المرحلة جدّ خطرة

المرحلة جدّ خطرة

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ١١ يوليو ٢٠١٧

وخاصةً أن أمراض الأمة العربية ومخاطر ديمومتها وانتشارها تحولها إلى كائنات مهددة بالانقراض نتاج فوضى دموية عملت على إنتاج التطرف والكراهية وتظهير التناقضات المسكونة في التحضر كالتخلف والطائفية البغيضة. زمنٌ لا قيمة له تحدد فيه روحانيات سلبية، تقاتل تقاسيم اللمسات العصرية، تسمى تحت أقنعتها الإرهاب الذي لا هدف له سوى إحداث أكبر ضرر ممكن للفكر الإنساني، للحركة التقدمية، للبناء الحضاري، فالرؤية المديدة في منظومة الإرهاب هدفها ألا ترى سوى الأسوأ، والأسوأ عبر إحداث الاضطراب وتعزيزه من خلال أدوات عمياء تعدُّ الجهل نعمةً والتحرر العلمي نقمةً. سيناريوهات قاتمة تلف الأمة، مصممة لها من جوهرها، تسطو على مظهرها، تشكل نتاج التكاثر الشهواني إلى تطور عقد الانقسام وظهور شوفينيات عنصرية وشعوبية ضمن توقيتات غير بريئة، تطالب بالتفكيك لكامل العناصر الجامعة وبإحلال مكانها مفردات التحريض المذهبي والطائفي أي الشعبوي.
المؤسف أن أهم مرض تتمتع به أمتنا هو الجهل الذي تعتبره نعمة لا تفوقها نعمة، فالجهل لديها لا يعني أنها لم تحصل على شهادات، بل لأنها تعمل من أجل أن تعيش فقط، أي إنها أمة وظيفية لا يضايقها أي حدث جللاً كان أم خللاً، تتفرج على البعيد ولا تنفعل للقريب؛ بل تستمر في توسعه، فكرها الهجين شرعن ما غزا الإسلام دون فهم عميق له حيث أبقاها في الورائيات وربما لزمن طويل نعيش تحت ضغوطه وتداعياته، إن لم يتم التصدي له بحنكة السياسة وبحكمة المعرفة والمنظومات العلمية.
لقد تحولت أمراض الأمة إلى حكايات، نُسجت عنها قصص وروايات نتاج استمرار انقسامها والتوهان في تخبطاتها، فكلما حدث لقاء، واقتربت ساعة النهوض، وحان موعد الاتفاق نجد مديريها مدججين بأسلحة الافتراق ومصرين على ألا يكون هناك أي اتفاق، فساعة الصفر من أجل الانطلاق متوقفة؛ بل معطلة تماماً، وأسهم أيضاً في ذلك تعزيز لغة الأنا بمساعدة القوانين العامة ونظم التربية والتعليم واستمرار الإعلام في نشر كل ذلك وإدخاله عقل الفرد العربي ودعوته للاشتغال لذاته وتأمين وجوده أولاً لا وجود مجتمعه ووطنه وأمته.
يسأل المولودون ضمن الأمة والمتحركون على جغرافيتها إلى متى سنبقى منقسمين ومشرذمين؟ متى تعود الأيادي للتشابك مع بعضها، ومتى نرتقي ونضع خلافاتنا السياسية جانباً؟ متى يصحو قادتها من غيبوبتهم؟ حركة الحياة لا تتوقف مستمرة في الذهاب إلى الأمام، ونحن نخسر ثقافتنا ووطنيتا وهويتنا، نندم ونندم ونتمتع بثقافة الندم، العتب يبقينا نتقبل تشويه صورتنا، والعبث في أفكارنا من دون أن نتغير، حيث يبدو الفكر التقليدي على ما هو عليه، ويظهر التغيير الحقيقي بعيد المنال، فهل يدرك أهل السياسة العربية ما تعانيه من أمراض، وأن الدواء لعلاجها ممسوك منهم، وأن دقة المرحلة وحساسية ما تمر به يحرجهم جداً بين شعوب العالم وساستها، هل يدرك ساسة الأمة أنهم مع شعوبهم وُضعوا ضمن عاصفة خطرة جداً يحتاج الجميع الخروج منها، ليس إلى أعجوبة أو معجزة؛ بل إلى معجزات وأعاجيب، وللأسف إنهم هيؤوا للعاصفة بأنفسهم، واجتاحتهم وهم على عنادهم، يهددهم العالم بأسره، فيهددون بعضهم، وتتقبل شعوبهم هذا التسييس الذي يؤدي إلى تعميق الخلافات وديمومة الأمراض، وهذا إن دل فإنما يدل على فشل الكثير من تجارب السياسة العربية وفقدان ساستها للبوصلة التي تؤدي إلى الإنقاذ والخروج من عنق الزجاجة التي يتدافع إليها الجميع بفعل الأنا التاريخية.
