويعزو السبب أن العقيد ناصر كان على نية القيام بانقلاب عسكري فيقول: "وقد أسرّ لي الصديق المقدم زهير الصلح (صديق العقيد محمد ناصر الحميم) عندما كنتُ في باريس لعملية القلب، أن العقيد سعيد حبي رئيس المخابرات العسكرية آنذاك أفضى إليه بسر مقتل محمد ناصر. ذلك أن الشيشكلي استدعى سعيد حبي وطلب إليه التحقيق في خبر يقول إن محمد ناصر يُعدّ لانقلاب. وتوّصل سعيد حبي لمعرفة حقيقة الأمر، فإن انقلاباً كان معدّا فعلاً بالتعاون مع القوات الأردنية. ونقل الصورة إلى الشيشكلي. وكان اغتيال محمد ناصر في اليوم التالي. إني أذكر هذا الحديث كما سمعتُه من فم صديق أعرفُ فيه الصدق، مع كل احترامي للعقيد محمد ناصر ولعروبته النقية. ولكني أروي بأمانة ما سمعتُ مع كلّ التحفظ..". وأكد السياسي السوري أكرم الحوراني هذه الرواية وقال: (في صبيحة اليوم شاع بأن العقيد ناصر، عندما نقل إلى المستشفى كان لا يزال حياً، وعندما سأله المحقق العسكري عن قاتله كتب بخط مضطرب اسم المقدم إبراهيم الحسيني والملازم عبد الغني قنوت، إذ لم يكن قادراً على النطق لأن لسانه أيضاً كان مصاباً بطلقة نارية.)، أما باتريك سيل فقال: "قامت أعمال عنف متفرقة في النصف الثاني من عام 1950 لتشهد على تجزؤ السلطة السياسية، وعلى الصراع من أجل السلطة، وفي 31 تموز قُتل العقيد محمد ناصر قائد القوى الجوية السورية قرب دمشق عن عمر يناهز السابعة والثلاثين، وكان يُعتبر أقوى وأهم منافس للشيشكلي، وقد أوردت صحف بغداد والقاهرة وبيروت إنه سمّى قبل أن يموت اسم رئيس المكتب الثاني إبراهيم الحسيني ونائبه عبد الغني قنوت باعتبارهما قتلته، ولكن وزارة الدفاع السورية منعتْ أي تعليق صحفي، وقد بُرّئ الرجلان".
كما كتبت مجلة "آخر ساعة المصرية حينها" نقلاً عن مراسلها بدمشق محمد الببيلي مقالاً جاء فيه: (يجب أن لا يغيب عن البال: أن العقيد أديب الشيشكلي هو الرجل الحديدي في سورية، لقد استطاع أثناء هيمنته على المدنيين أن يتخلص من مناوئيه، فدبر اغتيال العقيد محمد ناصر قائد سلاح الطيران مع العقيد إبراهيم الحسيني).
يقول أندرو راثميل: أردي قتيلا بأيدي رجلين اثنين، سرعان ما تم اعتقالهما مع أحد الرقباء لاتهامهم بارتكاب جريمة قتل من قبل وزير الدفاع. ولما كان الشيشكلي هو حامي هذين الشخصين فقد بذل جهوداً مضنية لإنقاذهما من المحاكمة التي تحدد موعدها في شهر تشرين الأول. وليس هنالك إلا النذر اليسير من الشك في أنهما هما اللذان أقدما على ارتكاب جريمة القتل وذلك لأن رئيس الأركان الكولونيل بنود قال للوزير البريطاني، "ليس هنالك ثمة شك في أن الرائد الحسيني كان القاتل". وفي السابع من كانون الأول كانت النتيجة تبرئة ساحتهما من التهمة وإقامة الشيشكلي مأدبة عشاء فاخرة على شرفهما.. عُيّن الحسيني بعد خروجه من السجن مديراً عاماً للشرطة ومن ثم ملحقاً عسكرياً في السفارة السورية في إيطاليا، قيل إن الحسيني كان متحدثاً، أنيقاً، لبقاً.
يتبع
شمس الدين العجلاني - أثينا
alajlani.shams@hotmail.com