الإسلام السياسي ما بعد «داعش».. بقلم: سعادة النابلسي

الإسلام السياسي ما بعد «داعش».. بقلم: سعادة النابلسي

تحليل وآراء

الخميس، ١٥ سبتمبر ٢٠١٦

أربع وعشرون سنة مضت على نشر الكتاب الذي أراد له كاتبه أن يكون بمستوى النبوءة، وربما بمقام المآل والحتمية التاريخية لولادة حقبة «ما بعد الإسلام السياسي». ففي «فشل الإسلام السياسي» الصادر العام 1992، بيّن أوليڤيه روا مسارات التحول ومآلات التجربة الإسلامية ككل. وقد جاء استعجال روا في رسم مستقبل «الإسلاموية» تبعاً لأطروحة ما بعد الإسلام السياسي Post-Islamism، محمولاً على إخفاقات الحركات الإسلامية سواء في التوفيق بين الدين والسياسة أو تقديم نموذج دَوْلي ناجح. وهي عجلة، وإن أنتجت ضعفاً بنيوياً في كامل الأطروحة، إلا أنها أغوت مَن هم بمستوى روا للسير على خطاه في رسم ملامح تلك الحقبة المستقبلية المتخيلة. فما كان لروا سوى أن عاد بعد ذلك بعشرة أعوام لتطوير طرحه الذي، وإن بدا استكمالاً لما بدأه في «ما بعد الاسلام السياسي»، إلا أنه ركز على «تحول» هذا الإسلام إلى «إسلام اجتماعي» وفق ما جاء في كتابه «الإسلام المعولم».
في المقابل، في كتابه «جهاد: انتشار وانحسار الإسلام السياسي» الصادر العام 2000، حاول جيل كيبل تقديم مقاربة جديدة لما بعد الاسلاموية، من زاوية مغايرة لما قدّمه مواطنه أوليفيه روا. حيث عدّ كيبل الاسلاميين الراديكاليين في عداد «الثوريين» الذين تشبه تجربتهم تجربة أندادهم الشيوعيين، وذلك في الحقبة الممتدة من اندلاع الثورة الايرانية حتى إصدار الكتاب. وفي رصده لمسار انتشار الاسلام السياسي وممارساته السياسية والعسكرية طوال الربع الأخير من القرن المنصرم، يخلص كيبل إلى أن العنف الذي وسم سلوك الإسلاميين في التسعينيات من القرن الماضي دليل ضعف وتفكك. وهو يجد أن ارتفاع منسوب هذا العنف مصحوباً بزيادة ضغط الأنظمة والانفضاض الشعبي والتوجّس الدولي، أمور دفعت تيارات فاعلة من هذه الجماعات للبدء بـ «المراجعات». وقد شكّلت المراجعات الفقهية – ذات الطابع السياسي بالضرورة ـ انفصالاً بيّناً عن النواة الصلبة للطرح الإسلامي «الثوري» في تلك الحقبة، من حيث نبذ العنف والتشريع للدخول في العملية السياسية. وتشكل هذه المراجعات بنظر كيبل إحدى ملامح «المابعدية» المذكورة، التي تشي بانتهاء الإسلام السياسي وولوج الحداثة من بوابة المشاركة السياسية والدولة المدنية.
