رحلة العبور من المجاز إلى الواقع … فاليري غيرغيف وأوركسترا مارينسكي على مسرح تدمر

رحلة العبور من المجاز إلى الواقع … فاليري غيرغيف وأوركسترا مارينسكي على مسرح تدمر

ثقافة

الثلاثاء، ١٠ مايو ٢٠١٦

 د. سماء سليمان- الكويت

المكان: مسرح تدمر الأثري
الزمان: الحرب السورية وحين أقول زمان الحرب السورية أقصد زمناً عبر فينا كقرون من خريف
واحدة من محطات ذاك الخريف – ذاك الزمن الحزين اللامتناهي القسوة – كانت في هذا المكان. وحينها كنت أقلّب من محطة لأخرى أتابع عبر الشاشة بهلع مشاهد مغرقة في البربرية مشاهد تبدو أقرب للسريالية منها للحقيقة… رغم كونها حقيقة…

إعدامات جماعية، كائنات بهائمية بهيئات بشر، أجساد مسمّرة على المدرج بوجوه يقضمها اليأس وأخرى يفجؤها هول الحدث… رأس العالم خالد الأسعد مركون بعناية قرب جسده القديم الممثل به. أقواس تحطمت، معابد نسفت، نقوش انمحت..
لم أكن حينها قادرة على البكاء. حجم الموت أكبر من أن يدركه ذهني المتعب، حجم الدمار أوسع من التصور. كنت معلقة في فراغ من ذهول ما قبل احتضار الروح، ذهول يقبّض الشرايين والأوردة وكل قناة صغيرة يعبر فيها نسغ للحياة في الجسد.
حينها عزفت عن البكاء وأغرقني صمت كان ربما شكلاً من أشكال احتجاج من لا حيلة له على عبث وجود تجاوزتنا نحن السوريين كل تفاصيله المؤلمة.. كأن تدور تلك المشاهد في مدينة كتدمر مثلاً. كأن يأخذ هذا العبث الدموي – الممنهج – كل أبعاد ضراوته على مسرح صدحت فيه منذ قرون ألوف من الأصوات التي تمجد الحياة.
رمزياً، ما تمثل في تدمر من دمار كان اختزالاً للكارثة التي ساقها النزاع في سورية على المستوى الإنساني.
يوم 27/3/٢٠١٦ ولادة جديدة. حررت تدمر. استعاد رجال الجيش العربي السوري جسد المدينة المنهك. تحرير ماحق للعبث… انتصار الإنسان… بل انتصار الفكر بكل ما تحمله الكلمة من أبعاد كونية.
ثم في يوم 5/5/2016 أطلقت تدمر صرخة ولادة ثانية، معلنة عودة الروح.
يوم استثنائي، في ظرف شديد الاستثنائية. وللمرة الأولى، أدرك، أنا الموسيقية منذ ثلاثين عاماً، أدرك وبشكل عميق جداً، عضوي جداً وملموس، أن الموسيقا هي انعكاس للحياة، للنور وبأنها نبض يعيد نظم إيقاع الوجود. أشعر أن كل ما قيل عن الموسيقا، كل ما قاله نيتشه، جلال الدين الرومي أو كونفوشيوس لا يعادل لحظة كهذه، تجللها هيبة المكان القدسي وشمس عتيقة تلهب الروح. لحظة يصدح فيها اللحن معيداً تخليد المكان، معيداً رسم تفاصيل زمنه الماضي والحاضر والقادم… معيداً تشكيل زمنه الحقيقي وليس ذاك المقتطع من سياق التاريخ..
كموسيقية، وعيت في هذا اليوم على فكرة أن دور الفن، دوره الحقيقي الحيوي الثابت هو مقارعة الفناء، عبورالدروب المفخخة. لكنني هنا لا استخدم المجاز… أتكلم عن حقيقة…
فرقة مارينسكي الرفيعة الشأن وعلى رأسها قائد الاوركسترا المخضرم فاليري غيرغيف حاضرون على مسرح تدمر الأثري. يعبرون بالمجاز على صهوة الموسيقا ليغرسوا أقدامهم في أرض أتون الحرب، تحيطهم جهات ما زال يضنيها ما زرعه الظلام في أرجائها، تَبعُدُهم بأمتار قليلة رمال ما زالت تلفظ الألغام… وهنا أيضاً لا استخدم المجاز، أو الكنايات.
