‍حقيقة لا يمكن التغيير فيها

‍حقيقة لا يمكن التغيير فيها

الأزمنة

السبت، ٢٥ أبريل ٢٠١٥

زهير جبور
بداية لنلقي بعض الضوء على عاصمة الكنائس السورية المسيحية. مدينة إنطاكية في لواء اسكندرون المحتل من قبل الأتراك، وهي الأخت التوءم للاذقية في حضارتها ومسيحيتها وتاريخها الواحد، الذي لا ينفصل عن سورية مهما كانت مؤامرة الاحتلال ومهما طالت، وفي العصر (الهلنسي) كانت إنطاكية عاصمة الامبراطورية السلوقية، وفي الروماني تصاعدت أهميتها لتصبح أكبر مدينة في العالم بعد روما والاسكندرية، وحتى يومنا هذا لها قيمتها التي لا يمكن التخلي عنها لدى المسيحيين في الشرق لأنها إحدى الكراسي الرسولية إلى جانب روما والاسكندرية والقسطنطينة والقدس، وبطاركة الطوائف يلقبون (بطريرك إنطاكية السريان الأرثوذوكس) وفيها كنيسة بطرس وبولص المنحوتة بالجبل، وتبعد عن مركز المدينة 2 كم وهي أول كنيسة خارج مدينة القدس، وكان يجتمع فيها الرسل مع الشعب المؤمن ملتقى بطرس ببولس ومنها انطلقت المسيحية الأولى وظلت قائمة حتى استشهاد القديسين لتبنى كنيسة أخرى في وسط المدينة حملت نفس الاسم وبنيت أعمدة قرمدية لدعم سقف مغارتها، وأرضها مكسوة بالفسيفساء الذي تمت سرقته من سلطات الاحتلال التركي، وفي الزاوية اليسرى منها ثمة نفق يؤدي إلى عمق الجبل لم يعرف طوله، كان الرسل يهربون منه حين اضطهادهم ويقصدها الحجاج كل عام للتبرك في يوم عيد القديسين بطرس وبولص في 29 حزيران، أما كنيسة (مارتقلا) فهي حاضرة في مدينة السويدية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، محاذية لمصيف كسب ويفصل بينهما جبل الأقرع، وفي عام 1975 عثر في اللاذقية وبحي المارتقلا أثناء إجراء حفريات إنشاء حديقة عامة على بناء مطمور تحت الأرض ووجد بداخله ما يدل على وصول القديسة مارتقلا إلى المكان، منطلقة من اللاذقية إلى السويدية وصولاً حتى كنيسة بطرس وبولص في إنطاكية، وتم العمل على ترميم المكان وتسويره وتأهيله، كنيسة حملت اسم (مارتقلا) وقد حضرت بعثة من روما حيث ورد وجود مثل هذه الكنيسة في وثائقهم وقدموا الشكر للحكومة السورية التي قدرت القيمة الروحية لها، وأعادتها كما كانت في زمنها القديم مع تجديدها، وهذه المعلومات التاريخية، تؤكد وجود المسيحية في بلادنا منذ بداياتها، وهو الأمر الذي جعل البلدات في ريف اللاذقية متجانسة، متحابة، متداخلة، لا تفرق بين مسيحي ومسلم، مثل بلدة كنسبا في الجهة الغربية من مصيف سلمى، وقد دمر وسلب ونهب من قبل العصابات المسلحة وكذلك كنسبا التي كانت تعتبر مركزاً مسيحياً مهماً، وفي عيد الميلاد المجيد تقام فيها الاحتفالات الدينية وبداخلها كنيسة قديمة مبنية من الحجر الأسود التي تمتاز به المنطقة. وتعتبر بلدة تاريخية قديمة سكنها المسيحيون منذ القدم، وهي واقعة على طريق القوافل القديمة بين حلب، اللاذقية. والتي كانت تمتاز بالخانات واستراحات القوافل على الطريق. القسطل. وخان الجوز. وثمة بلدات أخرى مثل الغنيمية المشهورة جداً بالرمان، والغسانية الجبلية ذات التضاريس المرتفعة، والحلوز، وغيرها، وهنا أقام المسيحيون وبنوا قراهم التي ورثوها عن أجداد أجدادهم منذ فجر التاريخ مشكلين النسيج الرئيس للمنطقة، وكانت كنائسهم مزدهرة يتوافد إليها المؤمنون من كل أنحاء العالم ليصلوا إلى إنطاكية ويحجوا فيها، عائدين من الطريق الذي قدمت منه القديسة مارتقلا والكثير من القديسين.
