أبولودوروس الدمشقي

أبولودوروس الدمشقي

نجم الأسبوع

الأربعاء، ٦ مايو ٢٠١٥

مقدمة

أبولّودور، وباليونانية «أبولّودوروس Apollodorus» تعني «هبة أبولو» وتقابله في الآرامية «زبدنبو» وهو اسم شاع استعماله في سورية بعد الإسكندر.

مولده وحياته

ولد المهندس المعمار أبولودوروس الدمشقي في دمشق عام 60 م وفق أغلب التقديرات، وعاش في روما شطراً كبيراً من حياته، ومن المرجح أنه مات مبعداً عنها وهو في قمة عبقريته وكمال شخصيته.

ورغم أننا لا نعرف شيئاً عن منجزات أبولودوروس في بلاده، إلا أن أحد الأعمدة المنهارة في أنقاض معبد جوبيتر بدمشق التي ظهرت خلال إصلاح الجامع الأموي الكبير بدمشق والذي يحمل اسمه يجعلنا نرجح أنه قد ساهم في تصميم ذلك المعبد العظيم والمشاركة في بنائه.

ويعدّ أبولودوروس الدمشقي واحداً من أفذاذ المعماريين الذين عرفهم التاريخ القديم. فقد كان مبدعاً جَسوراً يتصدى بنجاح لأكثر المعضلات التقنية والفنية تعقيداً. ويتضح من تمثاله النصفي الموجود حالياً في متحف ميونيخ أنه كان متين البنية مهيباً متوازن الشخصية نبيل القسمات وتلوح على وجهه سمات شرقية واضحة. وثمة أعمال كثيرة له باقية وأخبار عن عمله الرسمي. ولكن المعروف من سيرته الشخصية قليل، وفي هذا المجال يقول ويلر في كتابه عن الفن الروماني: «إن أبولودوروس الدمشقي، الذي يكمن اسمه خلف أعظم المنجزات في عهد الإمبراطور ترايانوس، يظل لغزاً من الألغاز».


جزء من عامود تراجان:
ويبدو تراجان في أعلى الصورة إلى اليمين
ويقف أبولودوروس خلفه

وقد فرض أبولّودوروس على المجتمع الروماني احترامه وتقدير مواهبه. ففي عهد الإمبراطور الروماني تراجان (ترايانوس) (98-117م)، تبوأ أبولّودوروس منصباً يعادل منصب وزير الأشغال العامة أو المشاريع الكبرى بلغة اليوم. حيث تربو أعماله الموثقة في البلاد الرومانية في أوروبا على خمسة عشر عملاً شهيراً في مقدمتها السوق التراجانية والفوروم التراجاني (مجمع النصب التذكارية) والعامود التراجاني الشهير في وسطه، وجسر نهر الدانوب العملاق الشهير أيضاً. وله منجزات مدنية ومعمارية أخرى لا تقل أهمية عن سابقاتها، من أهمها حمامات تراجان والحوض السداسي في أوستيا مرفأ روما. وهناك أيضاً ميدان للسباق وبعض أقواس النصر، كما يتجه كثير من المؤرخين والمعماريين الآن إلى الاعتقاد أن معبد البانثيون الشهير في روما الذي بني في عهد الإمبراطور هادريان هو أيضاً من تصميم أبولّودور الدمشقي.

تأثر أبولودوروس الدمشقي في موطنه الأصلي بروائع العمارة وحمل إلى روما روحاً جديدة في العمارة والفن، ويذكر تاريخ كمبردج القديم أن بعض العلماء يعتقدون «بأن سورية في مجال العمارة كانت متقدمة على روما، بل كانت نموذجها المحتذى. وأن سورية تفوقت على روما في عبقريتها المبدعة وفي معارفها التقنية وفي مهارة عمالها، ويفترض أن أبولودور الدمشقي قد اقتبس مخططات المباني في سفح رابية الكوبريناليس من موطنه الأصلي».

كان أبولودوروس الدمشقي والإمبراطور تراجان صديقين حميمين، ويظن أن عهد صداقتهما يعود لأيام تولي تراجان منصبه كمحامٍ عسكري في حقبة ولاية والده على سورية. وعندما تسلّم تراجان عرش الإمبراطورية الرومانية، كان أبولودوروس الدمشقي قد اشتهر فيها كشخصية فنية ومعمارية مبدعة.


نهاية أبولودوروس الدمشقي


مع وفاة تراجان ومجيء هادريان إلى الحكم عام 117م، استمر أبولودورس في العمل كمعماري الإمبراطور، إلا أنه لم يكن على وفاق تام مع الإمبراطور الجديد، ورغم وجود دلائل في مساهمته ببناء البانثيون الروماني في عهد هادريان، إلا أن آراء الإمبراطور في العمارة، وإعجابه الكبير بالعمارة الإغريقية، جعله غير متوافق مع آراء أبولودوروس الفنية، ولم يتوقف أبولودوروس عن انتقاد تصاميم الإمبراطور، ما جعل هادريان ينقم عليه ويضمر التخلص منه، رغم خدماته الكبيرة للإمبراطورية. ويذكر مؤلف «تاريخ الإمبراطور أغسطس» أن هادريان عندما شرع في بناء معبد فينوس، شاور أبولودوروس الذي خطط لهذا الغرض لبناء تمثال ضخم لإلهة القمر لونا، كمرادف لتمثال هيليوس (الشمس) الذي بناه نيرون، والذي كان من المقرر أن ينقل من دار نيرون الذهبية. وهكذا يمكن أن نتصور وجود تعاون بين هادريان وأبولودوروس في بناء البانثيون (الذي تختلف الآراء في فترة بنائه ولكن الأرجح أن العمل فيه قد بدأ في الفترة بين عامي 121م و131م أما الانتهاء منه فيرجح أنه كان بين 135م و137م بعد وفاة هادريان). كل هذا يدعو للاعتقاد بأن الخلافات بين أبولودوروس والإمبراطور قد تصاعدت في تلك الفترة. ويذكر المؤرخ الروماني كاسيوس أن هادريان، اتهم أبولودوروس بأشياء مختلفة ثم نفاه، ثم أمر بقتله، وأن ذلك قد كان ذلك عام 125م، فيما يشير بقية المؤرخين إلى احتمال حدوث ذلك بين عام 125م ونهاية هادريان عام 1935، وبذلك تكون نهاية حياة أبولودوروس الحافلة بجلائل الأعمال.

