الإنسانية عدو معلن وآخر موجود ومستتر

الإنسانية عدو معلن وآخر موجود ومستتر

الأزمنة

الأحد، ٢٤ أبريل ٢٠١٦

زهير جبور
تعبر عن الأخلاق والجود. تبرز الشهامة. وكبرياء النفس. ومن دونها فلا حاجة لمستقبل فعلاً، ولا أمل يكبر في النفوس. وإذا ما فقد الإنسان إنسانيته، فإن الحياة تبدو غير منضبطة ولا فائدة منها، فالوحوش الكاسرة تعيش في الغابات أيضاً، والإنسانية نظام يجمع الناس تلقائياً عند الضيق، وفي الرخاء، فالحزن إنساني وكذلك الفرح، والمرض والشفاء منه، وفي الأزمات الجماعية ينبغي أن يتميز البشر بها لتعلو، وترتفع بسموها، والأوجاع تحدد صفاتها وجوهرها.
•    وإن فقدت
وهو السؤال الأكبر الذي من واجب الحكمة نفيه ومجابهته، والنتائج تكون دون طبيعتها، وكم من طاقم طبي ضحّى لأجلها، ومن شجعان ما تخلو عنها مقتحمين الموت والنار من أجل انتصارها.
وفي عودة للفلسفة والبحث في الخلود نجد أن أمثال هؤلاء خلدتهم الإنسانية وصنفوا على أنهم أبطالها، وما نفع البطولة إن لم تكن تؤمن بها وتنشرها، ونبيلة تلغي الأنانيات. الجشع. القرف. التقزز من الوجود. وفيها الوفاء للنفس وللآخر، ومن البشاعة القصوى أن ترى في عيادة طبيب قطعة كرتونية مكتوبة بخط اليد تحدد أسعار الكشف الطبي. المعاينة. تخطيط القلب الكهربائي، الفحص (بالدوبلر) التصوير البانورامي، ولم تكن القائمة تحتاج إلا لتسعيرة مقياس الضغط الشرياني، والحرارة، وإحصاء عدد الكلمات التي نطقها الطبيب، أليست صادمة تلك القائمة بالأسعار المكتوبة بخط اليد، قد لا تثير دهشتنا إن وجدناها معلقة في واجهة محل لبيع الفلافل، وصاحبه لا يبدل زيت القلي إلى أن يتحول لمادة منصهرة. عكرة اللون. خالية من أي مواصفات، أما في العيادة الطبية فهو أمر فظيع، والطب حسب المفهوم عمل إنساني لا يجوز إخضاعه للغة التجارة بين ربح وخسارة، لأنه ليس سلعة تباع وتشرى، ومن العار أن نتوصل حتى هذه الدرجة من الاستخفاف بالعلم، يحدث هذا عند بعض الأطباء، ويا للأسف منهم من حصل على شهرة في ممارسة الاختصاص، بعيداً عن أدبيات المعرفة العلمية الطبية التي صنفتها منذ بداية اكتشافها الأول على أن الإنسانية بحاجة لعلمها وتطويره والوصول إلى أحدث التقنيات فيه خدمة لها ولا بأس أن يكون المقابل تلك القيمة المادية، لكن أن تتحول إلى الغاية الأساسية فهو المرفوض حتماً في علم السلوك، وعبادة المال ليست الهدف في استمرارية الحياة ومنطقها، ومن الشاذ أن يصدم المريض بقائمة أسعار إن لم تكن متوافرة فلسنا مجبرين على فحصك، وثمة من يخرجون بعيداً في تشخيص الحالة المرضية بغرض المزيد من الكسب المادي، والمتاجرة بالمرض، ويطلبون قوائم من تحاليل وصور وأدوية وكشوف لا يحتاجها المريض، وهناك الفقراء من المرضى يجبرون على بيع الذي فوقهم وتحتهم كما في المثل الشعبي، وصحة الإنسان أغلى ما يملك ومن أجلها يضحي بكل ثمين، وهو أمام حالة الضعف الذي يحل به مستسلماً لذلك الطبيب الفاحص، متعلقاً به لدرجة لا توصف لأنه المنقذ. المخلص. وإن شاء الله فعلى يده الشفاء، وهو في تلك المرتبة العليا من الإيمان به بعد الخالق، فليحصل على ما يريد، وهنا تأخذ الإنسانية دورها، متفاعلة مع الذين يحملونها بضمير، وتحدد مسار اتجاهاتهم ويؤنبهم الضمير في حال الخروج عنه، فماذا عند الذين أبعدوه وأنهوا صلاحية استعماله؟ ومن المؤسف أننا في السنوات الماضية رأينا الكثير جداً ممن أنهوا صلاحية ضمائرهم وعطلوها ليس في الطب بل بما يخص كل الجوانب الاقتصادية والأخلاقية والوطنية، انتشرت بين المسؤولين، والتجار، إفرازات كريهة أوجدتها الحرب المؤسفة التي راح ضحيتها الأعداد الكبيرة من المواطنين الشرفاء الأبرياء. الفقراء. ليستغلها هؤلاء الذين أزاحوا الضمير. طمروه في عفن الفساد. وانتشروا في كل مكان، فكيف حال العيش وفسادهم طغى، دخل الرجل عيادة الطبيب الخاصة. وشكواه دم يخرج مع البلغم، وهي كما شرح لي بعد أن خاض معاناتها خاضعة للكثير من الاحتمالات الطبية، من الأنف والبلعوم، إلى الصدر والرئتين، وصولاً إلى الورم الخبيث، هكذا فهم حالته، ليدب الذعر فيه، لكنه لم يشعر بألم ما، يسعل طبيعياً ويمشي ويأكل، باستثناء حالة الدم تلك، يبلغ من العمر /65/ سنة، يعيش مع زوجته من مرتبه التقاعدي الذي لا يسد حاجة الاستهلاك اليومي، لكنه يمشي الحال على قد الحال، ويمرض كغيره تلك الأمراض المعتادة التي يصاب بها أي إنسان وتشفى في قليل من العلاج، زكام. وجع رأس. وغيرها، لكن الأمر معه يستوجب مراجعة الطبيب ومعرفة الحالة، وطبيعة تطورها، دخل العيادة الصدرية التي قادته صوب الشعاعية، ثم التحليلية والقلبية حين صدمته قائمة الأسعار المعلن عنها في العيادة، وراح يفصل المبالغ التي دفعها بين عيادة وأخرى، وهو بحالة قلق وخوف، ولأول مرة في حياته يمد يده للاستدانة، ولا ضمان صحياً له بعد تلك الخدمة الطويلة في الحكومة، وحدد المبلغ المدفوع بحدود (200) ألف ليرة سورية ليتبين أخيراً أنها ذبذبة في الضغط الشرياني الذي يحتاج للدواء المنظم، قال: إن رحلة العلاج كانت قريبة من قسوة المرض، حالته جعلتني أبحث في العيادات الخاصة المتوزعة بين (الأسنان) (العيون) ولأتحقق من أسعارها، وهي ليست خاضعة للرقابة ولا يمكن لنقابة الأطباء حصرها، والطبيب يفرض ما يشاء في مملكته (عيادته) وثمة تسعيرة للضرس الواحد تبدأ من (3000) ل.س وصولاً إلى (25000) ل.س، ولم نعرف في اللاذقية أن عيادة أغلقت بسبب مخالفة التسعيرة، أو عدم تشخيص المرض الحقيقي، أو الخطأ في وصف العلاج المناسب، ولأن مهنة الطب إنسانية فإن الحكيم الحقيقي يتعامل معها من هذا المفهوم، وأرفض من باب العلم والمعرفة أن يتعرض الطبيب الذي يحمل شهادته بجهده وكده لمسألة كهذه وهو يحمل لقب الحكيم، وبالمقابل إن الاستسهال الذي عرفناه في وصول الكثيرين جداً إلى كليات جامعية متنوعة أوصلنا إلى حالات المتاجرة التي ظهرت نتائجها وجاءت أزمة البلاد المؤسفة والفساد الضارب لتضعنا فيما نحن عليه الآن من هندسة. صيدلة. أستاذ مدرسة. جملة ومفرق. باعة لحوم وفراريج. وفلافل بقليها بالزيت المحروق وهو يعرف خطورة ما يفعل.. وبكاملها حالات غياب أو دفن للضمير، مجردة من أي إنسانية يمكن أن يتعامل معها البشر، ونعود للسؤال ما حاجتنا للمستقبل إن تعطلت الإنسانية؟ وهل باستطاعتنا أن نبني مستقبلاً خلاقاً من دون إنسانية تجمع الناس في الوطن؟، مشتركين في آمالهم وأحلامهم، وهل الخلاص الفردي يؤسس أرضية صلبة للبناء والأجيال، وبعد تلك التجربة المريرة القاسية، ألم يأتِ الوقت الذي يخلصنا من آفة المصالح ووباء الفردية؟ لا يتعرض الثري ولا الفاسد المستغل للضغوط الاقتصادية والمالية التي يعيش قهرها الفقراء، وهم لا حصانة تحميهم، والحكومة في مخططاتها وأفكارها وتصريحاتها بعيدة عنهم ولا تشعر بوجودهم، وهم يدفعون دمهم من أجل الوطن، حين يمرض المسؤول تسخر من أجله كل الإمكانيات سواء في العام أو الخاص، والمال يزيل أي عائق يظهر، وحين يمرض الفقراء يموتون بصمت وبين عيونهم دهشة الاغتراب الذي يشعرون بها وهم في لحظاتهم الأخيرة وكان في ظنهم أنهم عاشوا بالوطن، نقول قدرياً الأعمار بيد الله، وهذا يعفينا من معرفة أسباب الموت، والاستهتار بحياتهم، لنتوقف عند حقيقة ندركها جيداً وهي أن العصابات المسلحة تقتل كيفما اتفق، لكن عصابات من تجردوا من حسهم الإنساني وتحولوا إلى ضباع مستشرسة تبدو كالبشر على قدمين، وفي داخلها ما هو أخطر، والإباء الوطني يقول: عدوك المعلن تواجهه بإيمانك المطلق، أما عدوك المبطن فتدير له ظهرك لتأتيك منه ضربة الغدر.