نـزف الكفاءات السوريـة.. أزمة المستقبـل.. خسائـر تتـوالى وظــاهـرة تـقـف عائقاً أمام خطط التنمية

نـزف الكفاءات السوريـة.. أزمة المستقبـل.. خسائـر تتـوالى وظــاهـرة تـقـف عائقاً أمام خطط التنمية

أخبار سورية

السبت، ١٠ فبراير ٢٠١٨

إلهام العطار  
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إننا مهما حاولنا بذل الجهد لحصر آثار الحرب على سورية، فسنبقى تائهين، فتلك الحرب التي عصفت رياحها منذ سبع سنوات ونيف، وعاثت خراباً ودماراً طال جميع القطاعات، خلفت وراءها – رغم صمود السوريين الأسطوري في وجهها- كماً هائلاً من المفرزات والظواهر السلبية، تأتي هجرة العقول واستنزاف الكفاءات في مقدمة تلك التبعات، لأنها كانت سبباً من أسباب كثيرة وقفت وراء اتخاذ قرار الحرب، يرمي إلى تفريغ سورية من أهم عنصر فيها وهو القوى البشرية المسلحة بالعلم والمعرفة، وإضعافها، فقد أشارت الإحصاءات العالمية إلى أن نسبة الشهادات الجامعية ومن كل الاختصاصات كانت هي الأعلى بين الأشخاص الذين اتخذوا قرار الهجرة لعوامل مختلفة داخلية وخارجية.
كلنا يعلم أن باب الهجرة أصاب كل القطاعات العلمية والمهنية والحرفية ولم يقتصر على قطاع أو مجال بعينه، لكن درجة خطورته, بحسب الدراسات وآراء العديد ممن التقيناهم ، تزداد حدة وخطورة عندما يتغلغل في جسد القطاع الصحي والتربوي والتعليم العالي، وهي قطاعات حاولت «تشرين» الانطلاق منها في ملفها هذا لتنهي رحلتها بعد ذلك في البحث عن أسباب تلك الظاهرة ومنعكساتها الاقتصادية والاجتماعية، التي تتطلب من جميع الجهات المعنية استنباط الحلول والمقترحات لإعادة خبراتنا وكفاءاتنا التي تلقفتها الدول المستوردة واستفادت منها بالمجان إلى جذورها، فهذه العقول هي الرأسمال البشري الذي يعد أثمن رأسمال تمتلكه الدولة والمجتمع, لأنه لا يعدّ -حسبما أوضحت الدكتورة الأكاديمية والباحثة الاقتصادية رشا سيروب- أحد عناصر الإنتاج ومحدداً رئيساً للإنتاجية فحسب، بل هو المؤثر الرئيس في جميع مكونات النمو والتنمية، فالثروات المادية والطبيعية وحدها لا تجدي نفعاً (مهما عظمت) إذا لم يتوافر الكادر البشري القادر على الاستغلال الأمثل لهذه الثروات وتوجيهها لمصلحة التنمية.