من هو أبولودوروس


تثور التساؤلات لمعرفة أصل هذه الشخصية الباهرة في تاريخ روما وتاريخ العالم القديم، إذ تكاد المعلومات عن نشأته وتكوينه تنعدم تماماً، وكل ما يقال عن ذلك لا يخرج عن الاستنتاجات والتكهنات، ذلك أن مولده في دمشق ليس مؤكداً (ذكر ذلك المؤرخ كاسيو ديني فقط)، كما أن أصوله الشرقية ليست مؤكدة، ذلك أن اسمه (أبولودوروس: ويعني تماماً هبة أبولو) هو اسم شائع في سورية في الحقبة الرومانية التي كانت متأثرة بالثقافة الهيلنستية، وتضم جاليات يونانية واسعة. ما هو شبه مؤكد أن صداقته مع تراجان قد توثقت عندما كان والد تراجان يعمل كمحامٍ (والٍ) لروما في دمشق، ويبدو أن شخصية أبولودوروس القوية ومهارة الساطعة كمعماري وحرفي بارع قادر على حل أكبر المشكلات (وربما كانت له جملة مهارات أخرى لا نعرفها)، قد لفتت أنظار تراجان إليه. وعندما أصبح تراجان إمبراطوراً استدعى صديقه الدمشقي ليصبح معماريه ومستشاره الخاص، حيث يبدو نفوذ أبولودوروس في عهد تراجان قوياً جداً.

إن المقاربة المنطقية الوحيدة التي تحيل إلى شرقية أبولودوروس، هو ما قام به الأثري أدريانو لاريجينا معتمداً على دراسة نقدية لبعض الكتب التي تناولت كتاب «فن الحصار» لأبولودوروس، ذلك أن الكتاب يوحي بأن مؤلفه كان ضعيفاً بما يتعلق بإلمامه بالقواعد اللغوية للغة الإغريقية، ما يشير إلى أنه لم يكن من أصول يونانية، إنما كان سورياً ذا أصل مشرقي على الأغلب، هذا إذا ما صحت رواية نسبة الكتاب إلى أبولودوروس نفسه.


صورة أبولودوروس الدمشقي



تمثال نصفي لأبولودوروس الدمشقي

من غير المعقول أن يبقى رجل قد طبقت شهرته الآفاق في ذلك الزمان، وعامل سادة العالم من الأباطرة الرومان من موقع الصداقة أو الندية، دون رسم أو شكل يشير إلى شخصيته. إلا أن ما بقي عن الرجل العظيم (وفق ما اكتشف إلى الآن) لا يتعدى منحوتتين، إذ يتفق بين المؤرخين على أن صورة أستاذ مشروعات تراجان محفورة على عمود الإمبراطور تراجان، وبالتحديد ضمن مجموعة الأشخاص الذين يقفون إلى يمين الإمبراطور وهو يضحي بقربان في شتاء سنة 105- 106م على جسر فوق نهر الدانوب، وهو الجسر الذي صممه أبولودوروس ويبدو وصفه في مخطوط له. ويرى البعض أن أبولودوروس هو الشخص الواقف إلى اليمين خلف الإمبراطور، فيما يرى آخرون أنه الواقف في المقدمة ضمن هذه المجموعة أو الشخص الثالث إلى اليمين.

أبولودوروس الدمشقي على عامود تراجان

من ناحية أخرى، يضم متحف الحجريات بمدينة ميونيخ الألمانية حالياً تمثالاً نصفياً لرجل، وتم الحصول على هذا التمثال من مجموعة المقتنيات الأسقفية بروما عام 1820م. ويمثل التمثال (وارتفاعه 55 سم) رجلاً طاعناً بالسن ذا لحية وشوارب مقطب الحاجبين بارز الوجنتين بعيون غائرة، وجبهته مغطاة بشعر مائج يحده صفان من الخصلات أسفلها أشعث. كما يشمل التمثال النصفي المقطوع عند الصدر كل منطقة الكتفين، وتبدو عليه آثار ترميم بالجانب الأيمن، ويكتمل التمثال بلوحة مزينة بهلالين ونقش عليها بالإغريقية «أبولّود..روسس». وقد أشار وجود هذا الاسم بالإضافة إلى نمط النحت الذي يعود إلى النصف الأول للقرن الثاني بعد الميلاد، إلى وجود رابط بين التمثال والمعماري الشهير.

وبالمقارنة بين تمثال متحف ميونيخ وبين عمود تراجان، فإن فارقاً عمرياً واضحاً يظهر للعيان، حيث يمثل التمثال النصفي رجلاً أكبر عمراً، في حين تقارب تصفيفة شعره المجعد ما يظهر على شخصية العمود، إلا أن لون الرأس وحدقة العين المحفورة تشير إلى زمن لاحق لسنة 130م وحتى لما بعد 135م، حيث يشير المتخصصون إلى أن طريقة إنجاز الوجه تعود إلى العهد الهادرياني المتأخر. إن هذا التاريخ يتطابق مع كل المؤشرات التي تقود إلى كون أبولودوروس قد كان في تلك الفترة ضمن طاقم هادريان المعماري، وبالتالي فمن الممكن الافتراض أن تمثال ميونيخ النصفي يمثل بالفعل أبولودوروس الدمشقي، وليس مجرد شخص عادي في ذلك العهد.


فن الحصار – من مؤلفات أبولودوروس الدمشقي


عابراً القرون يصل إلى يدنا مؤلف يتيم لأبولودوروس الدمشقي، كتاب «فن الحصار»، ويطرح السؤال نفسه هنا: كيف استطاع كتاب صغير وبسيط كهذا (دليل لتصميم الآلات الحربية في ذلك الزمن) أن يصل إلى يومنا هذا عبر القرون الطويلة؟ وكيف استطاع تجاوز العشرات من المخطوطات الكلاسيكية عندما تقرر الاستغناء عن الحروف الكبيرة للمخطوطات واستبدالها بحروف صغيرة (وهي عملية بدأت لدى النساخ منذ منتصف القرن التاسع الميلادي وتتطلب الكثير من الجهد والعناء) كي يقرروا نسخ هذا الكتاب وفقاً لأهميته؟

لم تكن تلك المشكلة الوحيدة التي واجهت الكتاب، ذلك أنه لم يكن مفصولاً عن غيره من مخطوطات أخرى تحمل نفس الموضوع، وقد أطلق النساخ على المجموعة اسم «كتب فن الحرب» وقد ترجمها الناسخ البيزنطي (في الربع الأخير من القرن العاشر) بتسميتها «تقنية الحقد».


صفحة من كتاب فن الحصار لأبولودوروس

وشلمت المجموعة مؤلفات لعدد من الكتاب منهم: أتينيئو (مخطوطه بعنوان «الآلات»)، بيتوني (مخطوط بعنوان «صناعة الآلات الحربية»)، أروني دي ألسندريا من القرن الثاني والأول قبل الميلاد وهو تلميذ المهندس تشيسيبيو (مخطوطان: «صناعة الآلات الحربية»، و«صناعات وقياسات الأقواس النشابة»)، أبولودوروس الدمشقي (مخطوطه بعنوان «فن الحرب»)، مخطوط لكاتب مجهول وهو يحتوي جميع المخطوطات التي تم ذكرها ما عدا مخطوط أبولودوروس ولذلك يعتقد أن كاتبه هو أبولودوروس نفسه، فيلوني (مخطوطه عبارة عن موسوعة تحتوي على المخطوط الرابع وعدة أجزاء من كتاب عن الذخيرة، والمخطوط الثامن)، وهناك جزء متعلق بالفلسفة موجود في المخطوط الأصلي. ونجد أيضاً في المجموعة عدة مخطوطات قديمة، فقد تم ضم المخطوط المرتبط بفن الحرب إلى مخطوط يتعلق بالخطط الحربية، وهناك مخطوط ثانٍ يتحدث عن حياة الجنرال وعنوانه «استراتيجية أو فن الحرب» لكاتبه موريتسيو، وهناك مخطوط آخر تم نسخه من قبل الناسخين البريطانيين، وآخر نسخه جوليو الإفريقي، وعدة مخطوطات تم نسخها من قبل مجهولين مثل «الحصار»، «فن الحياد»، «فن الحرب» لكاتبه الإمبراطور ليون السادس، ومخطوط بعنوان «فن الحرب» وكاتبه مجهول.

