استخدامات مائية عبثية لدرجة الإفراط.. وارتفـــاع كبيـــر فــي فاتـــورة الهـــدر البيئــــي والزراعـــي

استخدامات مائية عبثية لدرجة الإفراط.. وارتفـــاع كبيـــر فــي فاتـــورة الهـــدر البيئــــي والزراعـــي

أخبار سورية

الأربعاء، ١٣ سبتمبر ٢٠١٧

في الطريق الطويل الممتد من مدينة حماة إلى سهل الغاب، وصولاً إلى حدود محافظة إدلب شمالاً، لم نعد نرى على طول الطريق المياه في مجاري نهر العاصي والينابيع والمستنقعات المائية التي كانت مرتعاً للبط البري والنورس يوم كان يغزو أحواض الأسماك، بل أراض مقفرة، حيث غابت المسطحات الخضراء التي لم تعد هي السمة الرئيسية لتلك المنطقة باستثناء الآبار الخاصة التي هي الأخرى، قل استثمارها ما لم تكن على الطاقة الكهربائية، علماً أن سهل الغاب كانت تبلغ سعة سدوده 136 مليون متر مكعب الآن، ولا يوجد متر مكعب واحد.

في الطريق بالقرب من بلدة حيالين قال لنا أحد المزارعين: لقد تراجعت كثيراً خلال السنوات الثلاث الماضية وارداتنا المائية المطرية، ما جعلنا نعيد النظر في تعميق الآبار حيناً، أو تنزيل المجموعات الكهربائية إلى الأسفل، وصولاً إلى المياه، يقابل ذلك، والكلام مازال للمزارع، تم فتح الآلاف من الآبار في مجال سهل الغاب وغير سهل الغاب، بل كل المحافظات، ما بات يهدد مياهنا الجوفية السطحية.

هذا الكلام من أحد المزارعين، ينم عن وجع كبير، قد يلحق بواقعنا الزراعي وبزراعاته، لقد تم ثقب الطبقات الحاملة للمياه السطحية جراء الحفر غير المنضبط، ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل تواجهنا أزمة خانقة بمياه الشرب، رغم كل ما قدّم لمشروع مياه نهر البارد من إمكانيات، وتبديل الشبكات، والتجهيزات الميكانيكية، لا تزال الأصوات ترتفع في قرى العبر وشطحة والشجر وعناب بشكل نسبي، والمشكلة كما يؤكد الأهالي ليست في قلة المياه، إنما في سوء استخداماتها، ولم يقتصر الموضوع بمياه الشرب بل قد تصل لمياه المزروعات مدفوعة غالباً بسياسات تشجيع الإفراط في الاستهلاك، وتجيز المبالغة في استغلال الموارد المائية الشحيحة المتوافرة، ما يجعل الأجيال المقبلة تدفع ثمن تداعيات السياسات المائية الراهنة المفرطة، ولنا في منطقة السلمية خير شاهد على ذلك.

فكيف يرى المزارعون وأهل الشأن مستقبل القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، وكيف نعيد له ألقه، وإلى أين نحن ذاهبون في هذا القطاع الحيوي والرئيسي للأمن الغذائي؟.

أحاديث تبرئة ذمة

في الحوار الذي دار ما بين وزير الزراعة والمزارعين بمدينة مصياف مطلع شهر تموز الماضي حول محصول القمح والشوندر أعطى انطباعاً للمزارعين والحضور، إن ما يُسمع شيء، وما على أرض الواقع شيء آخر لجهة الاهتمام والتسعير والتحفيز وتأمين المستلزمات قبل أوانها، وكم كان المزارعون على درجة عالية من المسؤولية والاهتمام حين فنّدوا مشاكلنا الزراعية، وتهديد قلة الإنتاج، والواردات المائية، وما يلحق بالغابات من اعتداء ما يشكل تهديداً كبيراً للأمن الغذائي يدفعه بشكل رئيسي إهمال هذا القطاع، أي الزراعي، وتخلّفه رغم أنه حاضر في كل المناقشات الرسمية والحكومية والعامة دون التركيز على الشق الهام فيه، ألا وهو الثروة الحيوانية، الأمر الذي يؤدي إلى سوء الإنتاجية، حسب وصف رئيس رابطة مصياف الفلاحية، وانخفاض كفاءة الري، وضعف خدمات الإرشاد الزراعي الذي يحتاج هو إلى إرشاد والتسعير البسيط.

ومع ذلك يقول مدير الإنتاج النباتي في هيئة تطوير الغاب المهندس وفيق زروف: إن ميزاننا التجاري مقبول، بل جيد لطالما لم تتصاعد بعد فواتير الشراء للمستوردات الغذائية، فالخير من الخضار والفواكه يغرق البلد بأسواقه، رغم أن الاقتصاديات لدينا في كثير من الأحيان تستنزف الموارد الطبيعية المتجددة بشكل غير مستدام، تحفزها في بغض الأحيان أرباح قصيرة الأجل، وهذا يتسبب وفقاً لحديث زورف بإفقار الموارد الأرضية والمائية الشحيحة، فلا نسمع أحداً يتحدث عن كلفة التدهور البيئي المكلف جداً، داعياً إلى إيلاء التنمية الريفية الزراعية المزيد من الاهتمام والرعاية لهدف أساسي استراتيجي لتخفيف الفقر في الأرياف وليعكس سنوات الإهمال والتقصير، مؤكداً على ضرورة سن قوانين أكثر صرامة للحد من هدر مياه الشرب، وتوفير مقومات القطاع الزراعي الذي يشكل الرافعة القوية للاقتصاد الوطني خلال السنوات القليلة المقبلة هي سنين الإعمار، وألّا يبقى الحديث عن هذا القطاع مجرد تبرئة ذمة.

