عندما نعترف بالأخطاء تختفي الخلافات ويسود الوفاق الاجتماعي حياة الناس

عندما نعترف بالأخطاء تختفي الخلافات ويسود الوفاق الاجتماعي حياة الناس

شعوب وعادات

الخميس، ١٢ يناير ٢٠١٧

مع أن المشكلة التي حدثت بينهما كان يمكن اعتبارها قصة بسيطة، تُحل بسهولة، وتنتهي بتنازل بسيط من أحدهما، إلّا أن الخلاف تطور، وازداد بين الصديقين الحميمين حين طلب كل منهما الاعتذار من الآخر، ورفض أي منهما تقديمه، فسادت القطيعة، وحُلّت روابط صداقة جميلة، كان يمكن أن تثمر، تماماً كما حدث مع أم هاني حين اختلفت مع جارتها، وتوقفت الزيارات الصباحية فجأة بينهما بعد إشكالية بسيطة بين أولادهما، تماماً كما يحدث مع العديد من أفراد المجتمع السوري حين تسود ثقافة واحدة ومنطق واحد، يتجلى بعدم الاعتراف بالخطأ، واعتبار الاعتذار جريمة بحق النفس وتصغيراً لها، رغم أنها بأعين الحكماء ثقافة راقية، فوحدهم الجهلة يعتبرونها إهانة لذواتهم، وكما يقال الاعتذار عن الخطأ، لا يجرح كرامتك، بل يجعلك كبيراً في عين من أخطأت بحقه، لكن المشكلة فعلاً  في الإقرار بالخطأ نفسه، فمعظم من يرفضون هذه الثقافة، لا يروون أخطاءهم إطلاقاً.
مجتمع مكابر
وربما تكون تلك القصة حالة مصغرة عن قصص أخرى كثيرة، يمكن أن نسمعها، أو نعيشها في مجتمع متشنج، يفتقر لثقافة الصفح عن الخطأ، أو الإقرار فيه حين يرتكبه، يتحدث أبو وائل، وهو رجل أربعيني عن صديقه الذي تشاجر معه في بداية الأحداث بنتيجة موقف كل منهما وآرائه، فتحولت الصداقة إلى عداء وكره، واستحالت العودة إلى سابق العهد حتى رغم تغير قناعات كل من الصديقين في وقت لاحق، ويعترف أبو وائل بعد استفسار منه عن تفاصيل الخلاف، فيقول: لا أعتقد أنني كنت محقاً في كل شيء، وربما كان صديقي مصيباً في بعض المواضع والنقاط الخلافية التي تسببت في موت صداقتنا، لكن لماذا لا يبادر هو للسؤال والاعتذار، ويمضي في حديثه “أنا ما بحطا واطية لحدا”، والكرامة فوق كل شيء، ويتكرر الأمر في قصة أخرى يرويها ينال الطالب الجامعي الذي عتبت عليه صديقته حين لم يكتب لها في يومياتها الافتراضية مهنئاً بعيد ميلادها، فيقول: غريب أمر الصداقات اليوم، رغم أنني اتصلت مع صديقتي تلك هاتفياً، متمنياً لها يوماً سعيداً في يوم ميلادها، لكنها عتبت على أمر تافه كان سبباً في انتهاء الصداقة بيننا دون أن يعتذر أي منا للآخر.

مصطلحات اجتماعية
ويبدو أن مصطلحات اجتماعية أخرى، باتت تندرج اليوم في المفهوم الشعبي للمجتمع السوري، فحين اجتمعت مجموعة شبان جامعيين في بهو كلية العلوم بجامعة دمشق، كان أحدهم يُفاخر أمام أقرانه أنه “قطع كرتاً” لأحد أصدقائه بسبب موقف حدث بينهما، والملفت أن تصرف ذلك الشاب لاقى استحساناً وترحيباً من المستمعين ممن  أصبح لهم ذلك المصطلح مألوفاً واعتيادياً دون أن يقفوا على أسباب الخلاف، أو يحاولوا حله، وربما تشير تلك المصطلحات السائدة إلى جهل في مجتمعنا بأساليب الاعتذار، فتستمر المكابرة واعتبار الاعتذار هزيمة أو ضعفاً، وانتقاصاً للشخصية والمركز والمنصب، لنبدو في حرب مستمرة مع الآخرين، فلا يعتذر المعلم، أو الطبيب إن أخطأ، لأن في ذلك انتقاصاً من مكانته الاجتماعية، وتشويهاً لسمعته، والأمر نفسه في الأسرة، فتنصح الأم ابنتها بعدم الاعتذار لزوجها، والزوج يقوم بتصرف مماثل بدافع من مصطلحات شعبية، وأعراف سائدة في المجتمع، وهكذا.