أما عن فترة نسخ هذه المخطوطات فتشير الدراسات إلى أنها تعود إلى الفترة الواقعة بين نهاية القرن التاسع الميلادي وبداية القرن العاشر (ما يسمى بعصر النهضة البيزنطي)، حيث تم القيام بعمليات بحث شاملة بهدف تجميع كافة المخطوطات المتعلقة بفن الحرب بأمر عدد من الأباطرة (ليون الحكيم، كستانتينو بورفيجينتو، نيشيفورو فوكا) والذين كانوا هم أنفسهم مترجمين لبعض هذه المخطوطات، فقد قام ليون الحكيم بترجمة مخطوط يتعلق بالعلوم الحربية، ما اضطره إلى دراسة كافة ما هو متوفر من مخطوطات متعلقة بفن الحرب وتجميع كل المخطوطات بحروف كبيرة والتي نجت من التلف ونسخها بحروف صغيرة. وقد جمعت هذه المخطوطات في سبعة مجلدات، ثم وصلت إلى إيطاليا بعشرات ومئات النسخ، وحرص مقتنوها على تجليدها والعناية بها، وربما كان ذلك السبب في وصول مخطوطة أبولودوروس إلى أيدينا في الوقت الحالي.


قراءة في البوليورشتيكا (فن الحصار واختراق الحصون)


يعلق الكاتب جانجاكومو مارتينيز على كتاب أبولودوروس فيقول: «البوليورشتيكا علاقة تقنية فنية تصور نماذج لآلات شيدت من قبل وقابلة للتكرار، إنه ليس اختصاراً للهندسة العسكرية، لكنه يتعلق فقط بتقنية الحصار: كيف يدمر، كيف يتخطى، النظر إلى ما خلف أسوار العدو. المعماري هنا لا يعرض عملاً معمارياً لم ينفذ بعد، لكنه يصف المقاييس، والغايات، وخطط بناء آلات شيدت كنماذج أصلية مع التوجيهات لكيفية إعادة إنتاجها بكميات من مواقع القتال. هذه أول خاصية لفكر أبولودوروس: إعادة الإنتاج، مقاييس آلات أبولودور هي الخفة، وسهولة التشييد، بخامات شائعة يسهل العثور عليها، من قبل جنود غير متخصصين في تشييد مخترعات ذلك العبقري، بجانب فكها وإعادة الاستفادة منها في عمليات حربية مختلفة».

ويتابع: «منهج أبولودوروس هو تجميع عناصر صغيرة لتكوين منظومات ضخمة. وهو نفس المنهج الذي يظهر في تشييد جسر على نهر الدانوب والذي جرى تصويره في المنظر رقم 99 على عامود تراجان».

ويبدو أن إبداع أبولودوروس يبدو واضحاً في ذهنيته التي بنت نظاماً مستقلاً ينظر بشكل جدلي للعلاقة بين الميكانيكا وتقنية البناء، والعلاقة التبادلية بين آلات التشييد والبناء وبين آلات الحرب، مستنداً إلى تأمل عميق للتراث الطويل للأدب الهلنستي عن الميكانيكا والمعمار وتاريخ الحروب.


أبولودوروس الدمشقي والعمارة التراجانية


تشير المصادر التاريخية إلى أن صداقة عميقة قد جمعت بين الإمبراطور الروماني تراجان والمهندس الشهير أبولودوروس الدمشقي، وعلى ما يبدو فإن الإمبراطور الروماني الشغوف بإسباغ مظاهر الأبهة المدنية على إمبراطوريته العامرة، قد وجد ضالته في هذا المهندس العبقري الذي جمع بين لا محدودية التخييل والإبداع المشرقي والدقة المحكمة للهندسة اليونانية وأصولها الفلسفية والمعرفية العميقة، فكانت النتيجة عمراناً واسعاً لم يتمكن الآثاريون والمنقبون حتى الان من الإحاطة بكل ما بقي منه، ناهيك عن الإحاطة بشكله الأصلي الذي ما يزال مدار بحث ونقاش واسع في الأوساط العلمية والفنية.

تصميم مصغر للميادين الإمبراطورية التراجانية في روما

لقد اشترك أبولودوروس بمشاريع تختلف فيما بينها، وتراوحت بين التخطيط العمراني الواسع النطاق، وإنشاء المباني والجسور والمعابد، والأعمال الفنية المختلفة. وربما يعود ذلك إلى اتساع معنى المهندس واختصاصه في ذلك الزمن، فقد كان عمله يشكل عدة مجالات منها التصميم والتنفيذ والنحت وغير ذلك، ما يجعلنا غير قادرين اليوم على التفريق بين العناصر الفنية والتقنية، وبين المهندس المعماري والمصمم والفنان فثقافتهم كانت تجمع كافة هذه التخصصات في آن واحد.

وهكذا نجد أن مروحة أعمال أبولودوروس قد انتقلت من بناء محفل تراجان (الفوروم) وسوق تراجان، وصولاً إلى بناء جسر الدانوب العملاق الشهير، ومروراً بإنشاء التحفة المعمارية الفنية الرائعة المعروفة باسم «عامود تراجان» ناهيك عن مشاركات لا تعد ولا تحصى في مشاريع معمارية ومدنية وفنية أخرى.


السوق التراجانية (سوق تراجان)


كلف الإمبراطور تراجان المعماري أبولودوروس إنشاء سوق في روما تحمل اسمه، وذلك نحو عام 108- 109م، وقد اعترضت المهندس مشكلة وجود رابية الكوبريناليس في الجهة الشرقية من الأرض المعدّة للمشروع، إذ إن هذا المرتفع كان يعوق الحركة ويشوه المنظور العام، من جهة، ويتسبب بانهيارات مفاجئة، من جهة ثانية. وقد وفق أبولودوروس إلى حل يحقق الغايتين الجمالية والعملية في وقت واحد، فاقتطع حافة الرابية وأنشأ مكانها سوقاً مجمَّعة ومسقوفة، وفق الأسلوب الشرقي، وجعلها على شكل قوس كبيرة تتدرج عند الرابية بطوابق ستة، تضم نحو 150 دكاناً. وتنفتح دكاكين الطابق الثالث على طريق سُميت «فيابيبيراتيكا» (ما يقابل «البزورية» باللهجة الشامية) وتضم السوق فضلاً عن ذلك مقراً لمتولّيها، وقاعة للاجتماعات والمزاد، وصالة بيع شعبية بأسعار مخفضة، وغير ذلك.

