فوات فرص وضياعات تنموية لا تقدَّر بثمن.. الحرف اليدوية.. هجرة مستمرة للأيدي الماهرة وضياع في الهوية التراثية

فوات فرص وضياعات تنموية لا تقدَّر بثمن.. الحرف اليدوية.. هجرة مستمرة للأيدي الماهرة وضياع في الهوية التراثية

أخبار سورية

الخميس، ١٩ يناير ٢٠١٧

بيدين متشققتين ووجه رسمت عليه أربع وستون سنة لوحة تحكي تاريخ هذه الحرفة في ملامح نجار ورثها أباً عن جدّ… جلس أبو فراس في محل استأجره بعد أن دمر الإرهاب ورشته الكبيرة، يصمم أروع الأثاثات المنزلية، يقول أبو فراس “لم أفن عمري خلف مقاعد الدراسة، بل خلف يدي والدي وجدي أتعلم الحرفة على أصولها، وعلى الرغم من أنني لم أرتد مقاعد الدراسة يوماً إلا أنني كنت أبتكر وأطلع على كل ما هو جديد بشكل مستمر، حتى وصلت قبل الأزمة إلى تطوير التصاميم وأواكب آخر ما تبوح به النظم الإعلامية من برامج مستحدثة في ورشة النجارة التي كنت أملكها، لكن اليوم وبعد أن طحنتها الحرب اكتفيت بتصميم ما يطلبه الناس دون تفنن أو إضافات ثقيلة، نظراً لسوء حال المعيشة وعدم قدرتهم على دفع مبالغ كبيرة مقابل تصاميم ثقيلة، إضافة إلى قلة المواد الأولية للحرفة هذه بعد أن كانت بلدنا تعج بها.
ومع تثاقل سنوات الأزمة على كل مفصل من مفاصل بلدنا، بدأت الحرف اليدوية تتلاشى شيئاً فشيئاً، إذ لم تعد أسواق دمشق القديمة وأريافها تعج بها كالسابق، بعد أن أغلقت معظم الورش والمحال أبوابها معلنة الهجرة إلى بلد آخر لتنتقل هذه الحرف المعهودة في بلدنا إلى بلد آخر، وبعد أن تعرض القسم الآخر من هذه المحال إلى الدمار والتخريب، بقي الحرفي رهينة أي عمل آخر يسد رمق العيش…
انحسار للحرف
لا شك أن الحرف اليدوية التقليدية باتت تشهد انحساراً وضموراً كبيرين إذ يتجاوز الضرر الذي أصاب الحرف اليدوية في سورية نسبة 80% نتيجة الأزمة التي نمر بها والتي تسببت في هجرة الكثيرين، ومن بينهم الحرفيون بعد خسارة ورشهم وغلاء مستلزمات الإنتاج، وعدم وجود أسواق لتصريف مشغولاتهم وغياب السياحة التي كانت المصدر لأول لتصريف منتجاتهم، ففي مشغل صغير للمنتجات الخشبية في حارة دمشقية قديمة يعمل ستة عمال وجميعهم يتجاوزون الخمسين سنة يعملون بدخل ضئيل، بسبب الانقطاع الكبير للكهرباء والذي يعيق العمل ويحد من كمية الإنتاج، ولم يكن حال صناعي الغرابيل والنحاسيات أفضل، فالإقبال حسب كلامهم قليل جداً بسبب غياب السياحة أولاً حيث كان السياح يقبلون على شراء منتجاتنا كتذكارات، إضافة إلى لانخفاض الكبير في اليد العاملة التي تمتلك الخبرة في العمل والتي احتاج الحرفي إلى سنوات كثيرة لاكتساب تلك المهارات، ويأتي ذلك الانخفاض أيضاً بسبب هجرتها إلى الخارج طمعهاً بارتفاع أجورهم هناك في ظل عدم القدرة على تأمين تلك الأجور هنا اليوم بسبب انعدام وجود أسواق لتصريف المنتجات الحرفية، ولا ننسى أيضاً موجة الغلاء والظروف الاقتصادية الصعبة التي تجتاح البلاد التي جعلت من المواد الأولية التي تحتاجها تلك الحرف صعبة التأمين، وعبّر العديد من الحرفيين في عدة قطاعات عن تذمرهم من النقص الواضح في اليد العاملة المختصة، كما لم يخفوا تخوفهم من إمكانية اضمحلال بعض الحرف وانقراض أخرى ضاربة في القدم، والتي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم.