 
آراء ووجهات نظر
عدم إتاحة الفرص والاحتواء والاستفادة من الخبرات والمهارات وعدم تقدير الكفاءات، وقلة حجم الإنفاق على البحث العلمي وانخفاض الرواتب والتعويضات، وإلحاق الكفاءات بأعمال لا تتلاءم مع خبراتهم ومهاراتهم وتخصصاتهم وفرص التطور والترقية والريادة العملية الموجودة في الخارج كانت عوامل جاذبة للكفاءات، حسبما أوضح الكثير ممن تحدثوا عن ظاهرة استنزاف الكوادر البشرية من ذوي الكفاءات والشهادات العليا، التي رآها الدكتور مالك يونس من قسم الفيزياء في جامعة البعث مشكلة قديمة وجديدة، وقد تفاقمت أكثر خلال الأزمة وانعكست آثارها السلبية بشكل كبير على مؤسساتنا التعليمية، وأضاف: صحيح أن الدولة أوفدت الكثيرين للحصول على شهادات عالية من الخارج ونجح الكثير منهم، ولكن عدم تحقيق مقومات العمل والإبداع العلمي لتلبية طموحاتهم وتأمين حياة معيشية تليق بهم إضافة إلى ضيق الأفق ومحدودية حرية الفكر والإبداع والتقييد البيروقراطي، عوامل دفعت الكثيرين منهم للتفكير بالهجرة وهي نوعان: هجرة خارج البلد وهي الخسارة الأكبر التي لا يمكن تعويضها، وهجرة داخلية من الجامعات والمؤسسات الحكومية إلى الجامعات الخاصة هدفها تحسين الوضع المادي، والمؤسف في الأمر أن هذا التناقص في أعداد الكوادر المؤهلة من دكاترة الجامعات تحديداً ترافق مع ازدياد كبير في عدد الطلاب ما أدى إلى خلل كبير في النسبة المقبولة بين أعداد الدكاترة إلى عدد الطلاب، وهو ما انعكس سلباً على مستوى التعليم ومخرجاته، ولذلك لابد من تدارك هذا الخلل بأقصى سرعة بغية الحفاظ على سيرورة عمل جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية ولو في الحد الأدنى، وهذا لا يمكن أن يلقى النجاح إلاّ إذا أُعيد الاعتبار لدكاترة الجامعات اجتماعياً وعلمياً ومادياً من خلال إيجاد واقع جديد متمثلاً بقوانين جديدة وعصرية، وإدارات منفتحة ومختصة، وتوفير إمكانات مادية لائقة بالمهمات المنوطة بهم بدءاً من الرواتب والأجور وانتهاءً بتمويل الأبحاث والنشاطات العلمية مروراً بتأمين متطلبات العملية التعليمية في الجامعات بشرياً ومادياً، والنظر في سن التقاعد وتوحيده، وهو ما التقى فيه مع الدكتور هاشم عدنان الفشتكي من كلية التربية الرابعة في القنيطرة لدى جامعة دمشق الذي أكد وجوب أن تكون الجامعة مؤسسة مستقلة بجميع قراراتها العلمية والإدارية وتوضع من خلال مجالسها الخاصة بناء على معايير صارمة وأن يكون هناك تطوير إداري نوعي لاستقطاب كوادرها وتشجيعهم على البحث العلمي.
من جهته, الدكتور وليد عامر أستاذ اقتصاديات وإدارة الموارد البشرية في كلية الاقتصاد في جامعة تشرين قال: معاملة أستاذ الجامعة كموظف وإحاطته بنظم إدارية بيروقرطية روتينية تعوق أداءه وعدم استثمار كامل طاقته وغياب استراتيجية تنمية الكفاءات التدريسية والمحافظة عليها من أهم الأسباب التي تدفع إلى هجرة الكوادر التدريسية.
نتائج وتأثيرات
