من «الفدائي» إلى «الانتحاري» ومن «فتح» إلى «داعش»

من «الفدائي» إلى «الانتحاري» ومن «فتح» إلى «داعش»

تحليل وآراء

الاثنين، ٥ سبتمبر ٢٠١٦

ألا يا لهذه الحقبة الذهبية من تاريخ العالم المعاصر، تلك التي أطلق عليها خبراء العلاقات الدولية «مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية» أو «ما بعد الحرب» وكفى Post ـ War era. لقد شهدت العصور الحديثة بالمعنى الأوروبي، أي منذ مطلع القرن السادس عشر وعلى مدى خمسة قرون تقريباً، اختلالاً خطيراً على المستوى العالمي، إثر انحسار موجة الازدهار الحضاري العربي ـ الإسلامي، وانطلاق حركة «الاستعمار الأوروبي» لعوالم ما وراء البحار في إفريقيا وآسيا و «العالم الجديد ـ الأميركيتين». وقد حدث اختلال التوازن الخطير كمحصلة البروز المتوهج لأوروبا الغربية على مستوى التقدم الإنتاجي والنظام الاقتصادي والكشوف الجغرافية، مقابل انزواء مظلم للعالم الاسلامي ونواته العربية، لولا ظهور تركيا العثمانية بعد فتح القسطنطينية كشاهد رمزي لانهيار الامبراطورية البيزنطية في العام 1453، ثم انتشار النفوذ العثماني شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً على امتداد «العالم القديم».
مع نهاية الحرب العالمية الثانية انبثق عالم جديد حقاً، ووقع تغير هيكلي في بنية النظام العالمي. حدث توازن بنّاء عميق لأول مرة في العصر الحديث، يختلف عن ذلك التوازن الهشّ غير البنّاء عبر القرون الخمسة الأخيرة، ذلك التوازن الذي فرضته «قوة النار والسلاح» الاستعمارية على آسيا وإفريقيا ومعهما العالم اللاتيني في القارة الأميركية من بعد، فيما سمّي لاحقاً بالعالم الثالث.
كما يختلف توازن «ما بعد الحرب» عن الصيغة التعادلية على مستوى القارة الأوروبية الاستعمارية عقب عقد «معاهدة وستفاليا» في العام 1648 التي دشّنت عصر الدولة الوطنية الحديثة في أوروبا والعالم (nation state) آخذة منهج «توازن القوى» بين الدول الأوروبية، وهو ما ترسّخ بعقد «معاهدة فيينا» في العام 1815 بجهد خاص من داهية السياسة وزير الخارجية النمساوي متيرنخ.
كان توازن (وستفاليا ـ فيينا) قائماً على تعددية مفرطة بين الدول المعنية، برعاية عدد قليل من الدول الأوروبية القائدة، ولكن مع دور خاص لبريطانيا باعتبارها حامية أو حافظة التوازن Balancer. وبرغم ما حققه ذلك التوازن من استقرار دولي أوروبي، مكّن «القارة العجوز» من التوسع الاستعماري واقتسام المستعمرات، كما بدا في اقتسام أفريقيا بين دول أوروبا الكبيرة في مؤتمر برلين في العام 1884، فإن التوازن حمل في أحشائه بذور الاختلال، خاصة من جراء ظهور ألمانيا الموحدة، إثر انتصارها المذّل على فرنسا ـ بقيادة المستشار الألماني الكبير بسمارك. وكان الحدث الفاصل هو إعلان بسمارك قيام ألمانيا الموحدة من قصر فرساي بالعاصمة الفرنسية في باريس، كشاهد رمزي لم تخطئه الأعين.
بدءاً من تلك اللحظة بدأ انبثاق تشكّل نظام دولي ـ أوروبي كتلوي على أنقاض «توازن القوى» التعددي، وكانت الكتلتان المتواجهتان قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى: كتلة ألمانيا ـ النمسا ـ تركيا ثم إيطاليا واليابان، مقابل كتلة: بريطانيا ـ فرنسا ـ روسيا حتى ثورة 1917 ثم الولايات المتحدة عند نهايات الحرب، هما من خاضتا الحرب التي اكتوت أوروبا بنارها، ونقلت حرائقها إلى عالم المستعمرات الكبير.
