الألم والنجاح

الألم والنجاح

افتتاحية الأزمنة

الثلاثاء، ٢ يناير ٢٠١٨

لا تيئس من ألم ممض، ولا تنتشِ من نجاح ممتع ولذيذ، فالدنيا دول، والمتألم المالك للإصرار واصل إلى ما يريد، والناجح المهمل المتململ من الوصول عائد إلى نقطة البداية. هي الحياة كما هي نمضي بها طولاً وعرضاً، لتقصر وتتطاول أمام بصائر مريديها، ولا يمكن تناولها من زاوية واحدة، وأسّس بها ومن خلالها انطلاقة ترى بعدها جميع الزوايا، ففيها الحلو والمر، والغث والسمين، كما هو حال الصالح والطالح، والجميل والقبيح، ولا ندلل أمام الإنسان عن الحالات التي يمر بها أو تنتابه، وهل استطاع أن يعدد محاسن الجمال، أو أن يهاجم مساوئ القماءة والحسد والأحقاد؟

آمل أن نتجه لنقاش موضوعي يكون محوره درجات التزام الفضيلة ومعاني الرذيلة وكيفية نبذها. أليس الألم شيئاً جميلاً، وجماله يساوي اللذة؟ والذين يشتكون منه أو يسأمونه ويتذكرونه مخطئون، وعندما نصل إلى الحدِّ الكافي من التجارب ندرك كثيراً من المعاني التي تغيّر نظراتنا وأعمالنا وتوجهها نحو سبل جديدة، أو توجد فيها اختلافاً، ألا يجلو الألم صدأ الروح وأفكار العقل، ويطهرها من أخطائها، وينشط الحركة التي تدفعنا للذهاب إلى محاولات جديدة حذرة ولبقة وأشد ذكاءً؟

الألم والنجاح يوحدان الناس، ويقنعان الفرد بحريته، ومن ثمَّ تتحرر المجتمعات بهما، بعد أن ينفلتا من عقال الانتظار، إنهما يطوران مواثيق الحب، ويأخذان بيد المعوزين لبلوغ الأرب، كما إننا نجدهما يجانسان بين المتناقضات الاجتماعية، يوائمان بين المؤمن والكافر، ويجمعان بين العفة والزلل والزهد والطموح، إنهما يتحديان الظلمة، ويمحوان كل أشكال المواربة، يتحدثان عن الهواجس، ويدونان الخواطر، يتجهان إلى اكتشاف الجمال في الصورة، ويقدران البراعة في الأداء، ينصفان في الأحكام، وتظهر الفصاحة لحظة أن يريدا التعبير، إنهما يعلنان الحرب على مفاسد الإنسان وحقاراته، يلعنان الجبن والخجل القائمين في أذهان البشر، إنهما ينتجان الرحمة التي فقدت من نفوس الناس، أو يعيدان إنتاجها، ليصل الإنسان من خلالهما إلى مرحلة تمجيد فضائل نفسه معاهداً إياها بعدم إشقائها، وأن يدعها تختار أشياءها بعناية ودقة، ولن يأخذها إلى الفزع؛ بل سيعمل على إسعادها وإكرامها، لأنها أكرمته بالتألم والفوز معاً.

عرف العرب الألم، ولم يقفوا على الفوز، تناهبتهم مناحيه من عمق تاريخهم الذي يسجل حركتهم ودورانهم في المكان، يتألمون بحكم حميَّتهم وقبليتهم ونزعتهم الدائمة إلى الإغارة على بعضهم، والسبب تعلقهم بأناهم، ومنه نجد أن أنينهم يخصهم، لا يسمعه غيرهم، ولم يقدروا حتى اللحظة على قهره بفوز واحد؛ علمي، اقتصادي، اجتماعي، لماذا يحصل فقط معهم كل هذا؟ هل لأنهم روحانيون لدرجة الإفراط؟

ألا تعتقدون معي أن الإله الواحد الأحد الفرد الصمد ملَّ هذه الأمة التي اكتفت بعبادته، ولم تنجز له شيئاً، رضيت كل الأشياء من دون تعريف، وهو الذي أوجدها من أجل تعريفها، هذه الأمة التي لم تستطع أن تسأل ذاتها ماذا فعلت للحياة التي تتبادل أكلها معها؟ أي ثقافة التهام، كل شيء معرّف وغير معرّف من دون البحث أو الإبداع في المعرفة، ربما تستشعرون أنني أقسو، وإذا أقررتم ذلك فحاسبوني على ما أنحو إليه بغاية إحداث الاستفاقة من الفاقة الفكرية، لأن سوادكم أغنياء بطون، وأنا أسعى لتكونوا أغنياء عقول، فالشمال من الجسد يسكنه العقل، والشمال من الكوكب الحي يسكنه العلم، أين نحن؟ وإذا كنا في الجنوب فماذا يعني لنا الشمال والجنوب؟ هل في الشمال الفوز وفي الجنوب الألم؟ تفكروا معي في الحادث المستمر من الزمن الثابت ونحن المتحرك.