إن سوق التي بناها أبولودوروس، والتي ما تزال ماثلة في روما، حققت في حينها مركزاً تجارياً واجتماعياً كبيراً في أقل مساحة ممكنة، وظلت حلاً معمارياً يستهوي المصممين عبر العصور من حيث البساطة والجمال والفائدة القصوى، كما أنها منعت انهيار أطراف الرابية، فضلاً عن أنها خلقت خلفية بديعة للمجمع المعماري الضخم (الفوروم) الذي أمر تراجان ببنائه.


أسواق تراجان في روما: المبنى الدائري الكبير، الواجهة التي تطل على ميدان تراجان

وتظهر الأبحاث الأثرية التي تجري اليوم في سوق تراجان مدى الروعة التي كان عليها السوق آنذاك. فالجزء السفلي من الأسواق يتكون من بنائين يحملان الشكل الدائري، وقاعتين، ومبنى دائري صغير، ويبدو أن المبنى ذي الشكل الشبه دائري وظيفته احتواء كافة الأبنية السابقة الذكر، فيما كان البناء الصغير يلعب دور حلقة وصل بالفوروم التراجاني، ويؤكد النظام الزخرفي والألوان في القاعتين أنهما كانتا مستخدمتين لتلعبا وظيفتين مختلفتين، وينتهي البناء الأسفل بقاعات عالية مقببة تفتح على الدرج المسمى كامبو كارليو. نجد كذلك قاعات صغيرة ربما استخدمت كحوانيت وأروقة معمدة ونظاماً لتصريف المياه، بالإضافة إلى قاعة كبيرة مقببة بست قبب متداخلة، وما زالت التنقيبات والدراسات مستمرة لمعرفة تفاصيل هذه السوق الواسعة.

المحفل (الميدان، الفوروم) التراجاني (المحفل الإمبراطوري في عهد تراجان)


يتفق المؤرخون على أن منطقة الوادي التي تم عليها بناء المحافل (الفورو) كانت منطقة مستنقعات بادئ الأمر ولم تكن صالحة للسكن، بل ربما استخدمت كمقابر. وتشير التقديرات أن محاولة تبليط هذه المنطقة السهلية الواقعة بين ثلاثة من تلال روما الرئيسية بدأت عام 600 ق. م. ومع نهاية الحرب البونية بين روما وقرطاجة، كانت روما قد أصبحت سيدة العالم القديم والمسيطرة على حوض المتوسط، ومع نهاية النظام الجمهوري الروماني، كانت روما قد أصبحت عاصمة لبلاد ممتدة من فرنسا حتى سورية، وأصبح المحفل القديم (المبني في العهد الجمهوري) غير صالح لإدارة إمبراطورية. وقد بدأ يوليوس قيصر بتشييد مركز معماري جديد بدا أولاً أنه مجرد توسيع للمحفل الجمهوري، إلا أن ذلك كان بداية لتشييد واحدة من روائع المنجزات المعمارية في العصر القديم ألا وهو ما أطلق عليه اسم «المحافل الإمبراطورية Fori Imperiali».

نشأت المحافل الإمبراطورية في أماكن مخصصة ولأهداف معينة تمارس بداخلها كي تمارس بداخلها الأعمال اليومية التي كانت تمارس في فترة النظام الجمهوري الروماني، وهكذا حافظ الأباطرة عند تشييدهم لها على نفس المسقط الهندسي والتقسيمات الداخلية والخارجية التي كانت تتميز بها المحافل الجمهورية.


منظر للمحفل التراجاني وفي الخلفية
يبدو عامود تراجان

لقد كانت ميادين عصر الإمبراطورية تحتل المركز الرئيسي للمدينة، وذلك لأنها كانت تشكل نقطة أساسية للشعب، فهو يقوم فيها بمزاولة أعماله اليومية المدنية منها والسياسية، وقد تم منع عربات النقل من العبور إلى مراكز المحافل، وذلك من خلال بناء حواجز أو أبنية عامة أو أدراج. وهكذا أصبح المحفل مركز حكم الإمبراطورية ومركز قوتها السياسية وتم التخلي عن مراكز الحكم السياسية السابقة التي لم يعد لوجودها معنى. وهكذا فقد انتشر النظام المعماري المستخدم في المحفل الإمبراطوري في كافة أنحاء المدن التي كانت تقع تحت سيطرة الإمبراطورية، بحيث أصبحت تعتبر استمرارية للحكم السياسي والمدني الذي يربط بين مركز الحكم الرئيسي وبين محافظاته.

شرع أبولودوروس في بناء المحفل (الميدان) بُعيد البدء في بناء السوق أو في وقت واحد معه، وقد أنجزه عام 112م فأزرى بكل ما عداه من ميادين في روما وفي العالم: إذ تزيد مساحته على خمسة أضعاف مساحة ميدان الإمبراطور أغسطس. أما من حيث الجمال فهو، كما ورد في تاريخ كمبردج القديم «أعجوبة كل العصور». ومن المحتمل، في رأي بيانكي باندينيللي، أنه استوحاه من الساحة الرحيبة المروَّقة التي كانت تحف بمعبد جوبيتر في دمشق.


تصميم ثلاثي الأبعاد للمحفل التراجاني من الجهة الشمالية

ضم هذا الميدان (المحفل)، والذي يبلغ طوله 300م وعرضه 185م، مساحةً رحيبة، وأواوين، وقوسَ نصر، وعموداً تذكارياً عملاقاً (عامود تراجان)، وتمثالاً فروسياً، وداراً للعدل، ومعبداً، وتفاصيل معمارية وزخرفية رائعة سكبت على أرفع ما يكون من الانسجام والتناسق. وتضافر ذلك كله ليجعل منه مجمَّعاً باهراً سُحر به القدماء وتمنى الملوك نظيره، وعُدّ «واحداً من أروع لآلئ الفن الروماني».

وهكذا عوض المهندس أبولودوروس أثناء تشييده لآخر المحافل الإمبراطورية عن هدفه لمباني الحكم والمباني العامة ببناء أجمل وأضخم بناء عرفه التاريخ القديم. ومع مرور الزمن أصبحت روما من المدن القليلة التي تحتوي على أضخم وأجمل المباني المستخدمة في الحكم والقضاء والتجارة، والأهم من ذلك أنها أصبحت تمتلك أضخم بناء يستخدم لتمثيل الإمبراطورية.


