الحصان بين امرئ القيس والفنان محمد غناش

الحصان بين امرئ القيس والفنان محمد غناش

ثقافة

الاثنين، ٢٦ مايو ٢٠١٤

محمد خالد الخضر
تتداخل الصنوف وتلتقي دائماً على أنها درجة إحساس عالية يتميز بها صاحب الموهبة وتتواصل فيما بينها؛ إلا أن حالة التلقي لابد لها من الاختلاف لما بين الفنون من تباين في طرائق أدائها وتقديمها في طريقة وصولها إلى أعماق النفس البشرية مختلفة لأن بعضها يعتمد على البصر ودرجة حدته في تقاطع خفايا اللوحة, وبعضها يعتمد على السمع فيما يجب أن يكون داخل مكنونات القصيدة الشعرية إلّا أن الوظيفة والغاية متقاربة تماماً ولاسيما أن الفنان التشكيلي والشاعر كل منهما يحمل في داخله رسالة تؤدي غايتها ووظيفتها في مسيرة حياة الإنسان، ليس في عصره فحسب بل على امتداد الزمان والتاريخ.
ولابد لي من أن أوضح دور الطبيعة والبيئة في درجة تكوّن اللوحة أو النص، إذ لابد لهما من القيام بدور مهم في تأسيس بنية تمنح من معين الفلسفة والعلم؛ بيد أن شخصية المبدع بما تهواه خلال القدرة الكامنة في أعماقها يمكن أن تدخل أثناء الحالة الإبداعية أموراً ليست بقليلة من ثقافات متنوعة اكتسبتها مهارة المبدع الذي بالفطرة يسعى إليها خلال مطالعاتها ورحلاتها واحتكاكه بالناس أو بأبناء نمطه من فنانين وكتاب وسواهم من الطليعة الرائدة تلك التي تعكس قضايا وتحولات النمط البشري خلال تعاقب الأيام المؤدية إلى تعاقب أجيال تختلف تراكيبها وألوانها المعيشية.
ولي أن أستحضر نمطين جميلين من الفنون الرائدة وقد أثبتا وجودهما وحضورهما على مر التاريخ وهما: الشعر والفن التشكيلي.. من خلال خصائص ينفرد بها كل فن عن الآخر مع اختلاف في الأساس الذي هو الوثيقة الخالدة المشيرة بدلالاتها إلى نمط الفنان أو الشاعر, هي الحالة الفنية المنتقلة عبر المؤثرات يوصلها الموهوب حسب موهبته ونوعها.
ينطلق امرؤ القيس في الطبيعة رغم ما في حالته النفسية من نوازع تجعلنا ندرك من خلال ما يتبادله من عواطف مع حصانه الذي هو مكان القوة الاجتماعية السياسية التي يمتلكها الفرد آنذاك, فيتغنى الشاعر بقوتها أو بأسبابها حيث يطلع من كل أشيائه ليشعر القارئ أو السامع إنه أمام حالة لا تتكرر. يقول امرؤ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
 بمنجرد, قيد الأوابد، هيكل
مكر مفر ,مقبل مدبر ,معا
 كجلمود صخر، حطه السيل من عل
دلالة على المقدرة إلى وصول الشاعر مكامن الذات البشرية.
الحالة الضخمة لمكانة الحصان يختلف تقديمها بريشة الفنان إلى أنه من الواضح أن الفنان التشكيلي محمد غناش في درجة شفافيته وصفائه لا يختلف في المبدأ عن الاحتفاظ بالمقومات والقدرة التي هي عند امرئ القيس وبالمرتبة التي هي أسمى, إلا أن الطبيعة؛ وحده الخالق القادر على اختراقها وإعادة صياغتها وينطبق على الاثنين ما ذهب إليه بيكاسو في قوله: "لا يستطيع الإنسان أن يعمل ضد الطبيعة إنها الأقوى ومن المفيد حقاً أن نكون على وفاق معها".