انتهى العصر الذهبي؛ أي عصر النجاح للأمة الإسلامية الذي قادته دمشق، ومنها وصلت إلى جبال البرانس بين إسبانيا وفرنسا، وبغداد التي كادت تقتحم أسوار الصين بعد أن وصلت إليه، وإلى نهايات جبال القوقاز، وبدأ عصر الألم الذي تقدم فيه المغول وبعده التتار، ومن ثمَّ حروب الفرنجة والاستعمار التركي والانتدابات الفرنسية والبريطانية والإيطالية والهولندية والبرتغالية وصولاً إلى الاستعمار الحديث الذي يسيطر على الحكومات، حيث يجني من خلالها ما يريد، فهي التي تجني عنه من دون عناء، وتحصل من خلاله على ما يريد.

إن أمس الإنسان لا يشبه غده، ومعاناته تكمن في خلط أحلامه بآلامه، وماضيه بحاضره بمستقبله، من دون أي تفريق بين ظروفها واحتياجات كل منها، فلا يشفى منها، ولا يحقق ما يصبو إليه، هذا ما فعله العرب بعد ذاك النجاح الأول والأخير في صدر حضورهم الديني الذي هرب من بين أفكارهم، وبقيت أناملهم تحاول لجم الشمس وسرج القمر، وذهب فكرهم للبحث عن الإله من أجل تحقيق ما يصبون إليه بالدعاء من دون عناء، ومن دون الاتجاه للبحث العلمي والتأمل والبحث بغاية الخلاص، إلا أنهم علقوا في القوى اللاواعية السلبية المسكونة في ذاتهم، متناسين الألفة والانسجام، وأنهما صلب الوجود العام، وأنهم تفرقوا، ولن ينجحوا، إلا إذا وصلوا إلى ذاك العقل السامي الذي يقف خلف كل شيء غير معرف، يبحث عنه، ومن ثمَّ فيه، بغاية الالتقاء معه وتعريفه.

أجدني هنا أدافع عن العرب لحظة مكاشفتهم بواقعهم الأليم، المفرط في الانكسار، والمنجرف نحو التبعية والخضوع الممل والمهين، وما أقدمه أعتبره بمنزلة النذير، فهل من منتبه يلتقط اليسير، ويدفع بنا للنهوض والمسير إلى الأمام، ويفعل فعل الحكيم الذي يوقظنا من سباتنا الطويل، وإني لألتمس منكم أن نسأل بعضنا سؤالاً واحداً: هل الأمة العربية أمة واحدة؟ إذا كانت الإجابة بنعم.. فأين هذه الأمة الآن؟ وإن كانت لا.. فمن نحن؟ وهنا أيضاً ينتابني سؤال أدعه برسمكم، أين الأمة السورية تاريخياً والأمة العربية السورية حضارياً، حيث نحن الباقي منها؟ ما حجم إسهامنا العلمي كأمة مجتمعين ومتفرقين؟ ليس أمام العالم، وإنما بين محيطنا، ومعه نسأل عن جميع الإسهامات في الإفادة لنا أولاً: ما حال المشروع الديني المتقدم حتى اللحظة على جميع المشاريع الدنيوية الذي لم تستوعبه، ويحيا فينا بشكل مرعب من دون وعي له؟ ألا تدعونا هذه الأسئلة إلى عدم الاكتفاء بالألم والتألم أمام ما يحاك من محيطنا الذي نهض بشكل كبير ومثير للانتباه؟ فالأمة الإيرانية قامت دينياً من جديد، وعملت علمياً بشكل أوجدها وقدمها بقوة في الإقليم وللعالم من تحت تلك العباءة. والأمة التركية تحاول أن تعيد أمجادها السلطانية، وتعمل على ذلك جاهدة. وحتى هذه الناشئة (إسرائيل) الكيان الصهيوني التي استلبت فلسطين، وعملت فيها وعليها تهديداً علمياً وروحياً في آن، أخذت تهدد القاصي والداني في محيطها القريب والبعيد، فأين نحن فقط من الأخطار التي تحيق بنا وتجتاحنا؟

التخلف مغلف بأثواب دينية، متمكن منا بشكل يدعو إلى المأساة، والتطور العلمي وظيفي لا إبداعي، منفلت وهارب من بين عقولنا، الحروب تنهش أي إنجاز، وما إن تهدأ حتى تندلع، كيف يحدث هذا؟ إنها مسألة فكرية وعلمية، ونحن كما نحن، فكلما سعينا للتطور ظهرت علينا الأزمات، فنتقهقر من جديد، ألا يحق لنا أن نسأل لماذا؟ والأهم متى نجيب أنفسنا، ونتوقف عن رمي مشكلاتنا على الآخر بدل الاعتراف لأنفسنا ووعدها بالاستعداد للفوز وتحقيق النجاح؟.

د. نبيل طعمة