عامود تراجان


طلب الإمبراطور تراجان من أبولودوروس الدمشقي أن يشيد له عموداً يتخذه شاهد قبر له وذكرى للمنشآت البديعة المنفذة في هذا الميدان الرائع، فقادته عبقريته الفذة إلى تصميم عمود لم يسبق له مثيل في تاريخ الفن العالمي، وأتمه في عام 113م. يرى النقاد أن هذا العمود العملاق (طوله 30 متراً) المزين بإفريز حلزوني منحوت يدور حول جذعه، يكاد يكون فلماً تسجيلياً. ولعل أبولودوروس قد استوحى نماذج نحتية من الأوابد الآشورية في بلاده الأصلية. ويروي الإفريز الدائر بالعمود بطول 200م قصة الحربين اللتين خاضهما تراجان في داسية (رومانية) ما بين عامي 101- 106م. وهو يسرد بالنحت أدق تفاصيل الاستعداد للحرب والمعارك والأزياء والأسلحة وأجناس المحاربين ومنهم الرماة التدمريون. يقول ويلر: «إن هذا الشريط هو الأعظم بين إنجازات الفن التاريخي الروماني، وإن العمل يسير فيه متتابعاً من غير تردد، ومن مرحلة إلى أخرى، والنحات يبرهن فيه على تمكن تام وحساسية فائقة». وقد جرى تقليد هذا العمود مرات عدة، ففي عهد الإمبراطور أركاديوس (408م) بُني عمود مماثل في القسطنطينية، وهناك عمود برونزي مشابه في كاتدرائية هيلدسهايم في هانوفر بألمانيا بني سنة 1022م تقليداً له، وتمثل المنحوتات فيه حياة السيد المسيح. وفي فرنسا أقيم عمود فاندوم تخليداً لحملات نابليون، ونقوشه البارزة تقليد للأسلوب المستمر في عمود تراجان.

عامود تراجان

تظهر المقارنة بين أطباق قوس هادريان الذي نقشت عليه منحوتات تمثل مناظر لعمليات التضحية والصيد، والتي تدخل تحت غطاء النظام الزخرفي للإمبراطورية الرومانية تأثر هذا النظام بالنظام الهلنستي الذي عبر عنه عامود تراجان. ويمكن القول أن المقارنة بين مشاهد العامود والقوس سوف تصل بنا إلى نتيجة، خاصة وأن المعلومات التاريخية تؤكد مشاركة هادريان في حرب داسية ويمكن التعرف عليه في منحوتات عامود تراجان. وقد ركز الفنانون الذين قاموا بنحت هذه الرسومات على المناطق الريفية التي مر بها الجيش الروماني كما ركزوا على الجانب المعماري ومسار الأنهار وشكل الأرض لتحديد الفروقات بين هذه المواقع. وتؤدي المقارنة بين المنحوتات التراجانية والهادريانية (نسبة لهادريان) إلى تبني فكرة وجود وحدة في الطراز الفني لا تنبع فقط من النظام الهلنستي، بل من وحدة من قام بهذه الأعمال من ورش وفنانين.

إن بعض المناظر المنحوتة في نهاية عامود تراجان تمثل صفاً من الحيوانات الأليفة تتبختر على الأرض الصخرية بين الأعشاب والأشجار: فهذا المنظر يعني نهاية الحرب الداسية الثانية، أما صورة الخروف الذي يأكل بهدوء تام بعض الأعشاب البارزة من الأرض فهذا يعني رسالة أمل لسلام دائم. من هذه المناظر استقى هادريان منحوتات أطباقه فهو يريد أن يبث رسالة سلام دائم لأمته.


تفصيل من عامود تراجان

يصف الآثاري ف. كواريلي في كتابه «دليل آثار روما» عامود تراجان فيقول: «يعتبر عامود تراجان من أبنية المحفل التراجاني الوحيدة التي وصلت إلينا بحالة معمارية جيدة. لقد تم بناؤه بكتل ضخمة من الرخام اللوني وقد ركز على قاعدة مكعبة الشكل، وتم تمثيل نظام زخرفتها على هذه القاعدة حيث مثلت أيضاً باربعة صقور تحمل شريطاً. إن سطح قاعدة العامود أملس جداً وقد تم تغطيتها بمنحوتات بارزة مثلت الأسلحة التي كان يستخدمها الشعب الداسي خلال حروبه ضد الرومان. أما الجهة المطلة على بازيليكة أولبيا فهي تحتوي على المدخل الرئيسي والذي من خلاله يمكن الدخول إلى غرفة داخلية صغيرة المساحة حيث يقع فيها الدرج اللولبي الذي نحت في نفس الرخام المكون منه العامود وهي تؤدي مباشرة إلى قمته. وهناك لوحة كتابية تقع فوق المدخل الرئيسي مباشرة وهي مكرسة لآلهة النصر. إن مضمون هذه الكتابة هو ما يلي: "من السناتو والشعب الروماني إلى الإمبراطور قيصر نيرفا تراجان ابن الإمبراطور نيرفا الألماني الداسي، الحبر الأعظم والذي ولي نظام القضاء للمرة السابعة عشر ونودي إمبراطوراً للمرة السادسة وقنصلاً للمرة السادسة، ومن ثم أصبح أباً لوطنه". إن الهدف من هذه الكتابة هو تكريس البناء لتراجان، لكن هناك هدفاً آخر هو إثبات الارتفاع الذي كان يصل إليه التل الذي هدم بعد القيام بأعمال شاقة وجبارة».

تم الانتهاء من تشييد العامود عام 133م (اي بعد عام من الاحتفال بافتتاح محفل تراجان). ويعتقد أن تشييده جاء استجابة لثلاثة أمور: 1- تحديد ارتفاع التل الذي هدم من أجل تشييد الساحة التي يقع عليها محفل تراجان 2- رفع تمثال تراجان البرونزي المذهب بحيث يصبح أعلى التماثيل التذكارية الموجودة في روما 3- تكريسه كضريح تكذاري للإمبراطور (يحتوي العامود على 58 مشهداً لتراجان، وفي أحدها يعتقد أن أبولودوروس يظهر معه).


تفصيل من عامود تراجان

إن الأجزاء الأكثر وضوحاً وشهرة في هذا العامود هي المنحوتات التي نحتت على 23 لولبة يبلغ طولها 200 متراً وتقوم بسرد قصة الحروب الداسية التي دارات رحاها في الفترة الواقعة بين عامي 101 و102م والتي تلتها فترة ثانية من الحروب الداسية بين عامي 105 و106م. ولحسن الحظ فقد احتفظت برونقها وسماتها حتى يومنا هذا وتعد من روائع الأعمال الفنية.

وقد بلغ ارتفاع العمود 100 قدم روماني (ما يعادل 29.78 متراً و39.83 مع القاعدة)، وهو القياس الذي كان يستخدم آنذاك في الأبينة التذكارية، وقد تم وضع التمثال البرونزي المذهب لتراجان على قمة هذا العامود ولكنه فقد خلال القرون الوسطى، وتم استبداله في القرن الخامس عشر بتمثال آخر يمثل القديس بييترو وذلك بطلب من البابا سيستو الخامس.

وربما سمح وجود درج لولبي يمكن الوصول من خلاله إلى قمة العامود بالحفاظ عليه، خاصة في العصور الوسطى، حيث يمكن للزائرين الصعود إلى القمة لمشاهدة كنائس روما، لهذا فقد نجا هذا البناء من عمليات الهدم التي كانت تتم في روما للحصول على مواد البناء للأبنية التي كانت تنشا في القرون الوسطى.