أما الباحث الأميركي الإيراني الأصل آصف بيات فقد اجتهد في وضع تعريف وإطار واضح لـ «ما بعد الإسلام السياسي»، متضمّناً بُعدَين اثنين. أولهما يعبّر عن «حالة» لاحقة للانفلاش «الثوري» للإسلام السياسي عرّفها بـ «الإسلام المقاتل»، وثانيهما يتصل بصلاحيته كـ «مشروع»، مع ما يثيره ذلك من نقاش وتساؤلات حول سيرورة ومآلات الإسلام السياسي. إذ إن هذه الحالة لا تشي بالقطع مع الإسلام السياسي ولا تحمل طرحاً علمانياً، بل هي محاولة لتديين ركائز الدولة الحديثة. فمن دمج التديُّن بالحقوق، والإيمان بالحرية، والإسلام بالتحرر، يحاول بيات إضفاء طابع حداثي على الطرح الإسلامي. وهو طرح سيصل بالإسلام السياسي المشدود إلى الصبغة الدينية المتمحورة حول «الواجبات»، إلى صيغة حداثية تتمحور حول الحقوق، وإلى التعددية عوضاً عن حكم الفرد (الخليفة/ السلطان)، وإلى تاريخية النص بدلاً من الجمود الذي يعبَّر عنه بالشريعة. ولسوف يفرض هذا «المشروع» نبذ الإسلاميين للإرهاب المسلّح الممارس باسم «الجهاد» للوصول للسلطة والارهاب الفكري الممارس باسم «التكفير» لإسقاط الشرعية عن السلطة، لصالح المشاركة بالانتخابات والقبول بقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان.
وبين تجربة «الإصلاحيين» غير الناجزة في إيران، التي ألهمت بيات لتقديم طرحه بمزيد من التفاؤل، والتجربتين الناجزتين لكل من «العدالة والتنمية» في تركيا و «جمعية نهضة العلماء» في إندونيسيا، طفا على السطح مفهوم جديد. ففي ربطه الإسلام كتجربة روحية بروح العصر، سك الأميركي ألكسندر أليفيانتو مفهوم «الإسلام التقدمي» Progressive Islam، الذي يعكس محاولة للجمع بين التعاليم الأساسية للإسلام والليبرالية الغربية بركائزها المتمثلة بالديموقراطية وحقوق الإنسان والتعددية الدينية.
«الربيع العربي» خريف الإسلام السياسي
بالقدر الذي شكّل فيه ما عُرف بـ «الربيع العربي» لحظة فارقة، لمّا تنتهِ بعد في تاريخ شعوب ودول المنطقة العربية ككل، فإنه لا شك في أنه كان مخبراً حقيقياً للإسلام السياسي وأطروحة «ما بعد الإسلام السياسي» على السواء. فقد شكّل الإسلاميون، لا العمود الفقري فحسب، بل كامل الجسم الاحتجاجي على السلطة، وإن تنكّر أحياناً بقشرة علمانية هنا وخطاب ليبرالي هناك. وقد شهد الميدان الممتد على كامل المنطقة العربية تسنّم الإسلاميين للسلطة «مشاركةً» كالمغرب وتونس ومصر أو محاولة الوصول إليها «مغالبةً»، كما هو الحال في ليبيا قبل القذافي وبعده وفي سوريا لغاية كتابة هذه السطور. وكون الإسلام السياسي اصطلاح سيّال، فإن الحركات المندرجة في سياقه تحتمل هذه السيولة، ما يعكس اختلافات سواء بالاجتهاد أو الممارسات السياسية. فنموذج «النهضة» التونسي يختلف عن نظيره «الإخواني» المصري و»العدالة والمساواة» المغربي. لكن برغم هذه الاختلافات، فإن إزاحة الإسلاميين ديموقراطياً في تونس، وشعبياً مشفوعاً بالعسكر مصرياً، والغرق في مستنقعات الدم سورياً وإلى درجة ما عراقياً ويميناً، وضع صلاحية الإسلام السياسي للحكم الرشيد على المحكّ. حتى أن الصور الأخرى لحكم الإسلاميين التي رأى فيها البعض نموذجاً حياً لـ «ما بعد الإسلام السياسي» كـ «العدالة والتنمية»، مع ما صاحبها من نزوع متسارع نحو السلطوية ومركزة النفوذ وقمع الحريات السياسية والصحافية، وضع ما يُراد أن يكون تمثلاً أميناً لـ «ما بعد الإسلام السياسي» على المحك أيضاً.