هزمت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وجرى إذلالها من خلال معاهدة الصلح وتحويل فائضها الاقتصادي لتمويل تعويضات الحرب، وقد مهّد الإذلال العسكري والاقتصادي لظهور هتلر، واجتياحه أوروبا الشرقية والوسطى في العام 1939 إعلاناً عن قيام حرب أوروبية ـ بل عالمية ـ كبرى فيما بعد خلال فترة 1939 ـ 45، وانتهت بهزيمة دول المحور: ألمانيا وإيطاليا واليابان، مقابل انتصار «الحلفاء»: بريطانيا وفرنسا ثم الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. وبانتهاء الحرب أعيدت هيكلة الحلفاء أنفسهم ـ هكذا تحولت أوروبا الغربية إلى نصف قارة محتاجة إلى «إعادة التعمير»، ونهضت الولايات المتحدة كقائدة بلا منافس لمعسكر غربي ـ رأسمالي، وأمامها الاتحاد السوفياتي كقائد غير منازع لكتلة شرقية ـ اشتراكية أقل قوة، ولكنها متوازنة عسكرياً ونووياً مع «الغرب الرأسمالي». ومهّد كل ذلك لانبثاق وتطور حركة عالمية كبرى داخل المستعمرات الأفريقية والآسيوية من أجل التحرر الوطني شكّلت الكتلة الثالثة في عالم ما بعد الحرب. لقد ظهر آنئذ عالم تحرري ثالثي جديد، خاصة باستقلال الهند (1947) والصين الأم بزعامة ماو تسي تونج (1949). وانتشرت حركة التحرر انتشار النار في الهشيم، حتى طالت الوطن العربي خاصة عقب نكبة فلسطين وإعلان قيام الكيان الصهيوني في 15 أيار 1948.
كانت «ثورة 23 يوليو» 1952 في مصر هي الشرارة التي أعقبتها حركة ثورية عظمى على امتداد المنطقة العربية شرقاً وغرباً، خاصة مع ظهور الثورة الجزائرية (1954 ـ 62) وقيام دولة الوحدة المصرية ـ السورية (1958 ـ 1962) وثورة اليمن (1962) وثورة العراق ضد الحكم الملكي (1958) والغليان السوري المستمر حتى إنجاز «الجمهورية العربية المتحدة» بالاندماج المصري ـ السوري الكبير.
هكذا ولدت وتطورت حركة التحرر الوطني ـ القومي العربية، كحركة ثورية، قاعدتها مصر (الجمهورية العربية المتحدة) خلال أربع سنوات إلا قليلا، من 5 شباط 1958 حتى 28 أيلول 1962، وقائدها، ساكن «قصر القبة» في القاهرة جمال عبد الناصر، خاصة منذ موقعة بور سعيد في العام 1956 (إثر تأميم قناة السويس) حتى 28 أيلول 1970 تاريخ وفاة «الزعيم»؛ وفى قول آخر حتى الخامس من حزيران 1967، تاريخ العدوان الإسرائيلي الكبير.
كان ثمة توازن عربي يستند إلى ركن ركين، أحد الجبال الرواسي لعالم ما بعد الحرب، داخل مجموعة الدول النامية (اقتصاديا) وحركة عدم الانحياز (سياسيا) والعالم الثالث (حركياً وعقائدياً)، ذلك الركن الركين هو الحركة القومية في الوطن العربي بقاعدة مصرية وقيادة ناصرية هو توازن عربي غير هشّ يقوم على «مركز ثقل» معترف به تمام الاعتراف.
وهذا التوازن العربي يقابله توازن دولي غير هشّ قبل ذلك، ويقوم على الثقليْن: الغرب والشرق، أوروبا وأميركا من أمام الشرق الأوروبي والاتحاد السوفياتي (وكذا الصين حتى 1959 تقريباً)، وهذان الثقلان هما أيضاً النظامان الاقتصاديان ـ الاجتماعيان المختلفان: الرأسمالية والاشتراكية.
شاءت أقدار التاريخ العجيبة أن يقع العدوان الاسرائيلي في العام 1967 وما أعقبه من «نكسة» عسكرية، متزامنا بالتقريب مع بدء انحدار الاتحاد السوفياتي اقتصاديا وسياسيا في نحو العام 1968.
وقد أخذ «فابيوس» الرأسمالي ـ الغربي ـ الأميركي ينسج على مهل خيوط العنكبوت الحريرية ـ الحديدية منذئذ، وعلى مدى ما يقرب من عشرين عاماً، حتى تمّ له الانهيار الموعود لـ «الإمبراطورية» السوفياتية في العام 1991.
وتشاء الأقدار أن يتزامن السقوط «الرسمي» للاتحاد السوفياتي مع بداية سقوط «رسمي» آخر لركن التعارض مع «مصر ـ السادات» الذى كان يحمل أملاً ما بتخلق توازن عربي بديل، نقصد العراق في ظل الرئيس صدام حسين، من خلال ما سمي «حرب الخليج الثانية» إثر اجتياح الكويت، بعد حرب أولى في الخليج مكثت ثماني سنوات بين العراق وإيران الجديدة التي انبعثت بعد ثورة 1979 الاسلامية ـ الخمينية ضد الحكم الشاهنشاهي ومنظومة تحالفاته الاقليمية والدولية.
انهار إذاً التوازن الدولي لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بشكل كلّي، إلى حد أن يعلن جورج بوش ـ الأب مفجّر «حرب تحرير الكويت» ضد العراق، قيام «النظام الدولي الجديد»، في دلالة لا تخطئها العين على ارتباط انعدام التوازن العالمي بعدم الاتزان العربي، وإن لم يعلن أحد أبداً من بعد ذلك قيام «نظام عربي جديد»!