أما في خربة الجوزية التي تبعد 18 كم عن اللاذقية على طريق كسب، فثمة مقام للسيدة العذراء يتوقف عنده المغادرون إلى إنطاكية أو القادمون منها، وكانت طقوس الأعياد وإلى الآن تقام في المقام المحاط بغابة من أشجار الصنوبر، وفي ريف القرداحة مقام آخر للسيدة العذراء في بلدة نيننتي، وكانت "الأزمنة" أول وسيلة إعلامية تعرف به عبر موضوع نشر في السنة الماضية وهو منحوت في سفح تل صخري وبداخله ما يشبه الكهف، وحوله غابة كثيفة من أشجار السنديان التي يرجع عمرها لآلاف السنين حسب سكان المنطقة الذين يحرصون على المقام ويقدمون له الخدمات المطلوبة وتقام فيه الأعياد المسيحية كل عام، وعلمنا أنهم استقبلوا بمناسبة عيد الميلاد المجيد الزوار، وبجانب المقام نبع ماء عذب يتدفق من عمق الجبل ولا يجف، ويعود مقام العذراء في خربة الجوزية ونيننتي إلى المسيحية الأولى كما أشار الدكتور بسام جاموس المدير العام للآثار والمتاحف سابقاً، والذي يقوم حالياً في إعداد الموسوعة التاريخية الساحلية وهي تشمل آثار المسيحية الأولى وتواجدها المثبت تاريخياً في المنطقة الساحلية وصولاً إلى حماة وحمص حيث مجموع البلدات مثل مشتى الحلو ووادي النضارة والناصرة وغيرها.
•    هذا الامتداد
حقيقة الأمر إن وجود المسيحية في المنطقة يظهر واضحاً وكان من المقرر أن تشهد البلدات المتوزعة على طريق حلب. اللاذقية نهضة سياحية متنوعة بين الدينية والترفيهية والصحية، وهذا ما كان ضمن المخطط الذي نفذ في أوتستراد اللاذقية. حلب وبلغت كلفته الملايين ورصد الجانب السياحي الذي كان من الممكن أن ينشط المناطق التي يحاذيها مثل (الغنيمية) (الغسانية) (حلوز) وهي بكاملها رائعة ذات إطلالات ساحرة، وكان من المقرر أن يتم تدشين الاوتستراد قبل وقوع الأحداث المؤسفة الدامية في بلادنا بسنة وتوقف العمل فجأة، ولأسباب يعرفها السيد وزير النقل حينذاك، الذي صرح كثيراً أن العمل شارف على الإنجاز وأن المسافة بين اللاذقية وحلب ستختصر لساعة وربع الساعة، ولم يكن ذلك إلا حالة إعلامية ولم ينجز الطريق الذي خربت الأجزاء الكثيرة منه وقد فعلت العصابات ما فعلته، وأحرقت الغابات وشوهت الطبيعة، وهجرت السكان الذين استعدوا لإقامة المنشآت السياحية والفنادق، وفي حديث نشر أيضاً في مجلة الأزمنة مع البعض منهم قالوا إنهم سيحولون بلداتهم إلى مواقع سياحية عالمية، وسوف يجعلونها متقدمة، خاصة أن المغتربين من بينهم أبدوا استعداداً كاملاً للمشاركة والعودة إن اقتضت الضرورة.
توقف إنجاز الطريق ودخلت عصابات متوحشة. ضاربة كل خطط المستقبل، حاملة الشيطان وشره، لتطرحه على أرض أمن سكانها برسالة المسيح وقيامته من أجل المحبة والسلام، وها هم في الميلاد الخامس بعد الأحداث يتحسرون على بلادهم سورية وبلداتهم التي أبعدوا عنها وبداخلها العصابات التي لا تعرف ما القداسة ولا الإيمان ولا العقيدة إلا في القتل والنهب والخراب والتشريد.
لم يحتفل بالعيد وتم الاكتفاء بالطقوس الدينية داخل الكنائس في اللاذقية وكسب الذي يشهد محيطها معارك في غابات فرنلق وربيعة وسلمى، ويصر الجيش العربي السوري على تحريرها، وطرد العصابات منها، لتعود الحياة إلى ما كانت عليه، وفي مناسبة الميلاد كانت كسب تستقبل زوارها القادمين من كل المحافظات السورية والمغتربين الذين لا يفوتون فرحة العيد، ويعودون لتمضيته في بلدهم سورية ومسقط رأسهم كسب، أعياد تمضي حزينة. لا فرح فيها. وكما قام المسيح لا بد أن سورية ستقوم أيضاً، وهي أقوى من كل أعدائها، وأصالتها منارة يهتدي العالم إليها، وبعثتها في وضوح الرؤية وقوة الإرادة، وينبغي أن نحياها بعد الانتصار عن وعي لنخلصها من الأشرار الذين أرادوا لنصاعة صورتها التشويه، ميلاد مجيد وسورية مجيدة وحزن سيزول لتعود الطيور مغردة في سمائها ولتتابع مسيرة النهوض والعمل من أجل المستقبل الأفضل والحياة المجيدة... تاريخ سورية في إسلامها ومسيحيتها وبقية طوائفها حقيقية لا يمكن التغيير فيها ولا التشويه وزرع الفرقة مهما خططوا وعملوا واستشرسوا وهي سورية ستبقى هكذا على مرّ الزمن.