الإخفاق المتفاوت للإسلام السياسي وما بعده في الدول التي تسنّم فيها الإسلاميون السلطة، تدفعنا لمراجعة طرح «المابعدية» للإسلام السياسي، ما يشي بانخفاض القدرة التفسيرية للطرح. فلو ضربنا صفحاً عن النقد الذي وجّهه فرانسوا بورغا لطرح «ما بعد الإسلام السياسي» من زاوية اعتباره شكلاً من أشكال مقاومة الاستعمار في كتابه «الإسلام السياسي صوت الجنوب»، متساوقاً في ذلك مع طرح النفيسي الذي اعتبر القاعدة «الردّ الاستراتيجي للأمة»، فإن للنقد وجوهاً أعمق وأوجب لناحية مسّها جوهر المفهوم وشموليته وصلاحية ما انبثق عنه.
وتشكل سيولة الحالة الإسلامية وتعددها العقبة الكأداء التي تواجه شمولية المفهوم، وبالتالي قدرته على تفسير عموم هذه الحالة. فمفهوم «ما بعد الإسلام السياسي» يكاد ينحصر في الحركات الإسلامية التي آلت ممارساتها «الكفاحية» وخبرتها «الجهادية» إلى برنامج سياسي لحزب يطمح للوصول الى السلطة أو تقاسمها، وهي حالة تكاد تكون لصيقة بالحركات الدائرة في فلك «الإخوان المسلمين». لكن ماذا عن الخزان السلفي الهائل الذي وقعت على عاتقه مقارعة السلطات القائمة في ساحات العمل الإسلامي كافة من منطلق نفي الشرعية عنها وتكفيرها؟ وأين يقف «ما بعد الإسلام السياسي» من أيلولة الحراك الاسلامي في كل من سوريا والعراق إلى «خلافة داعش»؟
وإذا نظرنا للمفهوم من حيث كونه يمثل «ما بعدية» ما، وبالتسليم بأن المابعدية تلك قد تشي بـ «التحول» وليس بـ «القطيعة» أو «التجاوز»، ما يحفظ بعض خصوصيات الحالة السابقة، فإنه لا شك ينطوي على انحيازات معرفية واضحة. فالمابعدية هذه لها ما يشبهها في الأدبيات الغربية من «ما بعد القومية» و «ما بعد الكولونيالية» وحتى «ما بعد الاستعمار»، وهي إسقاط غير موفق لـ «ما بعد المسيحية» على حالة مغايرة تماماً هي الحالة الإسلامية. فـ «ما بعد المسيحية» كانت نتاجاً لـ «قطيعة معرفية» ناجمة عن الثورة الفلسفية التي انتهت بالتنوير في الغرب. أي أنها نتاج مجهود علمي وفلسفي محض جاء محمولاً على تغيرات اقتصادية واجتماعية بعينها. أما الإسلام السياسي فما زال في جوهره مشدوداً إلى قيم الإسلام المتعلقة بالتجربة الإسلامية الأولى أو نموذج دولة النبي، ولم تقطع مع هذه القيم ولا تجاوزتها.
فإذا كان أوليفيه رواه ونظراؤه قد شدّدوا على حتمية «تحوّل» الإسلاميين للقبول بقيم الحداثة والاستعاضة عن صناديق الذخيرة بصناديق الاقتراع، فإنهم لا شك كانوا بمعزل عن الاتجاه الارتكاسي لـ «الإخوان» نحو القطبية والتيمية على السواء، في ظاهرة عرفت بـ «تسلُّف الإخوان». حيث إن ما جرى لم يكن كما نصت «النبوءة/ الحتمية» من انزياح جبري تجاه القبول بقيم الحداثة والاندماج في إطار الدولة الحديثة، بل كان اتجاهاً نحو قيم ما قبل الدولة الحديثة ورفض الدولة بشكلها المدني واعتبارها الطاغوت الذي يجب الخروج عليه وتحطيم بناه الاقتصادية والاجتماعية بالكامل. وجدير بالذكر أن التجارب البائسة لـ «الإخوان» في السياسة، التي أجمل بعضها الظواهري في كتابه «الحصاد المر»، دفعت قطاعاً عريضاً من قواعد الجماعة ومن هم خارجها للبحث عن تيار طهوري لم تلوثه السياسة، لتكون السلفية صاحبة الحظ الأوفر في ذلك. فالسلفية التي تتميّز ببساطة طرحها الناجمة عن كونها نصيّة لا تحتمل التأويل، وجدت طريقها لألوان الطيف الإسلامي كافة. و قد عزّز هذا النزوع أيضاً صعود أصولي عام يأخذ المسلمين إلى الأصل المتخيل الذي عاشه السلف الصالح، ويعدهم بالخلاص المتجاوز لطرح «الإسلام هو الحل» إلى حلم «دولة الخلافة» الذي تمظهر داعشياً في سوريا والعراق.