ثقافة معاكسة
في المقابل لا يخلو المجتمع من ثقافة شعبية أخرى تؤمن بالاعتذار، وتعمل على نشره قولاً وفعلاً كسلوك حضاري، وفن يؤسس لبناء مجتمع سليم تنتشر فيه الألفة والمحبة، بعض من التقيناهم تحدثوا بأنهم على استعداد دائم لقول كلمة “أنا آسف”، والاعتذار عن سلوك أو تصرف خاطئ بحق الآخرين، فمثلاً، تقول رانيا، الطالبة في كلية الآداب، قسم اللغة الفرنسية: إن الاعتذار ينم عن شخصية مثقفة واعية منفتحة على الآخرين، وهي غالباً الطرف الأقوى الذي يتفهم المشكلة، ويعمل على حلها، ودون أن تقيم المواقف التي مرت في حياتها تختصر بالقول: حين أخطئ أنا مستعدة للاعتراف بخطئي، والاعتذار، أما إسماعيل، وهو شاب ثلاثيني، فيقول: الاعتذار قوة، والصفح عن الخطأ قوة أيضاً، وهو مهارة اجتماعية تتطلب منا التواضع، والإصغاء للآخرين، وعدم التقليل من آرائهم، ويختم مستشهداً بما أوصى به لقمان الحكيم ولده حين قال: “ما اختصم اثنان يا بني إلا لأن صدر كليهما ضاق بمعارضة الآخر”.
الشخصية القدوة
يعزو الدكتور أمين شيخ محمد، اختصاصي الإرشاد النفسي في كلية التربية بجامعة دمشق، حالات الاعتذار، أو الإقرار بالخطأ بشكل أساسي، إلى نمط الشخصيات السائدة في أي مجتمع، ويقول: ربما تكون الظروف أو الأحداث الاجتماعية قد لعبت دوراً في انتشار ثقافة الإقصاء، أو عدم قبول الآخر، وفي موضوع الاعتذار، لكن العوامل البيئية والمحيطة ليست أساسية في التأثير كما هو حال التربية، والشخصية، لذلك من الخطأ أن نطلق مصطلحاً يسمى ثقافة الاعتذار، لأنها أمر مرتبط بشكل أساسي بأنماط الشخصية، فمهما كانت الظروف تبقى الشخصية المرنة مبادرة إلى قبول واستيعاب الطرف الآخر، والاعتذار أو الإقرار بالخطأ، وتبقى الشخصية العنيدة من أكثر الفئات المجتمعية تصلباً وتحجراً حين ترفض الإقرار بالخطأ والاعتراف به، ويتحدث د. أمين عن أمر في غاية الأهمية هو انتشار نماذج من القدوة الحسنة في مستويات اجتماعية رفيعة، فالعامل مثلاً حين يجد أن مديره، أو المسؤول المباشر عنه، يبادر إلى الاعتراف بخطأ ارتكبه، سيكون الأمر مشجعاً له ليتخذه سلوكاً في المستقبل، كذلك بالنسبة للتلميذ، ومعلمه، والأسرة، ورب منزلها، ويختم الدكتور أمين: كرأي شخصي يفتقر لدراسات علمية دقيقة، أرى أننا حتى الآن مجتمع يفتقر إلى ثقافة الاعتذار- إن قبلنا التسمية مجازاً– ويمكن القول: إننا مجتمعات محبة للأنا، وهو ما يتطلب منا العمل على موضوع التربية، ونشر نماذج القدوة الجيدة في المجتمع.

محمد محمود