حرب باردة في القطب الشمالي.. بقلم: هاني شادي

حرب باردة في القطب الشمالي.. بقلم: هاني شادي

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٨ أكتوبر ٢٠١٦

في ظل التوتر في العلاقات الروسية ـ الأميركية بشأن الأزمتين الروسية والأوكرانية والخلافات بين الطرفين بصدد الدرع الصاروخية الأميركية «الأطلسية» وغير ذلك من خلافات تتعلق ببعض القضايا النووية، باتت منطقة القطب الشمالي مرشحة هي الأخرى لمشهد من مشاهد حرب باردة جديدة بين موسكو وواشنطن. فقد أعلنت النروج مؤخراً أنها ستنشر في العام القادم كتيبة أميركية من مشاة البحرية في أراضيها. وتشير مصادر روسية إلى أن هذه الكتيبة ستتكون في الأساس من قوات عسكرية خاصة للقيام بمهام في مؤخرة القوات الروسية. ولا تستبعد هذه المصادر إمكانية نشر نحو 15 ألفاً من مشاة البحرية الأميركية في منشآت سرية بالنروج. ويعتبر خبراء عسكريون روس أن هذا الوجود العسكري الأميركي يمثل تهديداً لأمن روسيا القومي، غير مستبعدين أن تقترب القوات الأميركية في النروج من القواعد العسكرية البحرية لأسطول الشمال الروسي، حيث تُرابط الغواصات النووية الروسية المُزودة بالأسلحة النووية. فبجانب قيام واشنطن بحشد وتوسيع نطاق وجودها العسكري في البلطيق وبلدان أوروبا الشرقية، يتكهن الروس بأنها ستُوسع أيضاً قدراتها العسكرية في منطقة القطب الشمالي. علماً بأن أيسلندا وقّعت كذلك مع الولايات المتحدة صيف العام الجاري اتفاقية تقضي بنشر قوات أميركية في قاعدة جوية في أراضيها. والهدف المُعلن من هذه الخطوة هو السماح للقوات الأميركية بتقوية وتعزيز دفاعات ايسلندا وضمان الأمن في «المياه الاقليمية لحلف شمال الأطلسي».
من المعروف أن روسيا باتت تتعامل خلال السنوات الأخيرة مع مسألة القطب الشمالي، الغنية بالموارد الطبيعية وغيرها، على أنها مسألة صراع مُحتمل يتعلق بأمنها القومي وأمنها الاقتصادي لسنوات مقبلة. فقبل عامين، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين دون مواربة «أن أركتيكا تلعب دوراً مهماً في ضمان الأمن القومي الروسي، مشيراً إلى حشد الغواصات الأميركية بالقرب من شواطئ النروج، ومنوهاً بأن مدة وصول الصواريخ الأميركية من هذه الغواصات حتى موسكو تتراوح بين 15 ـ 16 دقيقة». وشدد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، قبل أسبوع، على أن المنشآت العسكرية الروسية التي جرى تشييدها في منطقة القطب الشمالي ستدخل الخدمة قبل نهاية العام الجاري. وكانت روسيا قد أقرت ما يسمى «خطة 2016 ـ 2020» لتشكيل وحدات عسكرية تهدف إلى ضمان أمنها في تلك المنطقة. فبجانب تشييد قواعد عسكرية هناك، تقرر تقوية منظومة الدفاع الجوي الروسي أيضاً. وشهدت نهاية العام الماضي تشكيل الجيش «رقم 45» للقوات الجوية والدفاع الجوي في أسطول الشمال الروسي، حيث بدأت ترابط وحدات من القوات الالكترونية وصواريخ الدفاع الجوي المُحدثة من نوع «أس ـ 300 فافوريت».
