الاستدراك العلاجي لم يعد ترفاَ.. مرضى التوحد.. عزلة اجتماعية ونمو مضطرب .. وقلة في المراكز والكوادر المختصة

الاستدراك العلاجي لم يعد ترفاَ.. مرضى التوحد.. عزلة اجتماعية ونمو مضطرب .. وقلة في المراكز والكوادر المختصة

أخبار سورية

الخميس، ٥ يناير ٢٠١٧

في ساحة واحدة يلعبون كالملائكة، يلهون، ويركضون.. وللنظرة الأولى إلى وجوههم المليئة بالحب، وملامحهم الطفولية البريئة، تظن أنهم أطفال طبيعيون أشقياء، مجتمعون في ساحة مدرستهم، حالمون بذلك المستقبل الذي يحاولون استكشافه بطريقتهم الخاصة .. في  النظرة الثانية يكتشف المتابع  حقيقة ما يجري،  فلكل منهم عالمه شبه الخاص، حيث  ينفرد بلعبته، ويتجاهل وجود الآخر، ووجود أي مضمون.. فهم غارقون بعالم يكاد أن يكون خاصاً بهم، وسلوكيات تميزهم، وتفصلهم عن أي تواصل مع ما يحيطون، هذه المشاهد التي ترصدها العين، ليست إلّا يوميات لأطفال  في المراكز المختصة بذوي الاحتياجات الخاصة من مضطربي التوحد الذين يعزلون أنفسهم عن ضجيج الحياة، وينشغلون، ويشغلون من حولهم بسلوكيات وتصرفات غامضة من حيث الأسباب والنتائج.
اضطرابات سلوكية
طيف التوحد، أو ما يُعرف حديثاً باضطراب طيف التوحد، هو مجموعة من الاضطرابات النمائية العصبية والتي تسبب مشكلات عدة في المهارات الاجتماعية والتواصلية والعاطفية المصحوبة بظهور أنماط سلوكية غريبة، يُعد من الاضطرابات التي تشكل تحدياً كبيراً في المجتمع الطبي، حيث إن السبب الرئيسي لهذا الاضطراب غير معروف حتى الآن رغم ما وصلنا إليه من تطورات علمية على المستوى الطبي، كما ذكر الاختصاصي التربوي زاهر العز الدين، أنه يوجد الكثير من الفرضيات التي حاولت تفسير السبب الرئيسي لهذا الاضطراب، كـ “فرضية الأم الثلاجة، وفرضية المس الشيطاني، وفرضية الرصاص والزئبق”، ولكن معظم هذه الفرضيات غير مثبتة علمياً، ولا يمكن تعميمها، كما أن من الممكن للوراثة وزواج الأقارب أن يلعب دوراً مهماً، لكنه أيضاً ليس سبباً أساسياً للإصابة بالتوحد، ولذلك أطلق عليه اسم ” الاضطراب الغامض، “كما يُعتبر التأثير الأساسي لهذا الاضطراب هو التأثير على نمو المخ، ما يترك انعكاساً سلبياً على الحياة الاجتماعية، وتطور مهارات التواصل عند الطفل المصاب، كما أضاف العز الدين: إن من مؤشرات هذا الاضطراب: (وجود ضعف في التواصل البصري والتفاعل الاجتماعي عند الطفل التوحدي، حيث إنه يفضل البقاء واللعب لوحده، وعدم استجابته للتعليمات، وعدم التفاته عند مناداته باسمه، وغالباً يكون لعبه غير وظيفي، ويظهر اهتمامات غريبة كالتعلق بالخيط أو المفتاح، إضافة إلى تكرار بعض الحركات النمطية  كـهز الجسم – والرفرفة باليدين، وغالباً هو غير مدرك للخطر، وينزعج من الأصوات العالية، ولا يقبل التغيير في الزمان أو المكان، ولديه قدرة على تحمّل الألم بدرجة أكبر من الطفل الطبيعي)، وغيرها من الأعراض الهامة التي تنعكس سلباً على كامل الأسرة، لكن هذه المؤشرات تختلف بالظهور من طفل مصاب لآخر، فهناك أطفال تكون سمات التوحد منذ لحظة ولادتهم ظاهرة بقوة، وهناك أطفال ينمون نمواً طبيعاً، لكن من عمر السنة إلى السنتين، يفقدون التواصل البصري والتطور اللغوي المكتسب، وتبدأ سمات التوحد لديهم بالظهور، مضيفاً: إنه إلى الآن لا يوجد أي علاج للتوحد، لذلك يسمى “بالاضطراب” وليس “المرض”، كما هو منتشر، وأن المساعدة الوحيدة الذي تقدّم لمصابي التوحد تكون بالكشف المبكر عن وجود الاضطراب من قبل الأهل، والمسارعة باللجوء إلى المراكز المختصة المعنية بالتشخيص، وإعادة التأهيل، وتقديم التدخلات السلوكية والمعرفية والخطابية لإكساب الأطفال المصابين مهارات اجتماعية تفيدهم في التواصل مع العالم المحيط، إضافة إلى مهارات الرعاية الذاتية بهدف تقليل حالات العجز المرتبطة بالتوحد وتقليل ضيق الأسرة، كما يتم التدخل تعليمياً لتعزيز الأداء الفكري للأطفال المصابين، لكن للأسف إلى اليوم نسبة الوعي بأهمية إلحاق أطفال التوحد بهذه المراكز ما تزال قليلة نسبياً ويرجع السبب إلى الخوف المجتمعي والعادات البالية المنتشرة بكثرة.