مما لاشك فيه ومهما تعددت الأسباب واختلفت في الشكل، فإن المضمون واحد، فقد باتت الهجرة أمراً واقعاً له نتائجه وتأثيراته التي يجب أن نتوقف عندها ملياً، ففي دراسة أعدها المعهد الوطني للإدارة العامة حول انعكاسات هجرة ونزوح الكوادر الوطنية على أداء قطاعات الصحة والتربية والتعليم العالي، بينت الخلاصة أن في جانب التعليم العالي هناك تناقص في الأعداد الإجمالية لأعضاء الهيئة التعليمية والفنية، مع تركز النقص في أعداد أعضاء الهيئة التعليمية والفنية للكليات النظرية، وبأن أكثر الجامعات تأثراً بالنقص الإجمالي هما جامعتا دمشق والبعث، حيث تركز الانخفاض في الكليات النظرية بشكل يفوق الانخفاض بالكليات التطبيقية، كما ظهرت مشكلة توزع أعضاء الهيئتين التدريسية والفنية في الكليات النظرية حيث ازدادت في جامعتي حلب والفرات، ونقصت في بقية الجامعات، وقد تركز الانخفاض بالمجمل على الذكور في جميع الدرجات العلمية وفي الكليات التطبيقية والنظرية وفي كل الجامعات، في حين كان التناقص في أعداد أعضاء الهيئتين الفنية والتدريسية الإناث صغيراً مقارنة مع الذكور، أما بالنسبة للمراتب العلمية لأعضاء الهيئة التعليمية فكانت مرتبة أستاذ وأستاذ مساعد الأكثر تأثراً في الانخفاض وخاصة في جامعة دمشق والكليات النظرية، ووجدت الدراسة من خلال رصد حركة الكوادر أن جامعتي دمشق وحلب الأكثر تضرراً بتسرب أعضاء الهيئة التعليمية حيث شكلت نسبة النقص لأسباب: «بحكم المستقيل، مستقيل، تقاعد، ندب، إعارة، إجازة من دون أجر» (حتى عام) 2016 (من الإجمالي) 43,43 %( في جامعة دمشق)، و 45,48 %( في جامعة حلب)، أما بالنسبة للمشافي التعليمية فتبين انخفاض في أعداد الأطر من أطباء هيئة تدريسية، أطباء متعاقدين وعلى الملاك، ممرضين وخصوصاً في حلب على حساب الزيادة في كل من اللاذقية ودمشق، وهذه النتائج في مجملها تدل على وجود مشكلة نقص في العدد وسوء في التوزع ومشكلة في النوعية والمراتب العلمية للكوادر في قطاع التعليم العالي، ولمعرفة كيفية مواجهة هذا الواقع حاولت «تشرين» التواصل مع وزارة التعليم العالي، ولكنها كانت وكما جرت العادة «لا حياة لمن تنادي» وكأن الأمر لا يعنيها، ففي رأيها أن الوقت غير مناسب للحديث عن هذه الظاهرة، فمتى سيحين الموعد المناسب، «والله أعلم».
وبالانتقال إلى قطاع التربية التي كان تجاوبها يصب في خدمة الموضوع، بين مدير التعليم الثانوي إبراهيم صوالح أنه ليس كل من هاجر من الأطر التربوية هو من الكفاءات، فالكل سواسية لجهة التأهيل والإعداد الأكاديمي والدورات التي اتبعوها في إطار التدريب المستمر الذي تقوم به الوزارة، لافتاً إلى أن قطاع التربية لم يتأثر كثيراً لجهة النقص في الأطر التدريسية لأنه ترافق أيضاً بنقص أعداد المتعلمين وأعداد المدارس بسبب الأزمة، لذلك لم تتأثر جودة التعليم إلا في المناطق التي خرجت مؤقتاً عن سيطرة الدولة بدليل أن التطوير مستمر في العملية التربوية في مجالات المناهج والامتحانات وطرق التعليم , ولكن قد تكون حصلت انزياحات من منطقة إلى أخرى, أدت في بعض الأحيان إلى وجود فائض ونادراً أدت إلى إيجاد نقص، موضحاً أن الوزارة واجهت هذا النقص عن طريق الإعلان عن مسابقة للفئة الأولى وصدور قرار النجاح، وعن مسابقة للفئة الثانية، وتعيين دفعات من خريجي كليات التربية (معلم صف) بصفة ملتزم، وتعيين الناجحين في مسابقة خريجي كليات التربية (معلم صف) إضافة إلى تعيين دفعتين من مسابقات عقود تشغيل الشباب (2011-2012م)، والأهم أنها قامت برفع أجر الساعة الإضافية للعاملين من داخل وخارج الملاك.