بقي أن نشير الى ان الطابع الاحتجاجي لحركات الاسلام السياسي سواء لجهة النشأة كرد على تصفية مؤسسة الخلافة أو مقارعة دولة ما بعد الاستعمار، ينفي عن هذه الحركات الصبغة العلمية وحتى السياسية التي عرفت بها أحزاب ما بعد المسيحية في الغرب ونظيرتها المشرقية. فهذه الحركات لم تتأسس على موروث علمي أو معطى فلسفي أدى للتنوير ولا على أساس برنامج سياسي واقتصادي واضح المعالم. فالسياسة عند الحركات الإسلامية ليست البرنامج السياسي بقدر ما هي منصة لـ «الدعوة» والتواصل مع الجمهور، أي أنها في خدمة المشروع الدعوي للحركة لا أكثر ولا أقل. ولعل ما يشي بافتقار هذه الحركات للأساس المعرفي الصلب هو ميلها الانتقائي لأسلمة مفاهيم الحداثة كخيار تكتيكي، حتى إذا وصلت سدة الحكم ارتكست قطبياً وتيمياً.
ماذا بعد؟
إذا كانت الأدبيات الماركسية ترى في الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، فلا غرو من الاستعارة اللفظية للزعم بأن «داعش» هو أعلى مراحل الإسلام السياسي على الإطلاق. فـ «داعش» هو مطلق الإسلام السياسي في جميع جوانبه الدعوية والسياسية والاجتماعية والفقهية، وهو منتهى الحلم الذي من أجله ولد الإسلام السياسي أي «الخلافة». ولئن ادعت الحركات التي يُفترض أنها دخلت طور «ما بعد الاسلام السياسي» العداء لـ «داعش»، إلا أن هناك من المؤشرات ما يشي بكون هذا الموقف إعلامياً تارة ولخطب ودّ الغرب تارة أخرى. وليس ادل على ذلك من موقف «العدالة والتنمية» من «داعش»، وهو الحزب الذي عبر من «إخوانيته» نحو «ما بعدية» روا وحتى «تقدمية» اليكسندر اريفيانتو. والإشارة إلى «العدالة والتنمية» قد تنسحب بصورة متفاوتة على باقي الأحزاب الاسلامية، التي يتراوح تعاطيها مع الظاهرة الداعشية بين التبرير المشفوع بطرح نفسها كبديل معتدل محتمل، وبين التعامل معها كهراوة غليظة تهوي بالسلطة القائمة ليكون لها حظوة ملء فراغ السلطة وبنائها.
في يباب «ما بعد داعش»، لن يكون مجدياً بمكان - وإن على مستوى التنظير - البحث عن حلول أو مستقبل واعد من داخل الظاهرة التي آلت إلى ما آل إليه المشرق العربي من غرق في أوحال الدم والإرهاب والتفكك. وسيكون لزاماً علينا إعادة الاعتبار للمشروع النهضوي والاصلاحي الذي حمل بشرى التغيير، والذي أخرجته من الحلبة حركية وشعبوية الإسلام السياسي بعيد انهيار الخلافة العثمانية. وإذا كانت القطيعة المعرفية مع الموروث هي أولى مقدمات الدولة العربية الحديثة، فإن أولى الخطى على درب الجلجلة المودي لتلك القطيعة لن تكون إلا من بوابة الإصلاح الديني الحقيقي. إصلاح باتت الحاجة له ذات طابع وجودي أمام انفلاش إرهابي يتغذى بالمقدس ويهدد وجودنا الحضاري بل حتى الإنساني ككل.