برودة المجتمع “ تصفع” خريف عمرهم الواجم … المسنون وجهاً لوجه مع الوحدة القاتلة .. لوعات الحرمان تستعر في مساحات التحييد..؟!

برودة المجتمع “ تصفع” خريف عمرهم الواجم … المسنون وجهاً لوجه مع الوحدة القاتلة .. لوعات الحرمان تستعر في مساحات التحييد..؟!

أخبار سورية

الجمعة، ٢٣ ديسمبر ٢٠١٦

لم تعد ليالي الشتاء مؤنسة كما كانت، بل بدّلت أثوابها في خريف العمر إلى مزيد من البرد والوحدة والكآبة، فبعدما كانت حسناء تتغنّى بحياتها الدافئة في منزلها الذي كان يضج بالحياة بوجود أبنائها وزوجها، تخبرنا اليوم بمزيد من الأسى عن وحدتها الصعبة بعد استشهاد ابنها، ووفاة زوجها، وزواج أبنائها البقية، وسفرهم خارج الوطن لتمضي لياليها، بلا مؤنس أو رفيق.. حسناء السيدة الخمسينية تعيش وحيدة في منزلها كما حياتها، تتجرع الحزن والوحدة، وتنظر إلى أيامها بسوداوية قاتلة، وكأنها تتمنى النهاية، فلا معيل أو ابن عطوف، يسأل عن حال والدته، لتواجه مصاعب الحياة ببعض إعانات شهرية تصلها عن طريق إحدى المنظمات التي تسد حاجتها المادية، بينما تبقى روحها تتصدع ما بين موجات الحنين حيناً لماضي أسرتها الدافئ. واقع مؤلم تتجرع قسوته بالإهمال والفقر والحاجة إلى التعاطف، وحال حسناء كحال الكثيرات ممن أصبحن وحيدات بعد حياة عارمة بالحب والأسرة والأبناء، ليجدن أنفسهن في مواجهة الحياة وحيدات عاجزات عن مجابهة متطلباتها وبما فيها من صعوبات مادية مستجدة خاصة في ظل الأزمة، وما يلازمها من أمراض تشتد وطأتها عند الشيخوخة لافتقادهن القدرة على تغيير ظروفهن أو نمط حياتهن، وعجزهن عن الاندماج في المجتمع بعد غياب الأبناء بالموت أو السفر للهروب من الأزمة، فهل نستطيع تغيير واقعهن، ومد يد العون إليهن عبر برامج، أو أماكن تحفظ كرامتهن في خريف العمر، أم نتركهن يصارعن قدرهن بعدما أفنين حياتهن في سبيلنا، وذابت شمعة عمرهن لإنارة مستقبل عمرنا؟.

الافتقاد إلى العائلة
بعد سفر ابنها الوحيد إلى أوروبا بهدف الدراسة ووفاة زوجها، أم سعيد تعاني من الحالة نفسها، حيث لم تعد قادرة على تأمين مستلزمات حياتها إضافة إلى وضعها الصحي الذي يمنعها من المشي والعمل، فتحدثنا عن وضعها، وهي تشيح بنظرها كي لا نرى دموع القهر، ولكنها لا تنفي المساعدات التي تقدّم لها من إحدى الجمعيات الأهلية القريبة من مسكنها، والتي اهتمت بوضعها الصحي، وساهمت في دفع بعض تكاليف أدويتها، لكنها تفقد بحسرة إلى جو العائلة، وتشكو وحدتها معظم الأوقات، وتحزن لجفاء ابنها وقسوة قلبه، في حين أفنت عمرها في سبيل تربيته وتعليمه، بالرغم من لطف جيرانها، “كما تقول”، الذين يسألون بشكل دائم عنها وعما تحتاجه، ولكنها تقول بحسرة: إنها تشعر بنفسها، وكأنها عبء كبير يضاف إلى أعبائهم ومسؤوليتاهم، لذلك تخفي في الكثير من المرات احتياجاتها، وتكتفي بشكرهم، مرددة جملة ” كثر خيرهم بيكفي عم يسألوا عني، وابني ما بيسأل”.

البداية من التربية
لو أردنا استعراض الحالات، لوجدنا الكثير من القصص التي تهز الوجدان وتؤلم الضمير لأمهات كُسرت سارية شراعهن في الحياة بموت المعيل وهجران الأبناء، فلم يبق ما يواجهن به مسيرة الحياة ووحدتهن المريرة، فهل تغيّرت القيم والمبادئ التي تربينا عليها في بر الوالدين، أم أن الحياة فرضت نمطاً جديداً من العلاقات الاجتماعية والأسرية؟.. هذا ما حذّرنا منه الدكتور الشيخ محمد خير المهدي من اتسام العلاقات الإنسانية بالجمود والجفاء، وسيطرة الاهتمام بالذات، وتفضيلها على حساب العائلة والمسؤوليات تجاهها، لينتج عنها إهمال الأبناء لوالديهم، والتخلي عن الواجبات الإنسانية والمادية تجاههم، فسيطرة الأنماط الغريبة في التربية وفي حياتنا، فصلتنا عن قيمنا ومبادئنا التي تُميزنا عنهم، والابتعاد عما أوصت به الأديان وهو بر الوالدين، بالإضافة إلى أولوية البر بالأم والعناية بها استناداً إلى حديث النبي محمد (ص)، حيث قال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟، قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أبوك)، لما له من دلاله واضحة على وجوب الاهتمام بالأم، وتقديم المساعدة والعون لها في حياتها، وقد أكد على أهمية تكريس مفاهيم ومبادئ إنسانية في التربية منذ الصغر، كالمحبة والاهتمام بكبار السن، كي ينشأ الأبناء على تحمّل المسؤولية تجاه أهاليهم، وعدم تفضيل حياتهم الشخصية وأهدافهم ورعاية المسنين في عوائلهم، ليكونوا السند لأهلهم في الكبر ويردوا الجميل، ويقوهم شر الحاجة إلى الآخرين.