بين الاجتماعي والاقتصادي
بعد هذه الجولة في قطاعي التربية والتعليم العالي، كان لا بد من فتح باب أوسع للدخول في عمق وتفاصيل المشكلة وتأثيراتها على خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والخطوة الأولى كانت مع حسام سليمان الشحاذة الاختصاصي الاجتماعي في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل الذي بدأ حديثه بتعريف هجرة العقول أو هجرة الأدمغة قائلاً: إنها «مصطلح يطلق على هجرة العلماء والمختصين في مختلف فروع العلم من بلد نامٍ إلى بلد آخر أكثر تقدماً أو غنى، طلباً لفرص عمل أفضل أو حاضنة أرحب لقدراتهم وإمكاناتهم المهنية أو المعرفية أو الإبداعية..الخ، تزامناً مع سعيهم للحصول على دخل أعلى أو التماس أحوال معيشية أو فكرية أفضل، وهي ظاهرة اجتماعية سلبية ومتجذرة في جميع الدول النامية أو دول العالم الثالث من دون استثناء، وسورية واحدة من تلك الدول التي كانت تعاني منها، لكنها كانت قبل الأزمة بنسب مقبولة، وذلك بفعل الأحوال المعيشية المستقرة والمتناسبة مع مستوى الدخل ومع ما كان يبذله الشباب من جهود للحصول على فرصة عمل مناسبة لما يحمله من مؤهلات علمية وخبرات، سواء في القطاعين الحكومي أو الخاص، إذ كانت الدولة والمواطن يعيشان في كنف استقرار أمني وسياسي واقتصادي نسبي، ساهم في توطين اليد العاملة السورية المؤهلة داخل القطر، ودفع الشباب إلى عدم التفكير كثيراً بالهجرة، ولكن مع بداية الأزمة في سورية انتشرت الظاهرة بين الشباب المتعلم والمؤهل وخريجي الجامعات، بسبب عوامل متعددة حولت تلك الظاهرة من مشكلة إلى إشكالية ومن أهمها: ارتفاع مستوى المعيشة وعدم تناسبه مع مستوى الدخل، وتحديداً بالنسبة للشباب العامل في القطاع العام، فقبل الأزمة في سورية كان متوسط الدخل الشهري للموظف في القطاع الحكومي يتراوح بين (15000 إلى 25000 ل.س)، أما اليوم فمتوسط الدخل يتراوح بين (40000 إلى 50000 ل.س) حالياً بسبب انخفاض قيمة الليرة السورية أمام القطع الأجنبي، أضف إلى ذلك ظروف الحرب وما خلفته من تهجير لأسر بكاملها، تزامناً مع عدم قدرة الشباب على الوصول إلى أماكن عملهم، حتى إن بعض الأطباء والمهندسين والفنيين والتقنيين من أصحاب المنشآت والمعامل الخاصة فقدوا كل ما يملكونه، ما دعاهم إلى الهجرة للحصول على فرص عمل أفضل، أيضاً هناك انعدام التوازن في النظام التعليمي وفقدان الارتباط بين أنظمة التعليم ومشاريع التنمية، فمشاريع التنمية التي تطرحها الحكومة اليوم – وخلال الأزمة في سورية – هي مشروعات إسعافية ذات طابع إغاثي، ولم تلحظ بشكل موسع الشباب المتعلم والطموح، يضاف إلى كل ما سبق ضعف القدرة على استيعاب أصحاب الكفاءات الذين يجدون أنفسهم إما عاطلين عن العمل أو لا يجدون عملاً يناسب اختصاصاتهم، وهو ما أدى إلى انجذاب أصحاب العقول للريادة العلمية والتكنولوجيا المتوافرة في البلدان المتقدمة، وبخاصة تلك الإغراءات المتعلقة بحرية إجراء التجارب والأبحاث العلمية من دون قيود روتينية، كما أن علينا ألا نغفل الأزمة الأخلاقية التي خلفتها حرب الإرهاب على سورية في بعض مفاصل الدولة، من فساد ومحسوبية وقفت عائقاً في وجه بعض الكفاءات العلمية والبحثية للحصول على فرصتها المناسبة لإثبات جدارتها، وسوء فهم بعض الجهات الحكومية لمصطلح /خدمة العلم الإلزامية/، واقتصار الفهم العام لها على الخدمة في صفوف الجيش والقوات المسلحة، ما استنزف كثيراً من الشباب المتعلم والمتخصص الذين كان في الإمكان الاستفادة منهم في مواقع العمل، وإصدار قوانين وتشريعات خاصة بحملة التخصصات العلمية النادرة، ولحملة درجتي الماجستير والدكتوراه.