إن هذه الأعجوبة المعمارية والروائع الفنية التي نقشت عليها جعلت من العامود مطمحاً لكثير من الطامحين، وما يثبت ذلك المخطوطات التي عثر عليها والتي تظهر عمليات نسخ لمنحوتات العامود تمت في القرن الخامس عشر، وكذلك تاريخ صناعة القوالب تظهر أن أغلب حكام القرن الثامن عشر في أوروبا لم يكونوا راغبين فقط بالتعرف على منحوتات هذا العامود الرائع، بل ربما الاستيلاء عليه كلياً.


حمامات تراجان


يعتبر المؤرخ الروماني كاسيو ديوني أن أهم الأعمال التي قام بها المعماري أبولودوروس إنما هي تلك المتعلقة بتصميم وبناء حمامات تراجان والتي تقع على مرتفع كولي ابيو في مدينة روما، والتي كان يطلق عليها في ذلك الوقت اسم المحافظة الثالثة.

ويمكننا إعادة رسم الخطوط العريضة للمخطط العام لتلك الحمامات معتمدين في ذلك على: 1- بقايا المباني الكبيرة التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا 2- المقارنة بين كل من هذه الحمامات وبين شبيهاتها التي بنيت في فترات سابقة من الإمبراطورية 3- من خلال بقايا الرسم الرخامي للمدينة والذي يعود لفترة سبتيموس سيفيروس ويمثل الجزء الشمالي من الحمامات 4- من خال الرسومات الهندسية التي وصلت إلينا.


حمامات تراجان في روما

تقع هذه الحمامات حالياً داخل ما يسمى بمحمية تراجان على مرتفع كولي أبيو (رابية الأسكويلينوس)، وتم إنشاء المحمية بين عامي 1935 و1936 للحفاظ على هذا التراث العظيم. وقام أبولودوروس بإدخال أفكار معمارية تصميمية جديدة في بناء هذه الحمامات حيث وضع اتجاهها شمال-شرق/جنوب-غرب بشكل مخالف لاتجاه الأبنية السابقة وذلك في محاولة لاستغلال اكبر قدر ممكن من الضوء ودفء أشعة الشمس، فيما تم توجيه مبنى الماء الساخن نحو اتجاه جنوب-غرب. لم تكن تلك الفكرة الجديدة الوحيدة في تصميمات أبولودوروس بل استغل مساحة شاسعة تقدر بستة هكتارات لبناء هذا النوع من الحمامات وهي تعتبر الأولى من نوعها بين حمامات الإمبراطورية، وتم إدخالها في مساحة خضراء شاسعة، إلى جانب استغلال الأبنية التي تعود إلى حقب سابقة كأماكن لقاءات واجتماعات ومطالعة وغيرها من الأعمال الترفيهية.

وهذه الحمامات يقول ليون هومو: «إن الحمامات التي بناها أبولودوروس لتراجان هي التي حددت هيئة الحمامات فيما بعد، إذ أصبح على التصميم أن يلبي حاجتين أساسيتين هما: الاستحمام بأشكاله ومراحله المتعددة من جهة، والترويح والرياضة من جهة ثانية».


ميناء تراجان


يبدو أن طبيعة بناء العاصمة روما على نهر التيبر جعلت منها ميناءً سيئاً للملاحة البحرية ونقل البضائع ولم تسعف بضعة حلول قام بها الأباطرة الرومان بالوصول إلى حل جذري لهذه المشكلة، ويبدو أن آخر المحاولات التي جرت لحل هذه المشكلة كانت على يد الإمبراطور تراجان نفسه، من خلال بنائه لمرفأ أوستيا. لقد استطاع المهندسون المولجون ببناء هذا الميناء من حل إحدى المشكلات التقنية الكبرى وهي مشكلة رسو السفن، وذلك من خلال فكرة هندسية تقو على بناء بحيرة سداسية الأضلاع يبلغ طول كل ضلع منها 357.77 متراً ما جعل مساحتها تقدر بـ 32 هكتار مع طول 2 كلم لكل مرسى، وسمح هذا بدخول أكبر عدد من السفن إلى الميناء دون حدوث مشاكل جدية. وبالنظر إلى حجم الميناء الأصلي والمباني الأخرى التي شيدت من أجل خدمات الميناء يبدو أن بحيرة تراجان هذه كانت تستطيع احتواء 400 سفينة من الحجم الضخم في وقت واحد.

مجسم تصميمي لميناء تراجان في مدينة أوستيا

رغم عدم وجود وثائق تاريخية تتحدث عن من قام بمثل هذا العمل، إلا أن الفترة الزمنية التي تم إنشاؤه فيها والطريقة الفنية التي اتبعت في تحقيق هذا العمل، تدل على أنه ارتبط بتلك الأعمال الهندسية التي قام بها المعماري الشهير أبولودوروس والذي عمل إلى جانب تراجان في جميع الأعمال التي قام بها، بالإضافة غلى أن الحوض المضلع للميناء يشبه من حيث الشكل النماذج الهلنستية – السورية.

فيلا تراجان في أرشينازو رومانو


تنتشر فيلا تراجان الواقعة على مرتفعات أرشينازو رومانو على بعد 60 كم شرق مدينة روما – بما فيها حدائقها – على محاذاة شارع على هضاب جبل ألتوينو الذي يصل ارتفاعه إلى 1271م، عبر سلسلة جبال أفيلاني وعلى الضفة اليسرى من نهر أنيي. ويعتقد أن هذه الفيلا قد شيدت عام 100م تقريباً وتم إكمال بعض الأعمال فيها بعد أكثر من عشر سنوات على بنائها. ورغم كون تراجان غائباً عن روما في تلك الفترة، نظراً لمشاغله السياسية وحروبه، إلا أن قنوات المياه المصنوعة من الرصاص والتقنية المعمارية المستخدمة في بناء هذه الفيلا تعد دليلاً كافياً لإثبات نسبها إلى تراجان. ناهيك عن كتابة ضريحية تعود إلى القرن الثاني في محيط الفيلا، كرست من قبل ابن ليبرتي إلى زوجة تراجان. ناهيك عن الحب الذي كان يكنه تراجان للجبال والصيد فيها وفق ما نقله المؤرخ الروماني بلينيوس الشاب في تأريخه لتراجان.

إن الطراز الهندسي والمعماري للفيلا والبقايا الزخرفية والفسيفساء الزجاجية الملونة، والروحية التي أنشئت فيها بالإضافة إلى الفترة الزمنية تشي بأن مصممها هو الأرجح نفس المعماري الشهير الذي قام ببناء عمارة تراجان.


الجسر العملاق على نهر الدانوب


لم يكن أبولودوروس في الأصل سوى المهندس الحربي للإمبراطور تراجان، وقد رافقه في حربيه في داسية (رومانية حالياً)، وبين الحربين الداسيتين الأولى والثانية (104-105م)، وضع تصاميم هذا الجسر وأنشأه على الدانوب عند مضيق بوابات الحديد قرب مدينة دوبريتي دوريسين الحالية في المجر، مستخدماً جيشاً بتمامه مدة عام كامل تقريباً. وقد وصف أبولودوروس هذا الجسر في دراسة له ذكرها المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس.