روابط اجتماعية
ومن ناحية اجتماعية أكدت جميع الدراسات أن الإنسان بطبعه اجتماعي ولديه ميل فطري ومكتسب للتفاعل الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية، ولا يستطيع العيش بمفرده، ولذلك بيّن الدكتور طلال مصطفى ” علم اجتماع”  خطورة آثار العزلة النفسية والاجتماعية على الفرد بشكل عام، وعلينا نحن العرب بشكل خاص، باعتبارنا نعيش بمجتمع شرقي يتمتع بروابط اجتماعية متينة، وتحتل حيزاً مهماً من حياتنا بعكس الشعوب الأوروبية، واختلال هذه العلاقات أو انعدامها تؤدي إلى انعكاسات نفسية واجتماعية على صحة الفرد، فيكون أقلها الملل والضجر، وأخطرها الاكتئاب، وما يرافقه من أمراض الشيخوخة، ويشير د. مصطفى إلى تسبب الأزمة بمضاعفة أعداد المسنين الذين يقيمون لوحدهم، نتيجة فقدان عائلاتهم بالموت، أو السفر وضرورة إيجاد حلول تناسبهم، وتحميهم من  آثار العزلة السلبية، وحسب رأي د. مصطفى أن دور المسنين، قد شكلت أفضل الحلول، لكنها لا تحبذ اجتماعياً، فقد كرست الصورة النمطية لمن تخلى عنهم أبناؤهم وأبعدوهم قسراً عن بيئتهم، فبقي توجّه المسنين إليها محدوداً، مع ضرورة ذكر أن دور المسنين تتطلب مبالغ يعجز عنها الكثيرون، فأبوابها موصدة أمام الفقراء، لذلك رأى د.مصطفى أن دار الكرامة الحكومية هو حل مثالي، يقدّم خدماته  الطبية والاجتماعية مجاناً، لمن ليس لديه أبناء ولا دخل، لذلك نناشد الجهات المختصة على أن يكون هناك أكثر من دار للمسنين في المحافظة ليتسنى لهم استيعاب أعداد تتزايد بفعل الأزمة ونكران الأبناء لأهالهم.

إعادة الحياة لهم
ومن ناحية أخرى قد يكون المسن داخل العائلة، ولكنه يعاني الوحدة والإهمال، وربما الاكتئاب لبقائه وحيداً في المنزل نتيجة أوقات العمل الطويلة لأبنائهم، وغياب الأحفاد في المدارس مثلاً، فاقترح د. مصطفى أن تكون هناك نوادٍ اجتماعية مجهزة ببنية تحتية تناسب المسنين لمن تساعدهم الظروف المادية ” بتكاليف بسيطة” لقضاء وقت من اليوم لحين عودة الأبناء من عملهم، وتعمل على تفعيل حياة المسنين سواء بالمطالعة أو الرياضة المناسبة، وحيث يعمل النادي على إتاحة المجال لإقامة علاقات الصداقة للمسن من أبناء جيله، يقضي بها على شعور العزلة والوحدة، كما أشار أيضاً إلى عادة أصبحت مألوفة في مجتمعاتنا نوعاً ما، كتربية الحيوانات الأليفة، فيؤكد د. مصطفى إلى أهمية وجودها بحسب وجهة نظر علم الاجتماع الذي يعتبرها كوسيلة تعويضية على الصعيد النفسي للمسنين خاصة، فوجودها قد يملأ الفراغ الاجتماعي، ويقلل من حالات الاكتئاب، ويعوض على المسن الفقد والحرمان.

وأخيراً..
وانطلاقاً من تزايد أعداد المسنين المهملين، وخاصة منهم النساء الذين لا حول لهم ولا قوة،  وجبت ضرورة معالجة هذه الظاهرة الغريبة عن مجتمعنا، بدءاً من الجهات الرسمية والمجتمع الأهلي، والعمل على إيجاد حلول تتناسب مع جميع الفئات العمرية وأوضاعهم الحياتية، واقتراح إنشاء جمعيات تتولى الرعاية الصحية والنفسية والنفقات المادية، لنستطيع حمايتهم من مذلات خريف العمر، والمحافظة على تقاليدنا ومبادئنا العريقة في بر الوالدين، وتعميق الروابط الاجتماعية والإنسانية التي أوصت بها جميع الأديان السماوية، فهل نستطيع؟.
فاتن شنان