من ناحيته قال عضو المكتب التنفيذي لقطاع الزراعة المهندس رفيق عاقل: إن تحسين نوعية البذور، وكفاءة الري، وحفظ التربة، والمحاصيل الزراعية، والممارسات المستدامة من شأنه أن يعيد الحيوية إلى القطاع الزراعي الذي مازال محافظاً على توازنه، رغم ما تشوبه بين الحين والآخر من منغصات هنا، ومنغصات هناك لجهة ارتفاع أسعار التكلفة، وغياب التحفيز، وبالتالي زيادة حصة في القوة العاملة المنتجة لدينا على نحو تحسين مستويات المعيشة، وبخاصة للعاملين في هذا القطاع، وبالتالي يحد من هجرة الريف إلى المدينة قبل أن تشكّل هذه الظاهرة عطالة اجتماعية، فإذا ارتفعت نسبة العاملين في القطاع الزراعي أكثر مما هي عليه الآن، فإن ذلك سوف يؤكد أن أكثر من 40 بالمئة من القوة العاملة قد عادوا إلى العمل بقطاع الزراعة، وهذا مؤشر في غاية الأهمية.

ويضيف عاقل: لكن على الحكومة التحول إلى الممارسات الزراعية المستدامة، ما سيحقق وفورات كبيرة في الناتج المحلي، شريطة تحسين الإنتاجية والنوعية، ما يجعل هذا المنتج مرغوباً تصديرياً للأسواق الخارجية، فضلاً عن تحسين الصحة العامة، وحماية أفضل للموارد البيئية.

ضمان رخاء العاملين

رئيس الرابطة الفلاحية في منطقة الغاب حافظ سالم قال: رغم كل سني الأزمة، وما رافقها من تخريب في شبكات الري الحديث، وارتفاع أسعار تكلفة المنتج الزراعي، وغير الزراعي، مازال المزارعون مصرين على المضي قدماً في رفع سوية الإنتاج الزراعي، ولكن ما يعيب ذلك هو ضعف المردود المادي الناتج، فليس من المعقول ما شاب ورافق محصول القمح هذا العام، وما ترتب جراء ذلك على المزارعين لجهة عدم تسليم البعض لأقماحهم، وقد تجلى ذلك في الكميات التي ضبطتها الرقابة التموينية في مستودعات العديد من التجار، فضلاً عن أن الإنتاج العام لم يتعد ثلاثمئة ألف و37 ألف طن، وهو الرقم الأقل منذ مطلع السبعينيات، وعلينا دراسة الأسباب، والوقوف عندها مطولاً لتجاوزها، وكذلك الاهتمام أكثر بالثروة الحيوانية لما تقدمه من مردود، وبخاصة أننا مقبلون على إقامة معامل للألبان في كل من جب رمله واللاذقية.

وأضاف سالم: إذا ما أردنا للاقتصاد الأخضر زراعياً وبيئياً أن ينمو ويزدهر، ما علينا إلا أن نعيد النظر في كثير من الأمور، يأتي في مقدمتها تشجيع الفلاحين وتحفيزهم على زيادة الغلة لضمان رخاء العاملين في هذا القطاع، والتركيز على تأمين مصادر المياه، لأن في ذلك دفعاً للمزارعين لرفع سوية العمل، وزيادة المشتغلين به بشكل مستدام.

من ناحيته قال مدير عام مؤسسة مياه شرب حماة المهندس مطيع عبشي: إن الحديث مهما تكرر حول السياسات المائية، والزراعية ، فهو عصب الحياة، لذلك لابد من إجراء التحولات في سياسات قطاع المياه من خلال إدخال إصلاحات مؤسسية وقانونية تؤثر في استخدام المياه وتنظيمها، باعتبار أن جل ما نعاني منه من نقص في تأمين مياه الشرب قبل الزراعة مرده إلى سوء الاستخدام، والعبث في توزيعها واستهلاكها بلا طائل بسبب غياب ضبط وتنظيم الوصول إلى حاجة المستهلكين، كما يقول مدير عام مؤسسة مياه حماة، مضيفاً بأن ما تم رصده من اعتمادات هذا العام يفوق السنوات العشر الماضية، ومع ذلك تعاني العديد من التجمعات السكانية من أزمة عطش، لكننا سنحصد النتائج خلال العام القادم وما يليه، وبخاصة بعد الشروع في إقامة الخزانات المائية في سفح سهل الغاب الغربي، والتي من شأنها أن تنعش القطاع الزراعي، وتعيد إليه بريقه الذي بدأ المزارعون يفتقدونه.

البناء الأخضر

الدكتور قاهر أبو الجدايل رئيس مجلس مدينة مصياف قال: إننا نفتقر للبناء الأخضر، أي العمارة الخضراء، في الوقت الذي يعتدي فيه الآخرون على كل كائن أخضر حي كالغابات، رغم أنها مصدر جذب للسياحة والاستثمار، حيث يشكّل هذا الجانب، والجانب الزراعي، الرافعة للاقتصاد الوطني، وعلى الحكومة توفير أسس نجاح وازدهار هذين القطاعين، وهذا ما لمسناه خلال زيارة رئيس الحكومة إلى محافظة حماة، إلا أن قراءة  الأرقام المخصصة للفرد من المياه توضح وتساعد في فهم المعاناة، فلابد من تعميق الأبحاث للتوصل إلى أفضل المعطيات المائية، وبالتالي الغذائية، والحفاظ على ما هو متاح بالشكل الأمثل من أجل مستقبل زراعي، وبيئي، وسياحي أفضل.

محمد فرحة