قليل الكلام والتفاعل
هدى (أم محمد) هي واحدة من الأمهات التي قابلناها في أحد المراكز المعنية بأطفال التوحد، تقول، في البداية شعرت أن طفلي الذي تجاوز السنتين قليل الكلام والتفاعل مع ما يحيط به، كنت أرجع السبب إلى أن أخاه أيضاً تأخر في النطق، واستمر الحال حتى عمر الثلاث سنوات حينها عرضت طفلي على طبيب أطفال، فصارحني بأن لديه شكوكاً حول إصابة طفلي بالتوحد وطلب مني زيارة طبيب مختص لكني سرعان ما غضبت ورفضت الاعتراف وألحقت السبب هذه المرة بقلة خبرة الطبيب، في السنة الرابعة استمر الوضع على حاله فقررت عرض طفلي على مختص، حيث تم تشخيص حالة طفلي بالتوحد، ورغم هروبي المتكرر من الواقع قمت بإلحاق طفلي بأحد المراكز المختصة الذي بدأ بعملية تأهيله، اليوم عمر ابني سبع سنوات أصبح يتفاعل معنا ويلعب مع أخيه ويحفظ الحروف والأرقام ويعطيني قبلة حُرمت منها لسنين بسبب رفضي للواقع.
غير موجودة
لاتوجد إحصائيات دقيقة تشمل عدد أطفال التوحد حتى اليوم، حيث أرجعت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل السبب إلى عدم تصريح الأهل عن وجود حالات مصابة في الأسرة، وذلك على الرغم من وجود دراسات أميركية جديدة تثبت ارتفاع نسبة المصابين باضطراب التوحد بشكل مخيف خلال الخمس سنوات الماضية عالمياً، حيث وصلت النسبة الى 1/68 أي من بين كل 68 طفلاً يوجد طفل واحد مصاب بالتوحد، كما ذكر الدكتور الأخصائي في الطب النفسي ومعالجة الاضطرابات، تيسير حسون، أنه من الممكن أن يرجع السبب في هذه الزيادة لعوامل عديدة منها منح مضطربي التوحد أهمية كبيرة عالمياً، إضافة إلى رفع كفاءة المختصين المعنيين وبالتالي تطور آليات التشخيص، مشيراً إلى أن الأزمة كانت سبباً رئيسياً لافتقارنا اليوم للعديد من المختصين المؤهلين لتشخيص التوحد، علماً أن المراكز المعنية بهذا الاضطراب قليلة جداً، ما يسبب ازدحام وبقاء الكثير من الأطفال المصابين على لائحة الانتظار لشهور، كما أوضح حسون أن فكرة دمج أطفال التوحد بالمدارس الخاصة هي فكرة رائعة تصون للطفل التوحدي حقه بالتعليم والتفاعل مع الآخرين، كما كانت إحدى أهم توصيات منظمة الصحة العالمية والتي بدأت وزارة التربية بالعمل بها، لكن تبقى مشكلة عدم جهوزية المدارس وقلة إمكانية المعلمات عائقاً كبيراً ينعكس سلباً على الطفل، فالدمج يحتاج إلى بيئة جاهزة تتجلى بمراعاة قدرات الطفل التوحدي، ولكن غالباً ما يحصل اليوم هو عدم وجود البيئة الداعمة التي تؤدي إلى انعزال الطفل أكثر وتعرضه أحياناً إلى الإهمال أو الإهانة من قبل المعلمة غير المؤهلة للتعامل مع الطفل التوحدي.
لتبقى آمال هؤلاء الأطفال معلقة على عاتق كل من يستطيع تسليط الضوء على مشكلتهم التي يمكن الحد منها بزيادة عدد المراكز المختصة وتأهيل كوادر جديدة والقيام بحملات توعية تساعد الأهل على تقبل وضع أبنائهم وكيفية التعامل معهم ومساعدتهم، ليتخلص هؤلاء الملائكة من نظرة المجتمع الدونية التي تحرمهم من حقوقهم في التعلم والتأهيل واستمرار الحياة.