لأن كل القدرات العقلية التي يمتلكها امرؤ القيس وتقديمه صورة الحصان على أنه يساوي صخرة كبيرة أنزلها السيل من مكان شاهق فالصخرة أضعف من الجبل وامرؤ القيس كان مضطراً أمام موهبته ليقدم شعره في هذه الحالة خلافاً للواقع الذي كان روي قصيدته فيه مكسوراً؛ بيد أن الحقيقة هو مقطوع عن الإضافة ولابد من أن يكون مضموماً. ويتوخى الفنان التشكيلي محمد غناش الحذر أكثر من الشاعر في تقديم صورة الحصان محاولاً مزج الإحساس بمكونات الطبيعة المحيطة ليخلق في نفس من يرى اللوحة هدوءاً وطمأنينة واستقراراً برغم التصاق الحالة بالصحراء وأشيائها التي تدفع الإنسان في الواقع إلى البحث عن الأشياء تبعث في نفسه الأمل كالورد والريحان والنسيم في الظهيرة والابتعاد عن الغبار وسوى ذلك، بيد أن الفنان التشكيلي غناش بدا بإحساسه وبراعة ريشته قادراً على زرع الهواء في لوحته حيث يمتلئ الحصان بالشموخ والإباء ويدفعه لإظهار كل مقومات الأصالة العربية وهو يلتفت إلى البعيد في وقفة أبية مليئة بالتحدي على أرض ثابتة مرت عليها خيول الجدود وعاشت بين آلامها قبائل الأهل.
حالة قريبة جداً من الواقع تحرك الشجن في القلب وتوزع العواطف على الدماء, ولكنّ الشاعر امرأ القيس في إبداعه لصورة الحصان وحالاته النفسية:
كميت, يزل اللبد عن حال متنه
  كما زالت الصفواء, بالمنتزل
تجعلنا ندرك أن العلاقة بين الكون والإنسان هي مصدر من مصادر الإبداع المهمة في الكون عصي على الجفاف والشاعر بالمقدرة يمكن أن يأتي بأجمل الطرق لإدراك غايته في سعيه, إذ هو ليس بقاصر أبداً عن الخلود ولعلّنا نميز بين الحالتين النفسيتين فتختلف الحالة أمام صورة امرئ القيس التي بدا عليها الاضطراب رغم قوتها وبراعة مبدعها.
ولعلني أرى أن ثمة ثقة بالنفس أكثر رسوخاً عند غناش في لوحة الحصان من امرئ القيس الذي يذكرني بمحاولة دائمة لإثبات الوجود من خلال وصفه حصانه على أنه أقوى من كل شيء حوله في الطبيعة يقول امرؤ القيس:
على الذبل جياش, كان إهتزامه
 إذا جاش فيه حميه, غلي مرجل
أما التشابه في مستوى الكشف عن نفس الفنان والشاعر من خلال القصيدة واللوحة فهو كبير بل ومتطابق جداً فحصان امرئ القيس يظهر على أن نسبة الإباء منسحبة من أعماق الشاعر لتظهر في الحصان فهذه القضية ليست من اهتماماته وسائر أبيات المعلقة تكشف ذلك ولا يعني أبداً أنه يمتلك كل مواصفات حصانه لأنه سخّر كل قدراته على المبالغة بوصفه, شأن الخائف الذي يفخر بقوة خاله أو عمه أو أخيه ,إشارة أيضاً إلى محيط اكتسب منه ثقافة مجتمع أو بيئة لتعبر عن وعي بمحيط أراد ذلك ,إلا أن غناش اقترب من الواقع والمجهول في طرحه أحاسيس نشأت بالفطرة في داخله من خلال تمازج صراعات سيطرت عليها متمكناً بموهبته من الإمساك بالاختلاجات النفسية وتقديم النماذج إلى الساحة الشاغرة في دمائنا التي مؤداها إدراك البعد الثالث الذي لا نمتلك القدرة على لمسه. ويظهر ذلك من خلال وجود السماء والصحراء والحصان والسجادة والمكونات الأساسية اللونية والضوئية والنفسية حيث تماسكت ألوانه وقدمت تاريخاً سمعنا عنه ولم نرَ منه إلا ما وصل إلينا عبر الزمن على أن تطور الإنسان في منظور فناننا التشكيلي محمد غناش لا يشار إليه إلا من خلال مضمون يجب أن يقدم لنا أكثر تعقيداً ونجاحاً لمواكبة تطور الحياة، وحضور تلك السجادة مقابل شموخ الحصان ينم عن توازن سيطرة على اللوحة بشكل كامل فيه القوة والاتزان وتتجلى الحالة النفسية في الوضوح الكامل من خلال زرقة السماء المتماسكة مع تساوي علوها بعنفوان الحصان الواقف على أرض صلبة على أمور ربما خُيل لأصحاب الريشة أنها سهلة إلا أن الامتناع حليف الكثيرين مما يحاولون الغوص فيما يجب ألّا يغوصوا فيه..
