وجيه البارودي

وجيه البارودي

نجم الأسبوع

الثلاثاء، ٧ أغسطس ٢٠١٨

أنس تللو

تقادمُ العهدِ لا يسري عليَّ كما
يسري على الناس، إني قاهر زمني
فكل جيل من الأجيال يألفني
وكل رائعة في الحي تعشقني
كان وجيه البارودي يزهو بنفسه ويعتز بها فيقول إن الزمان لا يؤثر فيه وإنه يبقى دوماً شاباً…
أمضى وجيه البارودي عمره بين الطب والشعر والهوى… هو طبيب شاعر وشاعر طبيب.
تصلح قصة هذا الإنسان وجيه البارودي لكي تكون مثالاً صارخاً على التفاؤل الكبير وعلى الرغبة الطاغية في الاستمرار في الحياة ؛ مثالاً صارخاً على الدأب وعلى الطموح… مثالاً على مفهوم الحب في الحياة لذلك فقد بقي وجيه البارودي طوال عمره الذي وصل إلى التسعين شاباً يانعاً يافعاً يحمل قلباً ناضراً يعشق ويحب ويكتب شعراً.
وجيه البارودي خبير نفسي قبل أن يكون طبيباً جسدياً.
وكما أن الجسد يحتاج دواء ليشفى، كذلك فإن الروح تتطلب شعراً لترقى، لأن الروح تمرض كما يمرض الجسد، والطبيب الحاذق هو الذي يعالج المريض من الطرفين… يقول وجيه البارودي عن ذلك:
أتيتُ إلى الدنيا طبيباً وشاعراً
أداوي بطبي الجسم والروح بالشعرِ
لا عجب في أن تمدنا مهنة الطب بقائمة من الأدباء والشعراء الذين صقلت معرفتهم بالطبيعة الإنسانية… ذلك لأن الطبيب هو الشخص الذي يتمكن من رؤية الطبيعة الإنسانية عارية من كل الأقنعة، إذ يرى خلال عمله أعداداً من الناس تعاني آلام المرض أو سكرات الموت… ما يمده بذخيرة من التجارب والخيرات لا يتيسر لسواه أن يراها… فإذا ما توافرت له موهبة الشعر وتفتحت له القريحة فإنه يتحفنا بأشعار لا نظير لها.
يعجُّ تاريخنا الأدبي والطبي بعدد كثير من الأطباء الأدباء في العصور القديمة مثل ابن سينا وابن زهر وأبو القاسم والزهراوي… وهناك الكثير من الشعراء الأطباء في عصرنا الحالي إلا أن الدكتور وجيه البارودي يكاد يكون الطبيب الوحيد الذي سخر معظم شعره للمواضيع الطبية.
وجيه البارودي طبيب ماهر وشاعر حاذق؛ ولد في مدينة حماة في 1 آذار1906 وتوفي عام 1996… شعره يعبِّر عن ذات إنسانية رفيعة ؛ وطبه يوحي بأصالة إنسانية نادرة… كيف لا وهو الطبيب الذي مارس الطب لأكثر من ستين سنة.
في نشأته درس في مدارس بيروت وفي الجامعة الأميركية، ما أتاح له الاجتماع مع عدد من الأساتذة الغربيين الذين أثروا فيه… وفي مكتبة الجامعة اطلع على أمهات كتب التراث وحفظ الكثير من الشعر العربي في كل العصور واطلع على أنماط من الشعر الغربي، وراح منذ ذلك الوقت يكتب الشعر متأثراً بما قرأ… وقد تعرف على الطلاب إبراهيم طوقان وعمر فروخ وأسسوا جميعاً جمعية أدبية باسم ( دار الندوة) عام 1926 تلك الجمعية التي كانت تنظم ندوات الحوار والاطلاع على النتاجات الفكرية والشعرية لكل طالب منهم.
وقد نمت هذه الموهبة وأنتجت طبيباً حاذقاً وشاعراً بارعاً.
إن رجلاً بهذه الصفات لابد من أن يكون رحمانياً… لقد فعل بداية كما يفعل الأطباء… اشترى عدة خاصة لممارسة مهنة الطب… هناك أدوات خاصة بكل طبيب حسب اختصاصه، وكان من ضمن هذه الأدوات كما هو شائع خزانة حديدية، خزانة لحفظ الأموال الطائلة التي تتدفق عادة على معشر بعض الأطباء، لكنه حين عاد إلى نفسه وجد أنه متعاطف مع الفقراء بكل جوارحه فكتب قصيدة طريفة سماها الخزانة الحديدية بيّن فيها أنه سيبذل جهده في سبيل مرضاه من دون مقابل وأنه سوف يكتفي منهم فقط بالحصول على قوت يومه فلا يعرف ادخاراً ولا اكتنازاً، أن جيبه فقط هو خزانته الكبيرة، يقول:
شريت خزانة لأصون مالي
ولا مال سوى قوت النهار
وقوت اليوم أحفظه بجيبي
وليس لدي فضل لادخارِ
