جدل البوركيني والنقاب.. بقلم: ورد كاسوحة

جدل البوركيني والنقاب.. بقلم: ورد كاسوحة

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٢ أغسطس ٢٠١٦

النقاش الذي أثارته قرارات عدّة بلديات في فرنسا بحظر ارتداء لباس البحر المخصّص للمواطنات الفرنسيات من أصول مسلمة (البوركيني) يُعدّ من حيث الشكل على الأقلّ استكمالاً لنقاشات سابقة أُُثيرت في عام 2009 على خلفية قرار الحكومة حظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة.

حينها انقسم الرأي العام داخل فرنسا وخارجها بين مؤيّد للقرار ومعارض له، ولكن الجسم السياسي كان واضحاً أكثر في انحيازاته، إذ أيّد اليمين بمعظمه والذي كانت تمثله حكومة ساركوزي وقتها قرار الحظر بينما رفضه اليسار مُمثلاً بالمعارضة التي كان يقودها الحزب الاشتراكي. هذا الانقسام كان انعكاساً للصراعات الاجتماعية الأخرى التي كانت تحصل في فرنسا وأوروبا عموماً، والتي كان يُبدي فيها المجتمع بتأثير من «القيم الجمهورية» مناعةً واضحة تجاه قضايا التمييز على أساس الهوية الدينية أو الطائفية. ولذلك عُدَّ القرار بحظر النقاب حين صَدَر عن الحكومة بعد مناقشته في البرلمان بغرفتيه إشكالياً وباعثاً على انقسامات لا قِبَل للمجتمع الفرنسي بتحمّلها. «الرفض» وقتها والذي أتى من اليسار تحديداً استند إلى هذه المناعة في مجابهته لمحاولات اليمين جرَّ المجتمع إلى حيّز الاستقطاب على أساس الهوية. وقد أفلحت المحاولة حينها لأنّ المدافعين عن «الحقوق الثقافية» للأقليات كانوا كثراً، ولأنّ فاعليتهم كانت مرتبطة بمناعة المجتمع الفرنسي والأوروبي عموماً تجاه ظواهر مماثلة. هكذا، نجحت محاولتهم في إبقاء القرار ضمن حيّز الصراع السياسي، وتمّ في ضوء ذلك تحميل اليمين وحده مسؤولية ما حدث، على اعتبار أنه جرَّ مؤسّسات الدولة إلى تنفيذ قرار يخدم أجندته هو لا أجندة الفرنسيين أو مصالحهم. وعلى هذا الأساس اعتُبر القرار بالتخلّي عن سياسة عدم التمييز المتبعة منذ عقود في فرنسا شأناً سياسياً خاصّاً بالسلطة السياسية وقتها، وهو ما أبقى الدولة نظرياً على الحياد على الرغم من تبني أجهزتها الواضح لسياسات اليمين الخاصّة بمعاقبة المهاجرين على «عدم اندماجهم الكامل» في المجتمع الفرنسي.

من النقاب إلى البوركيني

حين أُُخِذ القرار بذلك في عام 2009 كان المجتمع الفرنسي لا يزال يعاني من تبعات أحداث الضواحي في عام 2005، وهي أحداث تورّطت فيها أجهزة الدولة عبر الانحياز السافر ضدّ المهاجرين. ولكن على مستوى الخطاب فإنّ اليمين هو الذي هو كان يبلور الاتجاه العام تاركاً لأجهزة الدولة دوراً تنفيذياً فحسب. هكذا، بقيت أجهزة الدولة بفعل هيمنة اليمين على توجهاتها في موقع سلبي، تنفّذ ما تأمرها به السلطة وتترقّب نتائج تحويل اليمين دفاع المهمّشين المستميت عن حقوقهم إلى صراع على هوية الدولة. من جهة فإنّ ذلك لم يكن في مصلحة المدافعين عن حقوق الأقلّيات، ولكنه سمح من جهة أخرى لليسار الذي يخوض المعركة باسم المهاجرين بتحسين شروط الصراع، عبر منع اليمين من تحويله إلى صراع هويات.
ساعده في ذلك السياق السياسي الذي لم يكن قد شهد بعد هذا القدر من الحضور للتنظيمات الفاشية والتي يصبّ خطابها في النهاية لمصلحة اليمين بأجنحته المختلفة. أمكن على ضوء ذلك فكّ الاستقطاب قليلاً، عبر نقله من الحيز الاجتماعي الذي يخدم أجندة اليمين إلى داخل المؤسّسات المنتخبة التي تكون فيها فرص الدفاع عن «القضايا العادلة» متساوية كونها تمثّل المجتمع على نحو مقبول وتتيح للمجموعات الخاضعة للتمييز فيه فرصة مناسبة للدفاع عن نفسها. هذا الحضور على المستوى السياسي المباشر ضاعف من أهمية القضية، وأكسبها شرعية إضافية. وبذلك لا تكون شروط خوض المعركة هي التي تحسنت فقط، بل أيضاً إمكانات النجاح فيها عبر انتزاع تأييد قطاعات كانت حتى الأمس القريب متردّدة بشأن اتخاذ موقف محدّد من قضية المهاجرين وحقوقهم. وحين كان اليسار يفعل ذلك بالاعتماد على دعم شعبي واسع لم يكن يدافع عن حقوق الأقلّيات فحسب، بل كذلك عن نفسه، وعن حقّه في الحفاظ على مبدأ عدم التمييز الذي لا يقوم دستور من دونه، وإذا قام فلن يكون عندها دستور لكلّ الفرنسيين بل لبعضهم، وهذا البعض هو الذي يفرح الآن لإتيان «داعش» على حقوق المهاجرين بعد صعودها «المفاجئ» على حساب قضيتهم.

خاتمة

بالإضافة إلى ارتباط كلّ ذلك بالسياق السياسي- الذي لم يكن قد تدعشن بعد - فإنه كان مرتبطاً أيضاً بقدرة المجتمع الفرنسي على عدم ترك أجهزة الدولة تنصاع لليمين في سياساته المعادية المهاجرين والمركّزة على ربط قضية الهجرة بصعود «داعش» وباقي التنظيمات الفاشية. هذا الربط هو الذي يجعل حالياً من الدفاع عن ارتداء البوركيني دفاعاً عن «داعش» وعملياتها، بدلاً من أن يكون- كما هي الحال فعلاً- دفاعاً عن طقس اجتماعي تمارسه هذه الأقلية الاجتماعية أو تلك أثناء ارتيادها البحر. وهو بالضبط ما أضعف من حجج اليسار وجعله في هذه اللحظة تحديداً خلافاً لمرّات سابقة يصطفّ وراء اليمين، ويزايد عليه أحياناً في مهاجمة من يرتدين البوركيني. هذه المزايدة التي انبرى لها بكلّ صفاقة مانويل فالس لا تدلّ على تراجع اليسار أو تحوّله إلى سلطة فحسب بل أيضاً -وهذا الأهم- على قبول المجتمع الأوروبي بهذا التراجع. المؤشّر هنا ليس خطيراً فقط بل هو دلالة أيضاً على مرحلة انتقالية تمرّ بها هذه المجتمعات، وفي هذه المرحلة لا يتراجع مبدأ عدم التمييز فحسب، بل تموت السياسة أيضاً بوصفها -في مكان ما- إنصافاً لمن تأتي أجهزة الدولة حين تنحاز بهذا الاتجاه أو ذاك على حقوقه ومكتسباته.