تلك الألوان الصريحة الصاخبة ذات التأثير السيكولوجي القوي تؤثر فينا بقدر وتكشف دقتها الأشكال والخطوط ومحاور الموهبة التي ترتكز عليها اللوحة، وثمة ألوان أوجدها غناش تداخلت على شكل الحصان أعطت مع الألوان الأخرى مساحة الروح الفنية وإدراك سليم لمقومات الحالة الإبداعية التي يجب أن تكون عندما يكون الفنان قادراً على تقديم مادته عكس ما نرى اليوم من أشياء تجعل الكثيرين من مدّعي الفن يخرجون من الحمام ويضربون يميناً وشمالاً فيجدون من فراغ الضياع من يقول لهم: أنتم فنانون، ليصبوا مع شركائهم في تهديم ثقافة أمة تكونت عبر مراحل زمنية ليست قليلة، ولعل في اعتماد غناش على الأداء الواقعي الرفيع ما يقدم لوحاته لعيوننا وكأنها أشياء قريبة من السحر مشحونة بالفن والجاذبية لأداء واجبات تخصنا وتهمنا معبأة بالأصالة وممتلكة لجوهرها الحقيقي.
ويبقى للتربية بأنواعها والمؤثرات دور بارز، فكثير ما أوقعت فنانين كباراً بهلوسة الخيبة فأصبحت تلك الهلوسة شيئاً من نظام يستشهد به ضعاف اليوم، فلا يعني أبداً أن نمتثل لما فعله "ماتيس" عند ما رسم التفاحة بالأزرق وهي الحالة التي سوف تربطنا بها إذا كان الفنان يقدم ما ليس لنا رابط به فلمن يرسم إذاً، هذا قد تمكن غناش من أن يصالح تاريخنا مع الجميع ليبقى معنا في أحوالنا المستمرة. ونعود إلى القصيدة التي كانت محور المقارنة النفسية والشكلية لنذكر بيتنا يقول فيه امرؤ القيس:
مسح، إذا ما السابحات، على الونى
 أثراً الغبار، بالكديد، المركل
لنرى أن الصورة التي قدمها لنا تختلف عن الصور الأخرى فها هو ينتقل في حصانه من شكل لآخر وإن كانت الحالة النفسية جعلته لا يستقر أمامنا إلا أن الانتقال في الصورة كان أخاذاً مع انسياب الحروف الصحيحة والمعتلة وإيقاعاتها مع البحر الطويل في مقارنتنا التي تظهر مدى أهمية انعكاس حالة الشاعر والفنان على عمله إلى قوله: إن ما قدمته ليس قاسياً فهو أنموذج لشاعر عبقري وفنان لا يقل عبقرية في موهبته، فربما يتفوق في داخله فنان على شاعر والعكس صحيح.
هذا وقد تفوقت الحالة النفسية في رؤيتي لحصان محمد غناش على الحالة النفسية لرؤيتي حصان امرئ القيس التي زعزعت ثقتي بها حالات في بقية مواضيع القصيدة التي أثرت على التوازن الموضوعي المختل في القصيدة والكامن تماماً في لوحة محمد غناش.