بل لقد كان يُسمع عنه أنه حين كان يزور المرضى ويعالجهم بالمجان ويقدم لهم الدواء بالمجان كان أحياناً يضع لهم بعض المال تحت الوسادة.
ما أجملها من أخلاق طبيب نادر في هذا العالم.
وبالطبع فإن رجلاً كهذا بارعاً في تشخيص الأمراض، وحاذقاً في وصف الدواء وسامياً في عفة النفس لابد من أن تهفو إليه قلوب الناس… وإن بيته يعكس شاعريته ويعكس فنه العظيم وطبه العريق.
كانت الناس تتهافت عليه من مدينة حماة وريفها وكانت عيادته كبيرة واسعة، ونظراً للعدد الكبير الذي يؤمها فقد كانت بعض المريضات تصحب معها ابنتها أو جارتها، وربما يقمن بحفر الكوسا والباذنجان في انتظار دورهن.
جمع وجيه البارودي فوق الطب والشعر موهبة الظرافة… وكانت ظرافته متميزة… ظرافة طبية وظرافة شعرية.
طـُلب ذات مرة إلى منزل امرأة على وشك الولادة ولكنها كانت متعثرة، شاهدها الدكتور وجيه وهي تتألم وتتلوى وتتخلع… فماذا فعل؟
تناول هذا الطبيب الشاعر الظريف شرشف السرير ولفه على خصره، وأعطى وعاء الغسيل لحماة المريضة طالباً منها أن تضرب عليه إيقاعاً راقصاً، فبدأت الحماة بالعزف وبدأ هو بالرقص، وما زال يرقص ويرقص حتى طرب أخوات الولادة وبدأن بالرقص والغناء، فنظرت المرأة الولادة إلى هذا المنظر وغرقت بالضحك وتمادت بالضحك إلى درجة كبيرة فما كان منها إلا أن أنجبت مولودها من دون أن تشعر بذلك.
ولدى سؤال الدكتور وجيه عن سبب فعلته هذه أجاب: إن المرأة خائفة ومتشنجة وهذه الحالة لا يفكها إلا الضحك أو الفزع، ولم أستطع على الثانية فقمت بالأولى.
الظرافة والطرافة تغمر شخصية هذا الطبيب وتفوح من أشعاره… ها هو يصف ما يراه حين يدخل بسيارته القديمة في حي شعبي من أحياء حماة:
تمر سيارتي العجفاء من طرق
شعبية ليس فيها لمحة لغني
تراكض الصبية الأغرار تتبعني
مهما فررت فراري ليس ينفعني
هذا يصيح وجيه أمس أنقذني
من الهلاك، وهذا أمس طهرني
وأقبلت أم محمود تزغرد لي
جاؤوا إلي به ليلاً فولدني
طبع شعر وجيه البارودي في ثلاث مجموعات الأولى بعنوان ( بيني وبين الغواني) تضم شعره منذ بلوغه التاسعة عشرة من العمر 1925 إلى 1950 والثانية ( كذا وأنا) وصدر عام 1971 وتضم شعره بعد عام 1950 وكان قد بلغ الخامسة والستين، ثم الديوان الثالث عام 1994 وضم ما كتبه الشاعر بين عمر الخامسة والستين وحتى الثامنة والثمانين.
ومن طرائفه أيضاً تلك النصائح التي كان يزود بها مرضاه فيحفظونها ويتناقلونها، مثل: ( نظم الواصل وفرغ الحواصل، بتبرا المفاصل) أو قوله: ( يلي بياكل تازة ما بيتآذا).
الشاعر وجيه البارودي هو شاعر الحب… وهو الطبيب والعالم يدعو إلى الحب ويؤكد أن العقاقير الطبية لا تجدي نفعا أمام الحب… الحب وحده هو الذي يعيد الشيخ إلى صباه، فهو يدعو المسنين إلى عدم الإصغاء للطبيب ولا للإرشادات الصحية… إنه يؤمن أن الحب قادر على صنع المعجزات، يقول:
ألا أيها القوم المسنون أقبلوا
إلى اللهو لا تصغوا لنصح طبيب
أحبوا فالهوى يبعث الصبا
أحبوا فإن الحب غير معيب
وهذه ليست دعوة نظرية، وإنما هو كان يطبق هذا على نفسه… هو يؤمن تماماً بقدرة الحب على الشفاء أكثر من الطب… فإنه وهو الطبيب حينما التهبت أذنه ولم تنفع العقاقير في شفائها عامين كاملين، لجأ إلى المعالجة بالحب، فطلب من حبيبته أن تمسح أذنه بشفتيها ففعلت… فإذا بها تجف وتشفى وتعود إلى سمعها.
وأنا الطبيب وقد مرضت أتيتها
مستشفياً لعجيبة أتطلع
أذني التي التهبت وعز دواؤها
عامين من جرائها أتوجع
قلت امسحي أذني بفيك وتمتمي
فيها فمن فيك الدواء الأنجع
والله ثم الله، يوم بعده
يوم إذا أذني تجف وأسمع
بلغ البارودي التسعين من العمر وهو يقول:
حبي مع التسعين لم يتبدلِ
بالعشق لم يفتر ولم يتبذل