عوامل لم تبتعد عن كلام الدكتورة رشا سيروب، مضيفة: لا يمكن تحديد عوامل الهجرة بسبب وحيد منفرد، فالهجرة هي نتيجة تشابك وتداخل مجموعة من الأسباب والعوامل الاقتصادية والاجتماعية، التي نطلق عليها (العوامل الطاردة) وتعد شرطاً ضرورياً للهجرة لكن غير كاف، بالمقابل تقوم بلدان المهجر بتوفير عوامل الجذب المغرية من خلالها يستطيع تحقيق طموحه واحترام ذاته وشخصه وتحسين واقعه المادي الحياتي، والتي تعد الشرط الكافي لتحقيق الهجرة، ولا تختلف كثيراً أسباب ودوافع هجرة العقول عن غيرها من الشرائح، لكن تختلف أهمية وأوزان الأسباب والعوامل ذات الأولوية في سورية التي يقف في مقدمتها الإحباط العلمي والنفسي: فتدني نسبة الإنفاق على البحث العلمي وعدم توافر إمكانات وأدوات البحث العلمي المتمثلة في (الكتب والمجلات العلمية المتخصصة، والوقت اللازم للبحث، العلاقات مع مؤسسات علمية دولية،….) وغيرها من الصعوبات التي تعوق قدرته على القيام بالأبحاث العلمية والدراسات البحثية العلمية الجادة من شأنها تشكيل عامل إحباط علمي للباحث.. في المقابل عندما يجد أصحاب الكفاءات والخبرات أن الأقل منهم كفاءة وعلماً وخبرة هو المسؤول عنهم وعن إدارة العمل في المؤسسات التنموية والاستثمارية، خاصة أن هذا المسؤول يعد كل متميز وخبير عقبة في طريقه؛ لأن وجوده يظهر نقصه وخلله أمام الآخرين، فيلجأ إلى التخلص منه وإبعاده عن مصدر القرار وعن رسم السياسات، فإن الإحباط سيدفعه للتفكير بشكل جدي بالهجرة نحو واقع أفضل مما هو عليه.
أما ثاني تلك العوامل فيتمثل بالاغتراب: إذ يعاني معظم العلماء وأصحاب الكفاءات والخبرات من تهميشهم وعدم تقديرهم والاهتمام بهم، ومن تخلف النظم التعليمية والبطالة الهيكلية (نتيجة التوسع الكمي غير المدروس في نظام التعليم وعدم توفر فرص العمل المناسبة لمستواهم العلمي والمهني)، ومن وجود بعض القوانين والتشريعات إضافة إلى البيروقراطية والفساد الإداري وتضييق الحريات على العقول العلمية المبدعة وهو الأمر الذي يؤدي إلى شعور أصحاب الخبرات والكفاءات والشهادات بالغربة في أوطانهم ما يضطرهم للبحث عن وطن بديل يوفر لهم كل الأدوات والمتطلبات لتحقيق طموحهم العلمي والمهني، وإلى جانب ذلك يقف موضوع العائد على التعليم: إذ يعاني أصحاب الشهادات العليا من انخفاض مستوى الدخل، ففي الوقت الذي يتقاضى فيه العالم أو المفكر أجراً لا يتجاوز حد الكفاف، يجد أن الأشخاص غير المؤهلين أو الذين لا يمتلكون المؤهلات العلمية العليا يحققون دخلاً أفضل من دخله، ويفسر ذلك بانخفاض العائد على التعليم وإعطاء الأولوية للانتماء الشخصي على حساب الانتماء الوطني، وتابعت د. سيروب :أما الطامة الكبرى فهو الفساد فقد صنفت سورية في تقرير مؤشر مدركات الفساد عام 2016 ضمن الدول الأكثر فساداً على مستوى العالم حيث احتلت المرتبة 173 عالمياً من أصل 176 دولة، ومعنى ذلك أن الفساد يشكل خطراً شديداً على الحياة الاجتماعية للأفراد، ففي الاقتصاد توجد قاعدة تقول (النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة) وهي تنطبق تماماً على الأدمغة والعقول وأصحاب الكفاءات التي أتعبها انخفاض الثقة في الكوادر الوطنية والاعتماد على الخبرات الأجنبية، والتفرقة بين خريجي الجامعات الأجنبية والجامعات الوطنية، أيضاً هناك من العوامل ضعف النظام التعليمي والبحث العلمي حيث أشار الترتيب الدولي لجامعات ويبومتريكس للعام الحالي 2018 أن تصنيف الجامعات السورية يأتي في مراتب متدنية (فقط جامعتان من دون 5000، والبقية فوق 10000)، أما بقية التصنيفات العالمية فأسقطت الجامعات السورية، وهذا يدل على ضعف جودة التعليم العالي، فتقرير مؤشر المعرفة العربيّ لعام 2016 أشار إلى أن أداء سورية كان منخفضاً في جميع المؤشرات القطاعية (التعليم ما قبل الجامعي، التعليم العالي، تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، البحث والتطوير والابتكار، الاقتصاد، التعليم التقني والتدريب المهني).