اعترضت أعمال بناء الجسر إقامة أساسات وركائز في سرير النهر، إذ كان من الغزارة بحيث لا يمكن تحويله. لكن أبولودوروس، ولأول مرة في التاريخ، تصدى لمثل هذا العمل الذي يتطلب جسارة تقنية عالية، فنجح في إرساء عشرين ركيزة قوية جداً في لجة النهر، ثم مد الجسر بطول 1097 متراً وبعرض يتراوح بين 13 و19 متراً، وكانت فرجة القناطر بين الركائز 35-38 متراً، كما حصّن طرفي الجسر بالأبراج. وقد أزال الإمبراطور هادريان فيما بعد سطح الجسر حتى لا يستخدمه العدو، ثم أصلحه قسطنطين الكبير في العام 328م، ولاتزال بعض آثاره باقية.


منجزات باهرة أخرى


كانت تلك أهم منجزات أبولودوروس إلا أن هذا لا ينفي منجزات رائعة أخرى وصلت أخبارها من هنا وهناك. ومن بين هذه المنجزات قوس النصر في مدينة بنيفانتوم، وقوس النصر في مدينة إنكونا. كما ينسب إليه كذلك إفريز ضخم منحوت كان معداً ليقام في مكان ما من المحفل (الفوروم) التراجاني. ومن منجزاته أيضاً مسرح موسيقي (أوديون) في مونتي جوردانو. أما في مجال السباقات فقد أنشأ أبولودوروس حلبة بطول مرحلتين (أكثر من 300م) إلى الشمال من موقع مدفن هادريان على ضفة نهر التيبر في روما، وكانت مخصصة لتمثيل المعارك البحرية. ومن أعمال أبولودوروس أيضاً الشروع بتشييد المعبد المخصص لتراجان، والذي حدد مكانه في صدر الفوروم التراجاني، وأكمل بناؤه فيما بعد.

أبولودوروس الدمشقي والعمارة الهادريانية


يؤكد المؤرخ الروماني كاسيو ديوني أن نفوذ أبولودوروس في روما وشهرته قد بدأتا بالتراجع مع وفاة تراجان عام 117م. وتوحي المعلومات التاريخية أن علاقة أبولودوروس مع الإمبراطور الجديد هادريان كانت سيئة للغاية، وكان يوجه انتقادات لاذعة إلى تصميمات هادريان المعمارية ما أدى إلى توتر العلاقات بين الرجلين، وصولاً إلى نفي أبولودوروس وقتله.

إلا أنه يمكن للباحثين أن يجدوا بصمات أبولودوروس في الكثير من المشاريع التي قام بها هادريان في فترة حكمه الأولى والتي تم تشييدها في روما ومنها: القوس التذكاري الواقع في وادي الكولوسيوم (كرس فيما بعد لقسطنطين الكبير) بالإضافة إلى مساهمته شبه المؤكدة في مبنى البانثيون وفيلا هادريان.

ففي قوس وادي الكولوسيوم تم الوصول إلى إثباتات تؤكد أن عملية تشييده تمت في فترة هادريان وبمشاركة أبولودوروس الشخصية في أعمال التصميم والبناء ما تؤكده العناصر التالية: عملية تنظيم المنطقة الواقعة بين هضبة فيليا ووادي الكولوسيوم، إلى جانب التشابه في الطراز الفني المستخدم في عملية نحت الأطباق الدائرية التي عثر عليها في القوس وفي منحوتات عامود تراجان.

وفي حالة البانثيون، ورغم أن الشكل الهندسي الشبيه بالباروك الكلاسيكي يتناقض مع أفكار أبولودوروس، إلا أنه يتشابه في نفس الوقت مع بعض الأعمال التي صممت من قبله من سوق ومحفل تراجان الإمبراطوري.


فيلا هادريانا في تيفولي

أما في فيلا هادريان فالعناصر التقنية التي تدل على حضور أبولودوروس تفوق العناصر المعمارية، خاصة في نظام القنوات المائية ونظام السراديب، فهذا النوع من الأعمال لم يكن باستطاعة الجميع القيام به في تلك الفترة، بل إن الشخص الوحيد الذي كانت لديه المقدرة الفنية والتقنية للقيام بها كان أبولودوروس.

قوس هادريان في وادي الكولوسيوم


يمثل هذا القوس التغيرات التي حصلت عليه في فترة الإمبراطورية المتأخرة (أي في عهد قسطنطين). فقد قام هادريان بتشييد هذا القوس في واحدة من أهم مناطق روما، فهو يقع فوق شارع تريومفاليس وفي بداية شارع ساكرا والذي يقع على مرتفعات تشيلو ومرتفع بالاتينو، ومن هذا المكان تم تقسيم مدينة روما إلى مقاطعات بأمر من الإمبراطور أغسطس.

الواجهة الجنوبية لقوس وادي الكولوسيوم

وهو قوس ذو ثلاثة فتحات بني بألواح مربعة من الرخام على قاعدة غير عميقة وذلك لأن النظام المعماري كان نظاماً زخرفياً أكثر من أن يكون معمارياً فقد تم لصق العناصر المعمارية عليه. ثم أعيد بناء شرفة القوس بالكامل في القرن الرابع الميلادي حيث حدث تغيير في التقنية المعمارية التي كانت مستخدمة من قبل. وقد كان هادريان يفضل النظام الزخرفي البسيط الذي يطبق على مساحة صغيرة وغير معقدة، وهذا ما نشاهده في زخرفة هذا القوس، فبقيت القباب والرفوف على وضعها الأصلي دون أي تعديلات في القرن الرابع.

أدى اختيار وادي الكولوسيوم لتشييد هذا القوس إلى إعطاء أهمية لساحة الكولوسيوم بمجملها، وقد تم نقل تمثال نيرون هيليوس الضخم من مرتفع إلى أمام مسرح الكولوسيوم وتم توجيه القوس باتجاه النواة المعمارية لهذه الساحة التي اكتسبت أهمية مضاعفة. ومن المعروف تاريخياً أن أبولودوروس الدمشقي هو من أشرف على عملية نقل تمثال نيرون شخصياً، وهو تمثال مصنوع من مادة البرونز يصل ارتفاعه إلى 35 متراً، وهي عملية صعبة بالمقاييس الحالية. كما تدل الزخرفة على الأقواس والشبيهة بأعمال عامود تراجان أن النحاتين والحرفيين والمهندسين الذين عملوا في العامود هم أنفسهم من أنجزوا هذه الأقواس.