هاهم ينظرون في وجه القبح نظرة القابض بين أنامله على سر الجمال.. هاهم يبعثون اللحن إلى أبعد نقطة في فضاء شاسع يتلقف امتداد الحضاري على مر العصور.. يمارسون طقسهم الأكثر اكتمالاً تحت وشاح من ضوء يصرخ في وجه الظلمة لتصبح موسيقا باخ، موسيقا شيدرين وبروكوفييف لحظة يتكثف فيها الزمن ليصبح مطلق الحقيقة.. انتصاراً لخلود عبقرية البشر.
حدث استثنائي، نعم، لأنهم قدموا من بعيد، ليس استعراضاً لما يمكنهم أداؤه على المستوى التقني والموسيقي – علماً بأن فاليري غيرغيف هو واحد من أهم قائدي الاوركسترا المعاصرين وبأن اوركسترا مارينسكي هي واحدة من أعرق الفرق الموسيقية وأكثرها تميزاً- بل قدموا كي يعلنوا انتصارهم للإنسانية كي يمارسوا كموسيقيين دورهم الإنساني الحقيقي، كي يخرجوا من النظرية إلى التطبيق ليجعلوا من الموسيقا- الفن الأكثر تجريدية- تجربة واقعية ملتزمة إلى أقصى حدود الالتزام: أي فعل مقاومة.
في هذا الحفل الاستثنائي حضر فاليري غيرغيف واوركسترا المارينسكي، لكن يوهان سيباستيان باخ كان حاضراً أيضاً عبر شاكون لآلة الكمان كصلاة صوفية وشيدرين عبر عمل لا يخلو من حس دعابة كوجه آخر من أوجه الحياة وبروكوفييف عبر سميفونيته الكلاسيكية التي خصها كتحية لأقطاب الفكر الموسيقي الكلاسيكي الثلاثة: هايدن. موزارت وبيتهوفن. كل هؤلاء كانوا مجتمعين على مسرح تدمر الأثري كي يعلنوا للعالم أجمع أن هذا المكان هو الآن سرة العالم، هو تقاطع لكل التجارب الإنسانية، لكل تعبير عن حضارة الإنسان عبر التاريخ أي انتصار الفكر والروح، على مبدأ الحديد، على وحش البربرية الكاسر.
مقدمة مؤثرة ألقاها غيرغيف بصوته العميق. رغم رصانتها ورغم ما تحمله من حياء المثول في حضرة الأرواح التي مازالت تحوم في المكان، على الأرض التي مازالت تداري جروحها ولكل قطرة دم بذلت لانتشال المكان من براثن العدم، إلا أنها كانت مقدمة مضيئة كواحدة من مقدمات موزارت، سمحة كلحن دافئ من ألحان بحيرة البجع، متحدية كخلية إيقاعية صغيرة جابه فيها بيتهوفن عبر سيمفونيته الخامسة سطوة القدر.
كنت سأستطيع ربما أن أخوض في تفاصيل موسيقية.. لكنني لن أفعل. ما يعنيني أبعد من الخوض في مجال اختصاصي. يكفيني أني عدت أذرف الدمع مع أول نوته أطلقها عازف الكمان… يكفيني كسورية أن تنبعث الموسيقا من المسرح نفسه الذي كان قبل أشهر ساحة تحجب سماءها رايات الموت، يكفيني أن تشد على أيادينا أنامل خلقت كي تنثر الجمال والفرح والأمل في هذا المنعطف التاريخي السوري القاسي ولابد أن الرسالة التي وجهها هذا القائد الفذ وفرقته المتميزة على مرأى من العالم أجمع إلى ساسة الموت وتجار الدماء أكثر أهمية وأرفع شأناً من أي محاولة نقدية…
بخفر أقول: شكراً لك سيد غيرغيف، شكراً للموسيقيين الرائعين الذين قطعوا هذه الأميال في رحلة طويلة كي يعلنوا انضمامهم لأولئك الذين يقاومون بالدم أو بالكلمة أو باللحن.
وشكراً لموسيقيي سورية الصامدين… أصدقائي وأحبتي وأبطالي الذين أدين لهم، أنا المغتربة، بالحفاظ على هيكل المعبد الذي انطلقنا منه وعلى ما سيبقى للأجيال القادمة.