إن المصالح المُتعارضة في منطقة القطب الشمالي تتسم بمزيد من التعقيد لغياب اتفاق شامل بين الأطراف المتصارعة، وغياب نية التوصل إلى مثل هذا الاتفاق في الوقت الراهن أو في المستقبل القريب. وتسعى موسكو إلى الحصول على الاعتراف الدولي بملكيتها لأجزاء من المحيط المتجمد الشمالي تبلغ مساحتها 1.2 مليون كيلومتر مربع، تعتقد أنها غنية بموارد الطاقة من نفط وغاز. وكانت بعثة روسية نصبت العلم الروسي في قاع المحيط المتجمد الشمالي في العام 2007، في إطار السعي إلى إظهار حقوق روسيا في أجزاء معينة من هذه المنطقة. وتُشير بعض التقديرات إلى أن الجرف القاري للمحيط المتجمد الشمالي يضم حوالي 25 في المئة من احتياطات بحار العالم من موارد الطاقة. أما التقديرات الروسية، فتشير إلى تركُز ما بين 70 و80 في المئة من مجمل احتياطيات منطقة المحيط المتجمد الشمالي من النفط والغاز في القسم الروسي. ولذلك، فقد أعلن مجلس الأمن القومي في روسيا العام 2010 عن استراتيجية جديدة تقضي بتشكيل قوة عسكرية لحماية مصالح روسيا في المنطقة القطبية الشمالية. وتتوقع هذه الاستراتيجية أن تُصبح هذه المنطقة المصدر الرئيس للنفط والغاز في روسيا خلال السنوات المقبلة. ويتعلق الصراع على القطب الشمالي كذلك بما ينجم عن ارتفاع حرارة المناخ من جعل الطرق البحرية الشمالية مفتوحة للملاحة خلال فترات أطول من السنة، أي أن الأمر يتعلق أيضاً بطرق المواصلات والتجارة.
يُقابَل التحرك الروسي بمنافسة شرسة من قبل الولايات المتحدة وكندا والدنمارك والنروج، التي تمتلك جميعها شريطاً ساحلياً مع القطب الشمالي وتدعي سيادتها على أجزاء منه. وكانت الولايات المتحدة وكندا قد أرسلتا في السنوات السابقة بعثة مشتركة إلى المنطقة لجمع معلومات تؤكد حقهما في أجزاء من هذه المنطقة. ويتعقد الوضع أكثر لأن عدد الدول التي تقف عند أبواب القطب الشمالي أكبر بصورة ملحوظة من عدد الدول المطلة على ساحاته الجليدية. فالصين هي الأخرى بدأت تتوجه إلى المنطقة استعداداً للمشاركة في تقاسم الثروات الطبيعية الهائلة هناك، حيث وجهت إلى «أركتيكا» أكبر كاسحة جليد مُطورة غير نووية في العالم. ولا تدعي الصين بوجود حقوق قانونية لها على أي جزء من أجزاء القطب الشمالي، لكنها تنتظر اتفاق الدول المطلّة عليه كي تستفيد من النفط والغاز فيه. وفي هذا الصراع الدائر، ترى واشنطن أن ايسلندا والسويد وفنلندا لها الحقوق ذاتها في الموارد الكامنة في المحيط القطبي الشمالي.
هكذا، لا يمكن استبعاد أن تُصبح منطقة القطب الشمالي حلبة مستقبلية لتصادم المصالح الاستراتيجية بين روسيا والولايات المتحدة. ويمكن أن يُضاف مثل هذا الصراع إلى الصراع الجيوسياسي الراهن والعلاقات المُعقدة بين موسكو وواشنطن. كل هذا دفع ببعض المراقبين الروس والغربيين إلى التكهن باحتمال تطور الخلاف حول ثروات هذه المنطقة مستقبلاً إلى صراع مسلح أو إلى مشهد من مشاهد حرب باردة جديدة بين البلدين. فما يجري حول القطب الشمالي حاليا يُنذر، بدرجة كبيرة، بعسكرة هذه المنطقة من قبل الطرفين الأميركي والروسي. ويحضُرنا، هنا، ما أكده وزير الدفاع الروسي في العام الماضي من أن «الوجود العسكري الروسي الدائم في القطب الشمالي وإمكانية حماية المصالح الوطنية الروسية بالوسائل المسلحة يعتبر جزءاً أساسياً من سياسة ضمان الأمن القومي الروسي».