أبولودوروس والبانثيون


تم تشييد بناء البانثيون (مجمع الأرباب) لأول مرة عام 27 ق.م. من قبل فيبسانيو أغريبا (63ق.م-12ق.م). واختير موقعه في محفل مارسيو (الذي يكان يقيم فيه الجيش الروماني)، وهو موقع ارتبط بأسطورة بناء روما. وتوجد على واجهة البانثيون كتابة تذكارية تؤرخ بناء معبد أقدم منه، هو المذكور سابقاً. وقد استخدم المعبد لإقامة الشعائر والطقوس الدينية وقد تم توجيهه باتجاه شمال – جنوب. اكتملت عملية بناء المعبد في عام 25 ق.م. إلا أنه أصيب بصاعقة ما أدى إلى إلحاق أضرار جسيمة به، وفي عام 80م تعرض لحريق أدى إلى تهدمه بشكل كامل فأعيد بناؤه على يد الإمبراطور دوميتيان، لكنه أصيب بحريق نتيجة الصاعقة التي ضربته في عام 110م خلال فترة حكم تراجان. وقد أعيد بناء البانثيون من جديد وكرس نهائياً في عهد هادريان ويعتقد أن بناءه استمر في الفترة بين عامي 120-124م. وأعيد ترميمه لاحقاً في عهد سبتيموس سيفيروس عام 202م وكاراكلا خلال فترة حكمه.

مبنى البانثيون في روما

إن معبد البانثيون هو أهم المعابد الرومانية المستديرة الباقية، وأكثر المباني الدينية الرومانية روعة في كثير من الوجوه، وهو يتألف من جسم مستدير قطره 43.80م مكون من جدار من الكونكريت المصفّح بالآجر سماكته ستة أمتار تقريباً. وتعلو جسم المعبد قبة رحيبة بلا رقبة ارتفاعها 83م وقطرها مثله، وهي أكبر القباب في العالم القديم. وللقبة في ذروتها فتحة مستديرة قطرها 8.5م. ولمدخل البانثيون 16 عموداً باسقاً وجبهة مثلثة. وعند هذا المدخل يداخل المرء شيء من الثقل، لكن ما إن يصل إلى الداخل حتى يحس بالرحابة والامتداد، والنور يتدفق من القمة فيجعل كل شيء مجسماً.

إن الدراسات العلمية الحديثة تشير إلى أن جزءاً من عملية بناء البانثيون قد تمت قبل عام 118م، أي في عهد تراجان، ويشير الباحثون أن تقييم ما يحتاجه هذا المشروع الضخم من وقت لتصميم البناء وتشييد أساساته وحل كافة مشكلات التصميم والتشييد، فإنه من المرجح أن تكون عمليات البدء بتشييد البناء قد انطلقت بعد حصول نكبة عام 110م مباشرة، ومن المرجح أن بناء المنطقة العليا من الجدران قد تم قبل عام 118م، أما عملية تسقيفه بالقبة فقد تم بالفترة الواقعة بين عامي 123م و125م. وهنا تحضر صورة المصمم والمهندس والمعماري الكبير أبولودوروس كمحتكر لتصميم أبنية تراجان الضخمة، ويصبح من الصعب عدم التفكير في كونه المصمم الحقيقي لهذا البناء. ويصب في صالح هذا التفسير نقطتان رئيسيتان: الأولى، أن من أشرف على إنجاز هذه العمارة هو مهندس قدير لا بد أن يكون ذائع الصيت في ذلك الزمن، فإن لم يكن أبولودوروس فمن هو؟؟ والثانية هي التشابه الكبير الموجود في حالتي البانثيون والمحفل التراجاني، والتي تشير إلى المصمم والمنفذ واحد، هو على ما يبدو أبولودوروس الدمشقي، بأسلوبه الذي يشير وولف ديتر هايلماير (العالم الألماني) أنه يمزج بين العظمة والبساطة والوضوح، وهو أسلوب يعتمد على العناصر الأفقية والعمودية وزخارف معمارية تنزع إلى أشكال عهد أوغسطس وكلها أشياء تبدو واضحة المعالم في البانثيون.


أبولودوروس وهادريان واختلاف الفلسفة المعمارية


يثور جدل بين الأثريين والمؤرخين حول التنافس الذي كان سائداً بين كل من المعماري أبولودوروس والإمبراطور هارديان، ففيما كان أبولودوروس من أنصار التفكير الكلاسيكي في الفن والعمارة، يسود الاعتقاد أن هارديان كان من الرافضين لمثل هذا التفكير، وينقل المؤرخ كاسيو ديوني حواراً يظهر الخلاف بين الرجلين حول ما يعرف بالقباب الشمسية، أو القباب «القرعية»، حيث يسخر أبولودوروس من هادريان قائلاً له: «اذهب لرسم قرعاتك، فأنت لا تفهم شيئاً من هذه المشاكل»، تلك كانت إجابة أبولودوروس عندما استشاره هادريان في رسومات قام بها لمعبد الحورية في روما.

مبنى البانثيون في روما

إن هذا النقاش وغيره مما لا نعرف، ولد اختلافاً شديداً في الرأي وطرق التصميم المعماري بين أبولودوروس من جهة، وهادريان ومهندسيه من جهة أخرى (مثل ديكريانوا الذي لم يكن مصمماً أو معمارياً إنما مهندساً تقنياً ناجحاً في حل بعض المشاكل الفنية المعقدة مثل نظام الري في الفيلا أو غيرها).

الحقيقة أن لا دليل على أن هادريان قد أعدم أبولودوروس، فهذا الخبر يعود إلى الفترة البيزنطية نقلاً عن جوفاني أكسفيلينو (ومصادره غير مثبتة)، إلا أن الخلاف على ما يبدو قد تصاعد بين الرجلين في فترة بناء قبة البانثيون، وربما يفسر هذا إنجازها على شكل مخالف لفلسفة أبولودوروس في هذا المجال.



خاتمة


تبقى شخصية هذا العبقري مثار جدل وحوار، جدل حول حياته وتفاصيلها التي تحتاج المزيد من إلقاء الضوء – وهو أقل حقه علينا – وحوار حول إبداعاته التي أسهمت في إعمار أهم ما بقي من روما سيدة العالم طوال ألف سنة، وهي الإسهامات التي ينظر إليها العالم اليوم بمزيج من الانبهار والمتعة والتعجب. إن الدور الذي لعبه هذا المشرقي المبدع في قلب روما عاصمة الغرب المتحضر آنذاك، ليدل على مدى عمق الجدل التاريخي بين جناحي الحضارة الإنسانية، جدل لا يمكن لها أن تستمر بدونه.

المراجع


1- كتاب عن ندوة «بين دمشق وروما: عمارة أبوللودور في الثقافة الكلاسيكية»، برعاية صاحبي الفخامة رئيسي الجمهورية العربية السورية والجمهورية الإيطالية، وبالاشتراك مع: وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية- المديرية العامة للآثار والمتاحف- وزارة الشؤون الخارجية بالجمهورية الإيطالية، السفارة الإيطالية في دمشق- المعهد الثقافي الإيطالي، جامعة روما الثالثة للدراسات، بإشراف: فيوريلا فييستا فارينا، جوليانا كالكاني، كوستانتينو ميوتشي، ماريا ليتيتسيا كونفورتو، عمرو العظم، بين 20 كانون الأول 2001 – 20 كانون الثاني 2002 في خان أسعد باشا بدمشق، نشر: دار ليرما، بقلم عدنان البني ومجموعة من العلماء الإيطاليين، ترجمة: مهدي النمر، وخليل عبد الهادي.
2- الموسوعة العربية، المجلد الأول، أبولودوروس الدمشقي، تأليف: عدنان البني.