وعلى أنقاض السقوط المدوّي لتوازنات ما بعد الحرب عالمياً، قامت القوة العظمى الوحيدة لتطيح العروش والجيوش، وتلحق أوروبا الشرقية بنظيرتها الغربية، وتدمج كثيراً منها في الحلف العسكري «الناتو». وعلى إثر ذلك أعلن قيام العولمة كنقيض للدول الوطنية، ونهوض «الانتماءات الصغرى» المكبوتة زمناً طويلاً ـ عرقية ولغوية ودينية ومذهبية ـ لتأخذ حظها في مواجهة الكليات الراسخة تاريخياً من قبل.
وعلى أجنحة من «نظام اللانظام» الدولي الجديد، وعولمة الهيمنة الرأسمالية، وتجلّي نزعات التمذهب الصغرى من كل حدب وصوب، مضى العالم الجديد لينسج خيوط حقبة «السلام الأميركي» كما يقال Pax Americana وبلغت الموجه الهادرة ذروتها بصعود «المحافظين الجدد» إلى سدّة السلطة في الولايات المتحدة في العام 2000.
خلا «الجو» للمجانين فعاثوا في الأرض فساداً، خاصة بغزو أفغانستان عقب هجمات أيلول 2001، ثم غزو العراق في العام 2003 فيما أسماه دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي بخوض «حربين في وقت واحد»! ومضت تكرّ حبّات المسبحة عربياً، مع انحسار الدولة الوطنية ومع صعود الهويات الجزئية، طائفياً ومذهبياً وعرقياً ولغوياً، مع تجربة ذلك فعلياً في عملية حكم العراق تحت الاحتلال من خلال «المحاصصة».
ومن حرب أفغانستان ولدت «القاعدة» بزعامة أسامة بن لادن، ثم من حرب غزو العراق ترعرعت «القاعدة» ثم انبثقت «داعش» بزعامة البغدادي.
وكانت ـ في ذورة الحركة القومية العربية أول كانون الثاني 1965 بالذات ـ ولدت حركة «فتح»، ومعها ولد «الفدائي» كنموذج بشرى عربي جديد، يضع روحه على كفّه رخيصة في سبيل الوطن، ولحقت بها بعد عدوان حزيران مباشرة حركات نظيرة وخاصة «الجبهة الشعبية»، وتعمّق على إثر ذلك النموذج البشري العربي الجديد: الفدائي، أو المقاوم. وظل هذا النموذج يلهم جيلاً بأكمله وما هو أكثر، مروراً بانتفاضة «أطفال الحجارة» 1988 وانتفاضة «الأقصى والاستقلال» 2000 ـ 2003، حتى تحرير الجنوب اللبناني بأيدي المقاومة في العام 2000، ثم في ظل حرب إسرائيل على لبنان في العام 2006.
ظهر «الفدائي» إذاً في عصر التوازن العربي الراسخ، يسنده الجبل الراسخ على قمة «قصر القبة» في القاهرة ـ العامرة، وكان ذلك عصر التوازن الدولي قبل أن تغيب شمس السوفيات اعتباراً من 1968.
ولقد حدث ـ كما أشرنا ـ انعدام للوزن والتوازن دولياً وعربياً، ومع إطلاق العنان للعولمة والرأسمالية، وإعطاء إشارة الإيذان لهدم كيان الدولة والدولة الوطنية، وتتويج الهويات الصغيرة بدلاً منها، تصاعدت نزعات التسلطية «الدولوية» Statist في عديد الدول العربية خاصة خلال فترة 1980 ـ 2010. وقد ارتطمت حينئذ أجزاء المجتمع العربي والدولي وانفتحت أمام أمواج الاختراق الأجنبي سراعاً تحت دعاوى متبانية. وكانت الذروة ظهور «القاعدة» ثم «داعش» وتعملق هذه الأخيرة على حين غرّة، من باطن عملية سقوط النظام العراقي السابق بتداعياته المأساوية منذ 2003.
وفى مقابل الشاهد الرمزي لفدائي 1965 و1967 و1970 و2000 و2006، نهض الشاهد الرمزي الجديد لحقبة اختلال التوازن القانية، لتعيد صبغ أو صياغة حيواتنا بلون الدم. هذا الشاهد الرمزي الجديد هو «الانتحاري» سليل «القاعدة» و «داعش»، ذلك النموذج البشرى الجديد الذي يحمل روحه على كتفه رخيصة من أجل «اللا شيء» في ميزان العقل والروح، من أجل العدم.
ولكنّا في شوق نكابده لم نزل، سعياً إلى استلهام نموذج الفدائي الفلسطيني، ونموذج حركة «فتح» ـ كرمز فحسب ـ على مستوى التنظيم الشعبي، وكذا استلهام زعامة الجبال الرواسي ـ في مستوى «الاقليم القاعدة» على رأي نديم البيطار ـ وذلك لكيْ نعيد صبغ سماواتنا المعذبة باللونين الأبيض والأزرق، بديلاً للون القاني الذي بتْنا نمقت حمرته التي كنا لطالما جعلناها رمزاً لحبنا البشري المختال عبر العصور.