خسارة مزدوجة
وعن منعكسات هجرة الكفاءات على الاقتصاد، أوضحت د. سيروب أن سورية تتحمل بسبب الهجرة خسارة مزدوجة، الأولى نتيجة فقدان ما أنفقته من أموال وجهود في تعليم وإعداد وتدريب الكفاءات المهاجرة من جهة، والثانية عند استقدام الخبرات الأجنبية بسبب الفجوة بين الطلب على ذوي الكفاءات والخبرات وبين المتاح منها، كما أنها تؤدي إلى تدني جودة الخدمات العامة سواء في التعليم أو الصحة وغيرها وتراجع الإنتاجية بسبب غياب المورد البشري المؤهل وإحلالها بأخرى غير المؤهلة، وإلى زيادة الفجوة المعرفية وتوسيع الهوة العلمية والاقتصادية مقارنة مع بقية الدول وزيادة التبعية للدول المتقدمة، وإلى تراجع الابتكار والإبداع وعدم القدرة على بناء وتطوير قاعدة تقنية وطنية في مجالات الاقتصاد والصحة والتخطيط والبحث العلمي، وهذه المنعكسات وغيرها تسهم في تراجع الناتج المحلي الإجمالي.
وفي السياق ذاته بين الشحاذة أن أهم انعكاس لهجرة الأدمغة يتمثل في إفراغ الوطن من كوادره وفنييه وعلمائه ومثقفيه القادرين على إحداث التنمية المستدامة وتحقيق التقدم، وتالياً فإنّ هجرة العقول الشابة من شأنها أن تزيد من حدة التخلف على كل الصعد ويعمق شدة الاعتماد على الخبرات الأجنبية في تنفيذ خطط ومشروعات التنمية.
إذا عرف السبب بطل العجب!
انطلاقاً من المثل القائل: «إذا عرف السبب بطل العجب»، وجد الشحاذة سبل مواجهة هذه الظاهرة، بأنه أصبح من الضروري بمكان العمل على إجراء مسح شامل للكفاءات السورية الشابة داخل سورية وخارجها، بهدف التعرف على حجمها، ومواقعها، واختصاصها، وظروف عملها، وصياغة سياسة واضحة وشفافة – وفق برنامج وطني متكامل – تساهم فيه كل قطاعات الدولة وأطياف المجتمع المحلي، لمواجهة هجرة الأدمغة الشابة، وضمان عودتها إلى وطنها الأم سورية، والنظر بصورة جذرية في سقف الرواتب والأجور التي يجب أن تمنح للكفاءات العلمية والتخصصية النادرة، ولاسيما تلك التي ترتبط بالبحث والإنتاج الفكري والعلمي، وتوفير المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اللازمة لخلق بيئة ملائمة لتطوير العلم والبحث العلمي، وربطهما بسياسات التنمية وسوق العمل.
وهي رؤية اتفق فيها مع الدكتورة سيروب التي طالبت بإجراء المزيد من الدراسات عن ظاهرة الهجرة الخارجية لاستقصاء الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية من أجل علاجها أو الحد من الآثار السلبية لها، لتختم حديثها بالتأكيد على أنه ينبغي العمل أثناء العلاج على ثلاثة مستويات بالتوازي:
المستوى الأول: وضع الإجراءات والسياسات التي تكفل الحفاظ على ما تبقى من أصحاب الكفاءات والأدمغة داخل سورية، من خلال وضع الحلول للمشاكل والأسباب المحفزة للهجرة ووضع الإجراءات والسياسات التي تشجع المهاجرين من أصحاب الكفاءات والمهارات للعودة والمساهمة في عملية التطوير والبناء.
المستوى الثالث: وضع الإجراءات والسياسات التي تمكننا من الاستفادة من أصحاب الكفاءات والخبرات المهاجرة في حال رفضهم العودة أو نتيجة عدم توافر الظروف الملائمة لهم.