خوف خارجي
كانت دمشق ومازالت أرض الحضارات وأكثرها عراقة وتميزاً، وأثبتت هويتها ورقيها في جميع المجالات، ومن هنا جاء خوف دول العالم على الإرث الحضاري والتاريخي في بلدنا، حيث أقامت المنظمة الدولية للثقافة والعلوم العام الماضي الملتقى الدولي لحماية التراث الثقافي السوري اللامادي المهدد بالضياع كمهن حرفية يدوية انطلاقاً من أن هناك الكثير من أسواق المهن اليدوية احترقت وأصحابها تركوا البلاد بحثاً عن لقمة الخبز، بالتالي من المحتمل أن نخسر الكثير من المهن والحرف، لذا جاء الحرص الدولي لحماية هذا الإرث ومساعدة الحرفيين ما أمكن، من خلال إعادة تنشيط الحرف وحمايتها، في المقابل ما زلنا ومنذ بدء الأزمة وحتى اليوم نسمع جعجعة من جمعية الحرفيين ووزارة السياحة بإحداث مجلس أعلى للحرف التقليدية، لحل مشاكل الحرفيين، والدعم بالمواد الأولية، ومنحهم المحال لممارسة حرفتهم، وإقامة أسواق جديدة، وتأسيس قاعدة بيانات للصناعات الحرفية وتوثيقها، دون أن نرى شيئاً ملموساً على أرض الواقع، ليبقى خوف وحرص المنظمات الدولية على إرثنا وحرفنا أكبر من خوف هذه الوزارة والجمعية.
جهود مستمرة
القطاع الحرفي يدخل في صلب العملية الاقتصادية، حيث كانت  تبلغ مساهمته بالناتج المحلي إلى حدود 60٪ نظراً لانتشار الحرف على كامل مساحة سورية ووجود آلاف المشتغلين في الورشات، حسب ما ذكره رئيس الاتحاد العام للحرفيين ياسين السيد حسن، فاتحاد الحرفيين يملك حوالي 140 ألف حرفي منتسب للاتحاد وحوالي 300 ألف غير منتسب له، والتنظيم الحرفي يعتبر من أهم روافد الاقتصاد الوطني لما يقدمه الحرفيون من خدمات مهنية ومنتجات حرفية، وله أهمية في إعادة البناء وإعادة عجلة الإنتاج للدوران وإحياء المنشآت المتوقفة، واليد الحرفية تدخل في جميع أعمال البناء العمراني والسكني، وأيضاً في بناء الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وبناء عليه فإن سياسة الاتحاد العام للحرفيين تتركز في المرحلة القادمة وحالياً على المساهمة في إعادة الإعمار والبناء من خلال قيامنا اليوم بإزالة الأنقاض وطحنها للاستفادة منها في عملية البناء وذلك عن طريق جمعياتنا لتكسير الأحجار بالتعاون مع وزارة الأشغال، ويأتي تقديم التسهيلات بالتعاون مع الحكومة لإعادة الأيدي الحرفية المبدعة والتي اضطرت للهجرة إلى خارج البلاد نتيجة تعرض منشآتهم للسرقة والتدمير من قبل العصابات الإرهابية المسلحة أو نتيجة الإغراءات التي قدمت لهم لسرقة حرفنا التراثية والتقليدية في مقدمة خطة عمل الاتحاد، لذا نقوم اليوم بتأمين مناطق بديلة لإقامة المنشآت والحواضن الحرفية وتأمين القروض عن طريق المصارف لدعم هذه المنشآت لتأمين المواد الأولية التي تدخل في عمل الحرفي ومنتجه، كذلك ندرس حزمة إجراءات لإحياء المهن التراثية التي في طريقها للاندثار، كإنشاء مكتب لاستثمار الحرف وقرية وأسواق حرفية في كل محافظة، و بدأنا بها في دمشق ولاحقاً في المحافظات الأخرى، كما وعدنا بمعالجة القروض المتعثرة ومنح قروض تشغيلية للنهوض بالحرف المشهورة كالنحاسيات، والصدف، والبروكار، وغيرها.

رفد الاقتصاد المحلي
غاب الاستقرار وتراجعت السياحة وبقيت الصناعات اليدوية التقليدية تصارع الظروف الصعبة وتصر على الصمود رغم أنف التاريخ والحرب، وبقي الحرفيون موجودين في كل مفصل وفي كل بيت وشارع في سورية، ولأن المهن الحرفية لا تحتاج إلى مواد أولية ذات تكلفة كبيرة، حسب رأي الدكتور أيمن ديوب “كلية الاقتصاد”، فإن هذه المهن اكتسبت أهمية كبيرة في دعم اقتصاديات الدول النامية، حيث تتميز ببساطة الأدوات ورخص قيمة المخرجات، ما يؤدي إلى إقبال الناس على شراء المنتجات الحرفية، ويشكل المصدر للتداول السريع للأموال وتوفير السيولة في الأسواق المحلية، فالمطلوب إذاً هو دعم هذه اليد العاملة وزيادة فرص العمل وتوفيرها للعاطلين عن العمل ورفد الاقتصاد في ظل الأزمة الراهنة، ذلك لأن تطوير هذه المهن الحرفية يوفر لعدد كبير من الشباب فرص العمل، وكذلك رفد السوق الداخلية بصناعات محلية تعوض مستلزمات هذا السوق من المستوردات الخارجية التي فقدت من السوق نتيجة الأزمة، لذا يجب على الحكومة أن تقوم بتوفير القروض ذات الفوائد المخفضة لتمويل المشاريع الحرفية.

تفعيل دورهم
بالتأكيد الأزمة انعكست سلباً على واقع العمل والإنتاج في مختلف القطاعات الاقتصادية ومن ضمنها الجمعيات الحرفية، وعلى اعتبار القطاع الحرفي هو الجزء المهم من المكون الاقتصادي فمن الضرورة بمكان أن يعامل أسوة بغيره من القطاعات الأخرى، فوجود مشروعات استثمارية كبيرة وصناعية كبيرة لا يكفي للاقتصاد الوطني بل يتطلب أعمالاً حرفية، فهناك علاقة بين تطور الصناعات والمشاريع الاستثمارية بمختلف أشكالها وبين تطور ونهوض الحرف اليدوية، لذا لا بد من إصدار قرارات تخص القروض الممنوحة للحرفيين، وأهمية تفعيل دور الحرفيين من خلال منح منشآتهم الموجودة في المدن تراخيص إدارية مؤقتة لحين نقلهم إلى داخل المناطق الحرفية بالمحافظات المقترح إنشاؤها مستقبلاً، وبذلك تكون الحكومة عبر تلك الإجراءات قد وفرت البيئة الخصبة والمناسبة لعملية الإنتاج، وبالتالي مضاعفة مساهمتها بالناتج المحلي.‏
ميس بركات