هل أدرك العرب كل العرب من دون استثناء ما يخطط لهم وينفذ بدقة بين الفينة والأخرى؟ هل عرفوا أنهم عندما يقبلون الضغط الدولي عليهم ستتوالى الضغوط، وأنهم عاجزون عن حل أزمة واحدة من دون تدخل محيطي أو دولي، وكلما تفاقمت الأزمة تتحول إلى أزمات، فتغدو الحلول صعبة وبعيدة عنها.
إذاً ما الحل؟ أو كيف يكون أمام كمّ الأمراض بدءاً من الأمية الدينية مروراً بالأمية الفكرية وعيشهم الوظيفي، وبارتضائهم أن يكونوا كذلك وعدم القدرة على التحرر السياسي الذي أعتقد ولا أجزم أنه المسؤول الأول والأخير عن كل ذلك، ناهيك عن عدم القدرة على الإبداع الذاتي وتطويره.
لماذا وصلت الأمة إلى ما هي عليه؟ هل لأن تاريخها الذي صنعته بذاتها يدل عليها؟ أم إنه ممنوع عليها التطور والتقدم؟ أم لأن الغرب يهاب نهضتها؟ ولذلك نجده ما إن انتهى من فرط عقد الاتحاد السوفييتي وتدمير فكرته المادية الديالكتيكية التي صنعها له في الأساس حتى تفرغ للفكرة الإسلامية المسكونة بشكل خاص في الأمة العربية التي يعيث فيها الآن فساداً، يخترقها من جوهرها إلى مظهرها، ومن محيطها إلى خليجها، أم إنها قابلة دائماً للتدمير منذ هولاكو وتيمورلنك وحروب الفرنجة والعثمانيين وصولاً إلى الاستعمار القديم الحديث؛ أي الغرب برمته، إن المتطلع لهذه الأمة يجدها إن لم تجد من يدمرها فهي تسعى لتدمير ذاتها بذاتها، كيف يحصل هذا؟
الأمة تسير على حواف الهاوية؛ بل أكثر من ذلك تسلك طريقها، فوضعها حساس جداً في هذه المرحلة، تتناهبها فوضى دموية مذهلة، تطعن شعوبها دولاً وأفراداً، بسكاكينها، كل هذا يحدث نتاج ممارسات سياسية، تستخف بما تحفل به من أزمات ذاتية أولاً وخارجية ثانياً، ويبدو حتى اللحظة أنها لم تمتلك الإحساس الدقيق بما حل ويحل بها، ومستمرة في التآمر على وجودها بكامل أشكال التآمر.
مستويات خطرة يعيشها عقل الأمة الرسمي عندما نراه ونتابعه سائراً على سبل الهاوية، أوَلم يكفِ هذه الأمة انحدارها وتخلفها؟ من المسؤول عن وصول الناس إلى هذا الحضيض؟ هل حقاً نحن شعوب متخلفة تستحق ما يجري معها وعليها؟ وما الفرق بين الإنسان العربي والإنسان الغربي؟ أليست هي الشعرة الفاصلة التي يسميها النظام العربي السياسات المتبعة؟ لماذا يئس العرب من السياسات المطبقة عليهم في الإدارة للاقتصاد والدين والمجتمع؟ لماذا يئس العرب من تصغير الآخر لهم ومن ابتزاز العالم لهم، ومن التسوويين الذين لم يروا للعرب أي إسهام في حركة التطور العالمي، حيث عرفهم العلامة الزمخشري في متن (أساس البلاغة) قائلاً: هم الذين يصغّرون شأن العرب، ولا يرون لهم فضلاً على غيرهم، وكذلك تحدث القرطبي واصفاً إياهم بأنهم حركة تبغض العرب، وتفضل غيرهم عليهم، وهم في أغلبيتهم شعوبيون أطلقوا على حراكهم لقب (حركة التسوية) أي التسوية بين حقوق غير العرب مع حقوق العرب، لتتحول بعدها من التسوية إلى التفضيل.
كيف يحدث معنا هذا نحن الأمة المريضة؟ يحدث ولم نقدر أن نعالج مرضاً واحداً، أو نوقف سيل الدماء، لنرى عالم الشمال بشخوصه التي تخترقنا حاضرين بيننا، يجوبون مدننا ودولنا وحوارينا تحت مسمى إصلاح ذات البين.
ها هم يجتمعون في قمة العشرين والأمم المتحدة ومنظماتها ومبعوثوهم لليمن والخليج ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا والعراق وسورية ولبنان الكل يستنجد بهم لنقوى على بعضنا بهم، ولندافع عن وجودنا ضد وجودنا.
المرحلة خطرة.. قالها ترامب وهو يهاتف بعضاً من ساسة العرب، والفوضى الدموية مستمرة نتاج تلك الخطط السابقة التي أعلنت مسبقاً الفوضى الخلاقة والتدمير الخلاق والوعود بربيع عربي أوصلنا من جديد إلى الحضيض بين الشعوب والأمم؛ فهل نمتلك إرادة النهوض من جديد؟ أم إننا ننتظر واقعاً سلبياً آخر بعد حين؟. 

د. نبيل طعمة